الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
وأما ما قيل من الحجج النقلية الواهية ، فمنها قوله تعالى : ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) ووجه الاحتجاج بها أن الله تعالى أوجب الإنذار على كل طائفة من فرقة خرجت للتفقه في الدين عند رجوعهم إلى قومهم بقوله تعالى : ( ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ) >[1] أمر بالإنذار ، والإنذار هو الإخبار >[2] والأمر للوجوب .

وإنما أمر بالإنذار طلبا للحذر بدليل قوله تعالى : ( لعلهم يحذرون ) و ( لعل ) ظاهرة في الترجي >[3] وهو مستحيل في حق الله تعالى ، فتعين حمل ذلك على ما هو ملازم للترجي ، وهو الطلب ، فكان الأمر بالإنذار طلبا للتحذير ، فكان أمرا بالتحذير فكان الحذر واجبا .

وإذا ثبت أن إخبار كل طائفة موجب للحذر ، فالمراد من لفظ " الطائفة " إنما هو العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر . وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن لفظ الطائفة قد يطلق على عدد لا ينتهي إلى حد التواتر ، كالاثنين والثلاثة وعلى العدد المنتهي إلى حد التواتر ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ويجب اعتقاد اتحاد المسمى ؛ نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ .

والقدر المشترك لا يخرج عن العدد القليل وما لازمه ، فكان هو المسمى .

[ ص: 57 ] الثاني : أن الثلاثة فرقة ، فالطائفة الخارجة منها إما واحد أو اثنان .

الثالث : أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من لفظ " الطائفة " التي وجب عليها الخروج للتفقه والإنذار العدد الذي ينتهي إلى حد التواتر ، أو ما دونه لا جائز أن يقال بالأول ، وإلا لوجب على كل طائفة وأهل بلدة ، إذا كان ما دونهم لا ينتهون إلى حد التواتر ، أن يخرجوا بأجمعهم للتفقه والإنذار ، وذلك لا قائل به في عصر النبي ، ولا في عصر من بعده فلم يبق غير الثاني .

وإذا ثبت أن إخبار العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر حجة موجبة في هذه الصورة ، لزم أن يكون حجة في غيرها ؛ ضرورة أن لا قائل بالفرق وذلك هو المطلوب ، ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه أوجب الإنذار على كل طائفة كما ذكرتموه .

وصيغة قوله : ( لينذروا ) لا نسلم أنها للأمر >[4] .

وإن كانت للأمر فلا نسلم للوجوب على ما يأتي >[5] .

سلمنا أنها للوجوب ، ولكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار ، بل أمكن أن يكون المراد به التخويف من فعل شيء أو تركه ، بناء على العلم بما فيه من المصلحة أو المفسدة . والتخويف خارج عن الإخبار >[6] .

[ ص: 58 ] سلمنا أن المراد به الإخبار ، ولكن أمكن أن يكون ذلك بطريق الفتوى في الفروع والأصول >[7] ونحن نقول به .

سلمنا أن المراد به الإخبار عن الرسول بما سمع عنه ومنه ، ولكن لا نسلم أنه يلزم من إيجاب الإخبار بذلك إيجاب الحذر على من أخبر >[8] .

قولكم يجب حمل قوله تعالى : ( لعل ) على طلب الحذر لكونه ملازما للترجي .

قلنا : الطلب الملازم للترجي الطلب الذي هو بمعنى ميل النفس أو بمعنى الأمر ، الأول مسلم ولكنه مستحيل في حق الله تعالى .

والثاني ممنوع ، وإذا لم يكن الحذر مأمورا به لا يكون واجبا >[9] .

ومع تطرق هذه الاحتمالات فالاستدلال بالآية على كون خبر الواحد حجة في خارج عن باب الظنون فيما هو من جملة الأصول ، والخصم مانع لصحته >[10] .

ومنها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) ووجه الاحتجاج بهذه الآية من وجهين ؛ الأول : أنه علق وجوب التثبت على خبر الفاسق ، فدل على أن الفاسق بخلافه ، وذلك إما أن يكون بالجزم برده أو بقبوله ، لا جائز أن يقال الأول ، وإلا كان خبر العدل أنزل درجة من خبر الفاسق ، وهو محال فلم يبق غير الثاني ، وهو المطلوب .

الثاني : أن سبب نزول هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ساعيا إلى قوم ، فعاد وأخبر [ ص: 59 ] النبي صلى الله عليه وسلم أن الذين بعثه إليهم قد ارتدوا ، وأرادوا قتله فأجمع النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم وقتلهم .

وذلك حكم شرعي : وكان النبي قد أراد العمل فيه بخبر الواحد ، ولو لم يكن جائزا لما أراده ولأنكره الله تعالى عليه .

وهذه الحجة أيضا ضعيفة ؛ أما الوجه الأول : فلأن الاستدلال بهذه الآية غير خارج عن مفهوم المخالفة ، وسنبين أنه ليس بحجة ، >[11] ، وإن كان حجة ، لكنه حجة ظنية ، فلا يصح الاستدلال به في باب الأصول >[12] .

وأما الوجه الثاني فمن وجهين : الأول لا نسلم أن النبي أجمع على قتلهم وقتالهم بخبر الوليد بن عقبة ، فإنه قد روي أنه بعث خالد بن الوليد وأمره بالتثبت في أمرهم ، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه ، فعادوا إليه وأخبروه بأنهم على الإسلام ، وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا ، أتاهم خالد بن الوليد ورأى ما يعجبه منهم ، فرجع إلى النبي وأخبره بذلك .

الثاني : أن ما ذكروه من سبب النزول من أخبار الآحاد ، فلا يكون حجة في الأصول >[13] .

ومنها قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) ووجه الحجة من ذلك أن المخبر بخبر لنا عن الرسول شاهد على الناس ، ولا يجوز أن يجعله الله شاهدا على الناس ، وهو غير مقبول القول .

ولقائل أن يقول : الآية خطاب مع الأمة لا مع الآحاد ، فلا تكون حجة في محل النزاع .

ومنها قوله تعالى : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ) الآية .

ووجه الحجة بها أن الله تعالى توعد على كتمان الهدى ، وذلك يدل على إيجاب إظهار الهدى ، وما يسمعه الواحد من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الهدى ، فيجب عليه إظهاره ، فلو لم يجب علينا قبوله ، لكان الإظهار كعدمه ، فلا يجب .

[ ص: 60 ] ولقائل أن يقول : يحتمل أن يكون المراد من قوله : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ) العدد الذي تقوم به الحجة ، ويحتمل أنه أراد به ما دون ذلك >[14] .

وبتقدير إرادة ما دون ذلك ، فيحتمل أن يكون المراد بما أنزل من البينات والهدى الكتاب العزيز ، وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم منه عند الإطلاق >[15] وبتقدير أن يكون المراد به كل ما أنزل على الرسول حتى السنة ، فغاية التهديد على كتمان ذلك الدلالة على وجوب إظهار ما سمع من الرسول على من سمعه .

وليس في ذلك ما يدل على وجوب قبوله على من بلغه على لسان الآحاد ، ولهذا فإنه بمقتضى الآية يجب على الفاسق إظهار ما سمعه ، وإن كان لا يجب على سامعه قبوله >[16] .

وذلك لأنه من المحتمل أن يكون وجوب الإظهار على كل واحد واحد ، حتى يتألف من خبر المجموع التواتر المفيد للعلم >[17] .

ومع ذلك كله فدلالة الآية على وجوب قبول خبر الواحد ظنية ، فلا تكون حجة في الأصول لما سبق >[18] .

ومنها قوله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) أمر بسؤال أهل الذكر ؛ والأمر للوجوب ، ولم يفرق بين المجتهد وغيره .

وسؤال المجتهد لغيره [ ص: 61 ] منحصر في طلب الإخبار بما سمعه دون الفتوى ، ولو لم يكن القبول واجبا ، لما كان السؤال واجبا .

ولقائل أن يقول : لا نسلم أن قوله : " فاسألوا " صيغة أمر >[19] ، وإن كانت أمرا ، فلا نسلم أنها للوجوب ، كما يأتي .

وإن كانت للوجوب ، فيحتمل أن يكون المراد من أهل الذكر أهل العلم ، وأن يكون المراد من المسئول عنه الفتوى >[20] .

وبتقدير أن يكون المراد السؤال عن الخبر ، فيحتمل أن يكون المراد من السؤال العلم بالمخبر عنه وهو الظاهر >[21] وذلك لأنه أوجب السؤال عند عدم العلم .

فلو لم يكن المطلوب حصول العلم بالسؤال ، لكان السؤال واجبا بعد حصول خبر الواحد >[22] ، لعدم حصول العلم بخبره ، فإنه لا يفيد غير الظن .

وذلك يدل على أن العمل بخبر غير واجب ؛ لأنه لا قائل بوجوب العمل بخبره مع وجوب السؤال عن غيره .

وإذا كان المطلوب إنما هو حصول العلم من السؤال ، فذلك إنما يتم بخبر التواتر ، لا بما دونه .

وإن سلمنا أن السؤال واجب على الإطلاق ، فلا يلزم أن يكون العمل بخبر الواحد واجبا ، بدليل ما ذكرناه في الحجة المتقدمة >[23] .

[ ص: 62 ] وبتقدير دلالة ذلك على وجوب القبول ، لكنها دلالة ظنية ، فلا يحتج بها في الأصول .

ومنها قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ) أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله ، والأمر للوجوب .

ومن أخبر عن الرسول بما سمعه منه ، فقد قام بالقسط وشهد لله ، فكان ذلك واجبا عليه ، وإنما يكون ذلك واجبا إن لو كان القبول واجبا ، وإلا كان وجود الشهادة كعدمها ، وهو ممتنع .

ولقائل أن يقول : لا أسلم دلالة الآية على وجوب القيام بالقسط والشهادة لله على ما يأتي ، وإن سلمنا دلالتها على وجوب ذلك ، غير أنا نقول بموجب الآية ، فإن الشهادة لله والقيام بالقسط إنما يكون فيما يجوز العمل به .

وأما ما لا يجوز العمل به فلا يكون قياما بالقسط ولا شهادة لله ، وعند ذلك فيتوقف العمل بالآية في وجوب قبول خبر الواحد .

على أنه قام بالقسط وأنه شاهد لله ، وقيامه بالقسط وشهادته لله متوقف على قبول خبره وجواز العمل به ، وهو دور ممتنع .

وإن سلمنا أنه شهد لله وقام بالقسط ، ولكن لا نسلم أنه واجب القبول ؛ ودليله ما سبق ، وبتقدير دلالة الآية على وجوب القبول ، ولكن لجهة الظن فلا يصح >[24] .

التالي السابق


الخدمات العلمية