وأما ما قيل من الحجج النقلية الواهية ، فمنها قوله تعالى : (  
فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون     ) ووجه الاحتجاج بها أن الله تعالى أوجب الإنذار على كل طائفة من فرقة خرجت للتفقه في الدين عند رجوعهم إلى قومهم بقوله تعالى : (  
ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم     )  
>[1] أمر بالإنذار ، والإنذار هو الإخبار  
>[2] والأمر للوجوب .  
وإنما أمر بالإنذار طلبا للحذر بدليل قوله تعالى : (  
لعلهم يحذرون     ) و ( لعل ) ظاهرة في الترجي  
>[3] وهو مستحيل في حق الله تعالى ، فتعين حمل ذلك على ما هو ملازم للترجي ، وهو الطلب ، فكان الأمر بالإنذار طلبا للتحذير ، فكان أمرا بالتحذير فكان الحذر واجبا .  
وإذا ثبت أن إخبار كل طائفة موجب للحذر ، فالمراد من لفظ " الطائفة " إنما هو العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر . وبيانه من ثلاثة أوجه :  
الأول : أن لفظ الطائفة قد يطلق على عدد لا ينتهي إلى حد التواتر ، كالاثنين والثلاثة وعلى العدد المنتهي إلى حد التواتر ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ويجب اعتقاد اتحاد المسمى ؛ نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ .  
والقدر المشترك لا يخرج عن العدد القليل وما لازمه ، فكان هو المسمى .   
[ ص: 57 ] الثاني : أن الثلاثة فرقة ، فالطائفة الخارجة منها إما واحد أو اثنان .  
الثالث : أنه لا يخلو إما أن يكون المراد من لفظ " الطائفة " التي وجب عليها الخروج للتفقه والإنذار العدد الذي ينتهي إلى حد التواتر ، أو ما دونه لا جائز أن يقال بالأول ، وإلا لوجب على كل طائفة وأهل بلدة ، إذا كان ما دونهم لا ينتهون إلى حد التواتر ، أن يخرجوا بأجمعهم للتفقه والإنذار ، وذلك لا قائل به في عصر النبي ، ولا في عصر من بعده فلم يبق غير الثاني .  
وإذا ثبت أن إخبار العدد الذي لا ينتهي إلى حد التواتر حجة موجبة في هذه الصورة ، لزم أن يكون حجة في غيرها ؛ ضرورة أن لا قائل بالفرق وذلك هو المطلوب ، ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه أوجب الإنذار على كل طائفة كما ذكرتموه .  
وصيغة قوله : ( لينذروا ) لا نسلم أنها للأمر  
>[4]    .  
وإن كانت للأمر فلا نسلم للوجوب على ما يأتي  
>[5]    .  
سلمنا أنها للوجوب ، ولكن لا نسلم أن الإنذار هو الإخبار ، بل أمكن أن يكون المراد به التخويف من فعل شيء أو تركه ، بناء على العلم بما فيه من المصلحة أو المفسدة . والتخويف خارج عن الإخبار  
>[6]    .   
[ ص: 58 ] سلمنا أن المراد به الإخبار ، ولكن أمكن أن يكون ذلك بطريق الفتوى في الفروع والأصول  
>[7] ونحن نقول به .  
سلمنا أن المراد به الإخبار عن الرسول بما سمع عنه ومنه ، ولكن لا نسلم أنه يلزم من إيجاب الإخبار بذلك إيجاب الحذر على من أخبر  
>[8]    .  
قولكم يجب حمل قوله تعالى : ( لعل ) على طلب الحذر لكونه ملازما للترجي .  
قلنا : الطلب الملازم للترجي الطلب الذي هو بمعنى ميل النفس أو بمعنى الأمر ، الأول مسلم ولكنه مستحيل في حق الله تعالى .  
والثاني ممنوع ، وإذا لم يكن الحذر مأمورا به لا يكون واجبا  
>[9]    .  
ومع تطرق هذه الاحتمالات فالاستدلال بالآية على كون خبر الواحد حجة في خارج عن باب الظنون فيما هو من جملة الأصول ، والخصم مانع لصحته  
>[10]    .  
ومنها قوله تعالى : (  
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا     ) ووجه الاحتجاج بهذه الآية من وجهين ؛ الأول : أنه علق وجوب التثبت على خبر الفاسق ، فدل على أن الفاسق بخلافه ، وذلك إما أن يكون بالجزم برده أو بقبوله ، لا جائز أن يقال الأول ، وإلا كان خبر العدل أنزل درجة من خبر الفاسق ، وهو محال فلم يبق غير الثاني ، وهو المطلوب .  
الثاني : أن سبب نزول هذه الآية  
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث   nindex.php?page=showalam&ids=292الوليد بن عقبة بن أبي معيط  ساعيا إلى قوم ، فعاد وأخبر      [ ص: 59 ] النبي صلى الله عليه وسلم أن الذين بعثه إليهم قد ارتدوا ، وأرادوا قتله فأجمع النبي صلى الله عليه وسلم على غزوهم وقتلهم     .  
وذلك حكم شرعي : وكان النبي قد أراد العمل فيه بخبر الواحد ، ولو لم يكن جائزا لما أراده ولأنكره الله تعالى عليه .  
وهذه الحجة أيضا ضعيفة ؛ أما الوجه الأول : فلأن الاستدلال بهذه الآية غير خارج عن مفهوم المخالفة ، وسنبين أنه ليس بحجة ،  
>[11] ، وإن كان حجة ، لكنه حجة ظنية ، فلا يصح الاستدلال به في باب الأصول  
>[12]    .  
وأما الوجه الثاني فمن وجهين : الأول لا نسلم أن النبي أجمع على قتلهم وقتالهم بخبر  
 nindex.php?page=showalam&ids=292الوليد بن عقبة  ، فإنه قد روي  
أنه بعث   nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد  وأمره بالتثبت في أمرهم ، فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه ، فعادوا إليه وأخبروه بأنهم على الإسلام ، وأنهم سمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا ، أتاهم   nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد  ورأى ما يعجبه منهم ، فرجع إلى النبي وأخبره بذلك     .  
الثاني : أن ما ذكروه من سبب النزول من  
أخبار الآحاد  ، فلا يكون حجة في الأصول  
>[13]    .  
ومنها قوله تعالى : (  
وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس     ) ووجه الحجة من ذلك أن المخبر بخبر لنا عن الرسول شاهد على الناس ، ولا يجوز أن يجعله الله شاهدا على الناس ، وهو غير مقبول القول .  
ولقائل أن يقول : الآية خطاب مع الأمة لا مع الآحاد ، فلا تكون حجة في محل النزاع .  
ومنها قوله تعالى : (  
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى     ) الآية .  
ووجه الحجة بها أن الله تعالى توعد على كتمان الهدى ، وذلك يدل على إيجاب إظهار الهدى ، وما يسمعه الواحد من النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الهدى ، فيجب عليه إظهاره ، فلو لم يجب علينا قبوله ، لكان الإظهار كعدمه ، فلا يجب .   
[ ص: 60 ] ولقائل أن يقول : يحتمل أن يكون المراد من قوله : (  
إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى     ) العدد الذي تقوم به الحجة ، ويحتمل أنه أراد به ما دون ذلك  
>[14]    .  
وبتقدير إرادة ما دون ذلك ، فيحتمل أن يكون المراد بما أنزل من البينات والهدى الكتاب العزيز ، وهو الظاهر المتبادر إلى الفهم منه عند الإطلاق  
>[15] وبتقدير أن يكون المراد به كل ما أنزل على الرسول حتى السنة ، فغاية التهديد على كتمان ذلك الدلالة على وجوب إظهار ما سمع من الرسول على من سمعه .  
وليس في ذلك ما يدل على وجوب قبوله على من بلغه على لسان الآحاد ، ولهذا فإنه بمقتضى الآية يجب على الفاسق إظهار ما سمعه ، وإن كان لا يجب على سامعه قبوله  
>[16]    .  
وذلك لأنه من المحتمل أن يكون وجوب الإظهار على كل واحد واحد ، حتى يتألف من خبر المجموع التواتر المفيد للعلم  
>[17]    .  
ومع ذلك كله فدلالة الآية على وجوب قبول خبر الواحد ظنية ، فلا تكون حجة في الأصول لما سبق  
>[18]    .  
ومنها قوله تعالى : (  
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون     ) أمر بسؤال أهل الذكر ؛ والأمر للوجوب ، ولم يفرق بين المجتهد وغيره .  
وسؤال المجتهد لغيره      
[ ص: 61 ] منحصر في طلب الإخبار بما سمعه دون الفتوى ، ولو لم يكن القبول واجبا ، لما كان السؤال واجبا .  
ولقائل أن يقول : لا نسلم أن قوله : " فاسألوا " صيغة أمر  
>[19] ، وإن كانت أمرا ، فلا نسلم أنها للوجوب ، كما يأتي .  
وإن كانت للوجوب ، فيحتمل أن يكون المراد من أهل الذكر أهل العلم ، وأن يكون المراد من المسئول عنه الفتوى  
>[20]    .  
وبتقدير أن يكون المراد السؤال عن الخبر ، فيحتمل أن يكون المراد من السؤال العلم بالمخبر عنه وهو الظاهر  
>[21] وذلك لأنه أوجب السؤال عند عدم العلم .  
فلو لم يكن المطلوب حصول العلم بالسؤال ، لكان السؤال واجبا بعد حصول خبر الواحد  
>[22] ، لعدم حصول العلم بخبره ، فإنه لا يفيد غير الظن .  
وذلك يدل على أن العمل بخبر غير واجب ؛ لأنه لا قائل بوجوب العمل بخبره مع وجوب السؤال عن غيره .  
وإذا كان المطلوب إنما هو حصول العلم من السؤال ، فذلك إنما يتم بخبر التواتر ، لا بما دونه .  
وإن سلمنا أن السؤال واجب على الإطلاق ، فلا يلزم أن يكون العمل بخبر الواحد واجبا ، بدليل ما ذكرناه في الحجة المتقدمة  
>[23]    .   
[ ص: 62 ] وبتقدير دلالة ذلك على وجوب القبول ، لكنها دلالة ظنية ، فلا يحتج بها في الأصول .  
ومنها قوله تعالى : (  
يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله     ) أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله ، والأمر للوجوب .  
ومن أخبر عن الرسول بما سمعه منه ، فقد قام بالقسط وشهد لله ، فكان ذلك واجبا عليه ، وإنما يكون ذلك واجبا إن لو كان القبول واجبا ، وإلا كان وجود الشهادة كعدمها ، وهو ممتنع .  
ولقائل أن يقول : لا أسلم دلالة الآية على وجوب القيام بالقسط والشهادة لله على ما يأتي ، وإن سلمنا دلالتها على وجوب ذلك ، غير أنا نقول بموجب الآية ، فإن الشهادة لله والقيام بالقسط إنما يكون فيما يجوز العمل به .  
وأما ما لا يجوز العمل به فلا يكون قياما بالقسط ولا شهادة لله ، وعند ذلك فيتوقف العمل بالآية في وجوب قبول خبر الواحد .  
على أنه قام بالقسط وأنه شاهد لله ، وقيامه بالقسط وشهادته لله متوقف على قبول خبره وجواز العمل به ، وهو دور ممتنع .  
وإن سلمنا أنه شهد لله وقام بالقسط ، ولكن لا نسلم أنه واجب القبول ؛ ودليله ما سبق ، وبتقدير دلالة الآية على وجوب القبول ، ولكن لجهة الظن فلا يصح  
>[24]    .