الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
فإن قيل : ما ذكرتموه من الأخبار في إثبات كون خبر الواحد حجة أخبار آحاد ، وذلك يتوقف على كونها حجة ، وهو دور ممتنع .

[ ص: 67 ] سلمنا عدم الدور ، ولكن لا نسلم أن الصحابة عملوا بها ، بل من الجائز أنهم عملوا بنصوص متواترة أو بها مع ما اقترن بها من المقاييس ، أو قرائن الأحوال ، أو غير ذلك من الأسباب .

سلمنا أنهم عملوا بها لا غير ، لكن كل الصحابة أو بعضهم ، الأول ممنوع ولا سبيل إلى الدلالة عليه ، والثاني مسلم ، لكن لا حجة فيه .

قولكم لم يوجد له نكير ، لا نسلم ذلك ، وبيانه من وجوه : منها رد أبي بكر خبر المغيرة في ميراث الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة .

ومنها رد أبي بكر وعمر خبر عثمان في إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في رد الحكم بن أبي العاص .

ومنها رد عمر خبر أبي موسى الأشعري في الاستئذان ، وهو قوله : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا استأذن أحدكم على صاحبه ثلاثا فلم يؤذن له ، فلينصرف " حتى روى معه أبو سعيد الخدري .

ومنها رد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في المفوضة ، وأنه كان لا يقبل خبر أحد حتى يحلفه ، سوى أبي بكر .

ومنها رد عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه .

سلمنا عدم الرد والإنكار ظاهرا ، غير أن سكوت الباقين عن الإنكار لا يدل على الموافقة لما سبق في مسائل الإجماع .

سلمنا دلالة ذلك على الموافقة فيما تلقوه >[1] بالقبول ، وعملوا بموجبه ، أو مطلقا في كل خبر ، الأول مسلم ، وذلك لأن اتفاقهم عليه يدل على صحته قطعا ، نفيا للخطأ عن الإجماع ، والثاني ممنوع .

وعلى هذا فيمتنع الاستدلال بكل خبر لم يقبلوه .

[ ص: 68 ] سلمنا دلالة ما ذكرتموه على كون خبر الواحد حجة ، لكنه معارض بما يدل على أنه ليس بحجة ، وبيانه من جهة المعقول والمنقول ، أما المنقول ، فمن جهة الكتاب والسنة .

أما الكتاب : فقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، وقوله تعالى : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ، وقوله تعالى : ( إن يتبعون إلا الظن ) ذكر ذلك في معرض الذم ، والعمل بخبر الواحد عمل بغير علم وبالظن ، فكان ممتنعا >[2] .

وأما السنة ، فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه توقف في خبر ذي اليدين حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم عن اثنتين ، وهو قوله : ( أقصرت الصلاة أم نسيت ) حتى أخبر أبو بكر وعمر ومن كان في الصف بصدقه ، فأتم وسجد للسهو .

وأما المعقول فمن وجوه :

الأول : أنه لو جاز التعبد بخبر الواحد إذا ظن صدقه في الفروع ، لجاز ذلك في الرسالة والأصول ، وهو ممتنع >[3] .

الثاني : أن الأصل براءة الذمة من الحقوق والعبادات وتحمل المشاق ، وهو مقطوع به ، فلا تجوز مخالفته بخبر الواحد مع كونه مظنونا .

الثالث : أن العمل بخبر الواحد يفضي إلى ترك العمل بخبر الواحد ؛ لأنه ما من خبر إلا ويجوز أن يكون معه خبر آخر مقابل له .

الرابع : أن قبول خبر الواحد تقليد لذلك الواحد ، فلا يجوز للمجتهد ذلك ، كما لا يجوز تقليده لمجتهد آخر .

والجواب عن السؤال الأول أن ما ذكرناه من الأخبار ، وإن كانت آحادها آحادا ، فهي متواترة من جهة الجملة ، كالأخبار الواردة بسخاء حاتم وشجاعة عنترة .

وعن الثاني : أنهم لو عملوا بغير الأخبار المروية ، لكانت العادة تحيل تواطؤهم على عدم نقله ، ولا سيما في موضع الإشكال وظهور استنادهم في العمل إلى ما ظهر [ ص: 69 ] من الأخبار .

كيف والمنقول عنهم خلاف ذلك حيث قال عمر : ( لو لم نسمع هذا لقضينا فيه بغير هذا ، وقول ابن عمر ( حتى روى لنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ، فانتهينا ) وكذلك ما ظهر منهم من رجوعهم إلى خبر عائشة في التقاء الختانين إلى غير ذلك ، وجدهم في طلب الأخبار والسؤال عنها عند وقوع الوقائع دليل العمل بها .

وعن الثالث : أن عمل بعض الصحابة ، بل الأكثر من المجتهدين منهم بأخبار الآحاد مع سكوت الباقين عن النكير دليل الإجماع على ذلك ، كما سبق تقريره في مسائل الإجماع .

وما رووه >[4] من الأخبار أو توقفوا فيه إنما كان لأمور اقتضت ذلك من وجود معارض أو فوات شرط ، لا لعدم الاحتجاج بها في جنسها ، مع كونهم متفقين على العمل بها .

ولهذا أجمعنا على أن ظواهر الكتاب والسنة حجة ، وإن جاز تركها والتوقف فيها لأمور خارجة عنها .

وعن الرابع : أن اتفاقهم على العمل بخبر الواحد إنما يوجب العلم بصدقه ، أن لو لم يكونوا متعبدين باتباع الظن ، وليس كذلك ، بدليل تعبدهم باتباع ظواهر الكتاب والسنة المتواترة ، والعمل بالقياس على ما يأتي .

وإذا كان اتباعهم لخبر الواحد ، لكونه ظنيا مضبوطا بالعدالة ، كان خبر الواحد من تلك الجهة حجة معمولا بها ؛ ضرورة بالاتفاق عليه من تلك الجهة ، وذلك يعم خبر كل عدل .

وأما المعارضة بالآيات فجوابها ما سبق في بيان جواز التعبد بخبر الواحد عقلا .

وعن السنة ، أنه عليه السلام إنما توقف في خبر ذي اليدين لتوهمه غلطه لبعد انفراده بمعرفة ذلك دون من حضره من الجمع الكثير .

ومع ظهور أمارة الوهم في خبر الواحد يجب التوقف فيه >[5] فحيث وافقه الباقون على ذلك ، ارتفع حكم الأمارة الدالة على وهم ذي اليدين ، وعمل بموجب خبره .

كيف وإن [ ص: 70 ] عمل النبي صلى الله عليه وسلم بخبر أبي بكر وعمر وغيرهما ، مع خبر ذي اليدين عمل بخبر لم ينته إلى حد التواتر ، وهو موضع النزاع ، وفي تسليمه تسليم المطلوب .

وعن المعارضة الأولى من المعقول أنها منتقضة بخبر الواحد في الفتوى والشهادة .

كيف والفرق حاصل . وذلك أن المشترط في إثبات الرسالة والأصول الدليل القطعي ، فلم يكن الدليل الظني معتبرا فيها ، بخلاف الفروع >[6] .

وعن الثانية من وجهين :

الأول : أن براءة الذمة غير مقطوع بها بعد الوجود والتكليف في نفس الأمر . بل الشغل محتمل وإن لم يظهر لنا سبب الشغل ، فمخالفة براءة الذمة بخبر الواحد لا يكون رفع مقطوع بمظنون .

الثاني : أنه منتقض بالشهادة والفتوى .

وعن الثالث : أن تجويز وجود خبر معارض للخبر الذي ظهر لا يمنع من الاحتجاج به ، وإلا لما ساغ التمسك بدليل من ظواهر الكتاب والسنة المتواترة ؛ لأنه ما من واحد منها إلا ويجوز ورود ناسخ له أو مخصص له ، بل ولما جاز التمسك بدليل مستنبط معارض له >[7] ، ولما ساغ أيضا للقاضي الحكم بشهادة الشاهدين ، ولا للعامي الأخذ بفتوى المجتهد له ، لجواز وجود ما يعارضه ، وذلك خلاف الإجماع .

وعن الرابع : أنه إنما لم يجز تقليد العالم للعالم ، لاستوائهما في درجة الاجتهاد ، وليس تقليد أحدهما للآخر أولى من العكس ، ولا كذلك المجتهد مع الراوي ، فإنهما لم يستويا في معرفة ما استبد بمعرفته الراوي من الخبر فلذلك وجب عليه تقليده فيما رواه .

وبالجملة فالاحتجاج بمسلك الإجماع في هذه المسألة غير خارج عن مسالك الظنون وإن كان التمسك به أقرب مما سبق من المسالك .

[ ص: 71 ] وعلى هذا فمن اعتقد كون المسألة قطعية ، فقد تعذر عليه النفي والإثبات لعدم مساعدة الدليل القاطع على ذلك .

ومن اعتقد كونها ظنية فليتمسك بما شاء من المسالك المتقدمة ، ( والله أعلم بالصواب ) >[8] .

التالي السابق


الخدمات العلمية