الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 35 ] المسألة الأولى

في الأسماء الشرعية

>[1] ولا شك في إمكانها ; إذ لا إحالة في وضع الشارع اسما من أسماء أهل اللغة ، أو من غير أسمائهم على معنى يعرفونه أو لا يعرفونه ، لم يكن موضوعا لأسمائهم . فإن دلالات الأسماء على المعاني ليست لذواتها ولا الاسم واجب للمعنى ، بدليل انتفاء الاسم قبل التسمية وجواز إبدال البياض بالسواد في ابتداء الوضع ، وكما في أسماء الأعلام والأسماء الموضوعة لأرباب الحرف والصناعات لأدواتهم وآلاتهم .

وإنما الخلاف نفيا وإثباتا في الوقوع ، والحجاج هاهنا مفروض فيما استعمله الشارع من أسماء أهل اللغة كلفظ الصوم والصلاة ، هل خرج به عن وضعهم أم لا ؟

فمنع القاضي أبو بكر من ذلك ، وأثبته المعتزلة والخوارج والفقهاء .

احتج القاضي بمسلكين :

الأول : أن الشارع لو فعل ذلك لزمه تعريف الأمة بالتوقيف نقل >[2] تلك الأسامي وإلا كان مكلفا لهم بفهم مراده من تلك الأسماء وهم لا يفهمونه ، وهو تكليف بما لا يطاق ، والتوقيف الوارد في مثل هذه الأمور لا بد وأن يكون متواترا لعدم قيام الحجة بالآحاد فيها ولا تواتر .

وهذه الحجة غير مرضية ، أما أولا فلأنها مبنية على امتناع التكليف بما لا يطاق وهو فاسد >[3] على ما عرف من أصول أصحابنا القائلين بخلافه في هذه [ ص: 36 ] المسألة ، وإن كان ذلك ممتنعا عند المعتزلة ، وبتقدير امتناع التكليف بما لا يطاق إنما يكون هذا تكليفا بما لا يطاق ; إذ >[4] لو كلفهم بفهمها قبل تفهيمهم ، وليس كذلك .

قوله : التفهيم ، إنما يكون بالنقل ، لا نسلم ، وما المانع أن يكون تفهيمهم بالتكرير والقرائن المتضافرة مرة بعد مرة ، كما يفعل الوالدان بالولد الصغير والأخرس في تعريفه لما في ضميره لغيره بالإشارة .

المسلك الثاني : أن هذه الألفاظ قد اشتمل عليها القرآن ، فلو كانت مفيدة لغير مدلولاتها في اللغة لما كانت من لسان أهل اللغة كما لو قال : " أكرم العلماء " وأراد به الجهال أو الفقراء ، وذلك لأن كون اللفظ عربيا ليس لذاته وصورته ، بل لدلالته على ما وضعه أهل اللغة بإزائه ، وإلا كانت جميع ألفاظهم قبل التواضع عليها عربية ، وهو ممتنع ويلزم من ذلك أن لا يكون القرآن عربيا ، وهو على خلاف قوله تعالى : ( إنا جعلناه قرآنا عربيا ) ، وقوله تعالى : ( بلسان عربي مبين ) ، وقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ) وذلك ممتنع وهذا المسلك ضعيف أيضا .

إذ لقائل أن يقول : لا أسلم أنه يلزم من ذلك خروج القرآن عن كونه عربيا ، فإن قيل : لأنه إذا كان مشتملا على ما ليس بعربي فما بعضه عربي وبعضه غير عربي ، لا يكون كله عربيا ، وفي ذلك مخالفة ظواهر النصوص المذكورة .

فيمكن أن يقال : لا نسلم دلالة النصوص على كون القرآن بكليته عربيا ; لأن القرآن قد يطلق على السورة الواحدة منه ، بل على الآية الواحدة كما يطلق على الكل ، ولهذا يصح أن يقال للسورة الواحدة : هذا قرآن ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، ولأن القرآن مأخوذ من الجمع ومنه يقال : قرأت الناقة لبنها في ضرعها إذا جمعته ، وقرأت الماء في الحوض أي جمعته ، والسورة الواحدة فيها معنى الجمع [ ص: 37 ] لتألفها من حروف وكلمات وآيات فصح إطلاق القرآن عليها ، غايته أنا خالفنا هذا في غير الكتاب العزيز ، فوجب العمل بمقتضى هذا الأصل في الكتاب وبعضه ، ولأنه لو حلف أنه لا يقرأ القرآن فقرأ سورة منه حنث ، ولو لم يكن قرآنا لما حنث ، وإذا كان كذلك فليس الحمل على الكل أولى من البعض ، وعند ذلك أمكن حمله على البعض الذي ليس فيه غير العربية .

>[5] فإن قيل : أجمعت الأمة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآنا واحدا ، فلو كان البعض قرآنا والكل قرآنا لزمت التثنية في القرآن ، وهو خلاف الإجماع ، وإذا لم يكن القرآن إلا واحدا تعين أن يكون هو الكل ضرورة الإجماع على تسميته قرآنا .

قلنا : أجمعت الأمة على أن الله تعالى لم ينزل إلا قرآنا واحدا ، بمعنى أنه لم ينزل غير هذا القرآن ، أو بمعنى أن المجموع قرآن وبعضه ليس بقرآن .

الأول مسلم ، والثاني ممنوع .

فإن قيل : ما ذكرتموه من الدليل على كون بعض القرآن قرآنا معارض بما يدل على أنه ليس بقرآن ، وهو صحة قول القائل عن السورة والآية هذا بعض القرآن .

قلنا : المراد به إنما هو بعض الجملة المسماة بالقرآن ، وليس في ذلك ما يدل على أن البعض ليس بقرآن حقيقة ، فإن جزء الشيء إذا شارك كله في معناه كان مشاركا له في اسمه ، ولهذا يقال : إن بعض اللحم لحم ، وبعض العظم عظم ، وبعض الماء ماء ; لاشتراك الكل والبعض في المعنى المسمى بذلك الاسم ، وإنما يمتنع ذلك فيما كان البعض فيه غير مشارك للكل في المعنى المسمى بذلك الاسم ، ولهذا لا يقال : بعض العشرة عشرة ، وبعض المائة مائة ، وبعض الرغيف رغيف ، وبعض الدار دار ، إلى غير ذلك . وعند ذلك فما لم يبينوا كون ما نحن فيه من القسم الثاني دون الأول ، فهو غير لازم ، وإن سلمنا التعارض من كل وجه [ ص: 38 ] فليس القول بالنفي أولى من القول بالإثبات ، وعلى المستدل الترجيح . وإن سلمنا دلالة النصوص على كون القرآن بجملته عربيا ، لكن بجهة الحقيقة أو المجاز ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم ; وذلك لأن ما الغالب منه العربية يسمى عربيا ، وإن كان فيه ما ليس بعربي كما يسمى الزنجي أسود ، وإن كان بعضه اليسير مبيضا كأسنانه وشحمة عينيه ، والرومي أبيض ، وإن كان البعض اليسير منه أسود كالناظر من عينيه . وكذلك البيت من الشعر بالفارسية يسمى فارسيا وإن كان مشتملا على كلمات يسيرة من العربية .

ويدل على هذا التجوز ما اشتمل عليه القرآن من الحروف المعجمة في أوائل السور ، فإنها ليست من لغة العرب في شيء .

وأيضا فإن القرآن قد اشتمل على عبادات غير معلومة للعرب ، فلا يتصور التعبير عنها في لغتهم ، فلا بد لها من أسماء تدل عليها غير عربية .

وأيضا فإن القرآن مشتمل على قوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) وأراد به صلاتكم ، وليس الإيمان في اللغة بمعنى الصلاة بل بمعنى التصديق .

وعلى قوله : ( أقيموا الصلاة ) والصلاة في اللغة بمعنى الدعاء وفي الشرع عبارة عن الأفعال المخصوصة .

وعلى قوله تعالى : ( وآتوا الزكاة ) والزكاة في اللغة عبارة عن النماء والزيادة ، وفي الشرع عبارة عن وجوب أداء مال مخصوص .

وعلى قوله تعالى : " كتب عليكم الصيام " والصوم في اللغة عبارة عن مطلق إمساك ، وفي الشرع عبارة عن إمساك مخصوص بل وقد يطلق الصوم في الشرع في حالة لا إمساك فيها كحالة الآكل ناسيا .

وعلى قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت ) .

[ ص: 39 ] والحج في اللغة عبارة عن مطلق قصد ، وفي الشرع عبارة عن القصد إلى مكان مخصوص .

وهذا كله يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي ، فكان إطلاق اسم العربي عليه مجازا .

التالي السابق


الخدمات العلمية