الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 155 ] المسألة الثالثة

اختلف الأصوليون في الأمر العري عن القرائن فذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين إلى أنه مقتض للتكرار المستوعب لزمان العمر مع الإمكان ، وذهب آخرون إلى أنه للمرة الواحدة ، ومحتمل للتكرار ، ومنهم من نفى احتمال التكرار ، وهو اختيار أبي الحسين البصري : وكثير من الأصوليين ، ومنهم من توقف في الزيادة ، ولم يقض فيها بنفي ولا إثبات ، وإليه ميل إمام الحرمين والواقفية .

والمختار أن المرة الواحدة لا بد منها في الامتثال ، وهو معلوم قطعا ، والتكرار محتمل ، فإن اقترن به قرينة أشعرت بإرادة المتكلم التكرار حمل عليه ، وإلا كان الاقتصار على المرة الواحدة كافيا .

والدليل على ذلك أنه إذا قال له " صل أو صم " فقد أمره بإيقاع فعل الصلاة والصوم ، وهو مصدر ( افعل ) والمصدر محتمل للاستغراق والعدد ، ولهذا يصح تفسيره به ، فإنه لو قال لزوجته " أنت طالق ثلاثا " وقع به لما كان تفسيرا للمصدر وهو الطلاق ، ولو اقتصر على قوله " أنت طالق " لم يقع سوى طلقة واحدة مع احتمال اللفظ للثلاث ، فإذا قال " صل " فقد أمره بإيقاع المصدر ، وهو الصلاة ، والمصدر محتمل للعدد ، فإن اقترن به قرينة مشعرة بإرادة العدد حمل عليه ، وإلا فالمرة الواحدة تكون كافية .

ولهذا فإنه لو أمر عبده أن يتصدق صدقة ، أو يشتري خبزا أو لحما ، فإنه يكتفي منه بصدقة واحدة ، وشراء واحد ، ولو زاد على ذلك فإنه يستحق اللوم والتوبيخ ، لعدم القرينة الصارفة إليه ، وإن كان اللفظ محتملا له ، وإنما كان كذلك لأن حال الآمر متردد بين إرادة العدد ، وعدم إرادته ، وإنما يجب العدد مع ظهور الإرادة ، ولا ظهور ، إذ الفرض فيما إذا عدمت القرائن المشعرة به .

فقد بطل القول بعدم إشعار اللفظ بالعدد مطلقا وبطل القول بظهوره فيه وبالوقف أيضا .

والاعتراض هاهنا يختلف باختلاف مذاهب الخصوم ، فمن اعتقد ظهوره في التكرار اعترض بشبه .

الأولى منها أن أوامر الشارع في الصوم والصلاة محمولة على التكرار ، فدل على إشعار الأمر به .

[ ص: 156 ] الثانية ، أن قوله تعالى : ( واقتلوا المشركين ) يعم كل مشرك ، فقوله " صم وصل " ينبغي أن يعم جميع الأزمان لأن نسبة اللفظ إلى الأزمان كنسبته إلى الأشخاص .

الثالثة : أن قوله ( صم ) كقوله ( لا تصم ) ومقتضى النهي الترك أبدا ، فوجب أن يكون الأمر مقتضيا للفعل أبدا لاشتراكهما في الاقتضاء والطلب .

الرابعة : أن الأمر اقتضى فعل الصوم ، واقتضى اعتقاد وجوبه ، والعزم عليه أبدا ، فكذلك الموجب الآخر .

الخامسة : أن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان ، فليس حمله على البعض أولى من البعض ، فوجب التعميم .

السادسة : أنه لو لم يكن الأمر للتكرار لما صح الاستثناء منه ، لاستحالة الاستثناء من المرة الواحدة ، ولا تطرق النسخ إليه ; لأن ذلك يدل على البداء وهو محال على الله تعالى ، ولا حسن الاستفهام من الآمر أنك أردت المرة الواحدة أو التكرار .

ولكان قول الآمر لغيره ( صل مرة واحدة ) غير مفيد ، وكان قوله ( صل مرارا ) تناقضا ، ولكان إذا لم يفعل المأمور ما أمر به في أول الوقت ، محتاجا في فعله ثانيا إلى دليل ، وهو ممتنع .

السابعة : أن الحمل على التكرار أحوط للمكلف ، لأنه إن كان للتكرار ، فقد حصل المقصود ولا ضرر ، وإن لم يكن للتكرار لم يكن فعله مضرا .

الثامنة : إن الأمر بالشيء نهي عن جميع أضداده ، والنهي عن أضداده يقتضي استغراق الزمان ، وذلك يستلزم استدامة فعل المأمور به .

التاسعة : قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " أي فأتوا بما أمرتكم به ما استطعتم ، وذلك يقتضي وجوب التكرار .

العاشرة : أن عمر بن الخطاب سأل النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه قد جمع بطهارة واحدة بين صلوات عام الفتح ، وقال : " أعمدا فعلت هذه يا رسول الله ؟ فقال : نعم " ولولا أنه فهم تكرار الطهارة من قوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) لما كان للسؤال معنى .

الحادية عشرة : أنه إذا قال الرجل لغيره : أحسن عشرة فلان ، فإنه يفهم منه التكرار والدوام .

[ ص: 157 ] وأما شبه القائلين بامتناع احتمال التكرار ، فأولها : أن من قال لغيره " ادخل الدار " يعد ممتثلا بالدخول مرة واحدة ، كما أنه يصير ممتثلا لقوله " اضرب رجلا " بضرب رجل واحد .

ولذلك ، فإنه لا يلام بترك التكرار ، بل يلام من لامه عليه .

وثانيها : أنه لو قال القائل ( صام زيد ) صدق على المرة الواحدة من غير إدامة فليكن مثله في الأمر .

وثالثها : أنه لو حلف أنه ليصلين أو ليصومن ، برت يمينه بصلاة واحدة وصوم يوم واحد ، وعد آتيا بما التزمه ، فكذلك في الالتزام بالأمر .

ورابعها أنه لو قال الرجل لوكيله ( طلق زوجتي ) لم يملك أكثر من تطليقة واحدة .

وخامسها : أنه لو كان الأمر للتكرار ، لكان قوله ( صل مرارا ) غير مفيد . وكان قوله ( صل مرة واحدة ) نقصا وليس كذلك .

وسادسها : أنه لو كان مطلق الأمر للتكرار : لكان الأمر بعبادتين مختلفتين لا يمكن الجمع بينهما ، إما تكليفا بما لا يطاق ، أو أن يكون الأمر بكل واحدة مناقضا للأمر بالأخرى ، وهو ممتنع .

وأما شبه القائلين بالوقف ، فأولها أن الأمر بمطلقه غير ظاهر في المرة الواحدة ، ولا في التكرار ، ولهذا فإنه يحسن أن يستفهم من الآمر عند قوله " اضرب " ويقال له " مرة واحدة أو مرارا " .

ولو كان ظاهرا في أحد الأمرين لما حسن الاستفهام .

وثانيها : أنه لو كان ظاهرا في المرة الواحدة لكان قول الآمر " اضرب مرة واحدة " تكرارا " أو مرارا " تناقضا ، وكذلك لو كان ظاهرا في التكرار .

والجواب عن الشبهة الأولى للقائلين بالتكرار هو أن حمل بعض الأوامر ، وإن كانت متكررة على التكرار ، لا يدل على استفادة ذلك من ظاهرها ، وإلا كان ما حمل من الأوامر على المرة الواحدة ، كالحج ونحوه ، مستفادا من ظاهر الأمر ، ويلزم من ذلك إما التناقض أو اعتقاد الظهور في أحد الأمرين دون الآخر من غير أولية وهو محال >[1] .

[ ص: 158 ] فإن قيل : اعتقاد الظهور في التكرار أولى ؛ لأن ما حمل من الأوامر على التكرار أكثر من المحمول على المرة الواحدة ، وعند ذلك فلو جعلناه ظاهرا في المرة الواحدة ، لكان المحذور اللازم من مخالفته في الحمل على التكرار أقل من المحذور اللازم من جعله ظاهرا في التكرار عند حمله على المرة الواحدة .

قلنا : هذا إنما يلزم أن لو قلنا إن الأمر ظاهر في أحد الأمرين ، وليس كذلك بل الأمر عندنا إنما يقتضي إيقاع مصدر الفعل ، والمرة الواحدة من ضروراته ؛ لأن الأمر ظاهر فيها ، وكذلك في التكرار >[2] فحمل الأمر على أحدهما بالقرينة لا يوجب مخالفة الظاهر في الآخر ، لعدم تحققه فيه .

وعن الثانية : وإن سلمنا أن العموم في قوله تعالى : ( واقتلوا المشركين ) أنه يتناول كل مشرك ، فليس ذلك إلا لعموم اللفظ ، ولا يلزم مثله فيما نحن فيه لعدم العموم في قوله " صم " بالنسبة إلى جميع الأزمان >[3] بل لو قال " صم في جميع الأزمان " كان نظيرا لقوله " اقتلوا المشركين " .

وعن الثالثة : لا نسلم أن النهي المطلق للدوام ، وإنما يقتضيه عند التصريح بالدوام أو ظهور قرينة تدل عليه ، كما في الأمر وإن سلمنا اقتضاءه للدوام ، لكن ما ذكروه من إلحاق الأمر بالنهي بواسطة الاشتراك بينهما في الاقتضاء فرع صحة القياس في اللغات ، وقد أبطلناه .

وإن سلمنا صحة ذلك ، غير أنا نفرق : وبيانه من وجهين : الأول أن من أمر غيره أن يضرب فقد أمره بإيقاع مصدره ، وهو الضرب ، فإذا ضرب مرة واحدة يصح أن يقال : لم يعدم الضرب .

>[4] .

الثاني : إن حمل الأمر على التكرار مما يفضي إلى تعطيل الحوائج المهمة ، وامتناع الإتيان بالمأمورات التي لا يمكن اجتماعها بخلاف الانتهاء عن المنهي مطلقا .

[ ص: 159 ] وعن الرابعة : أنها غير متجهة ، وذلك لأن دوام اعتقاد الوجوب عند قيام دليل الوجوب ليس مستفادا من نفس الأمر ، وإنما هو من أحكام الإيمان ، فتركه يكون كفرا ، والكفر منهي عنه دائما ، ولهذا كان اعتقاد الوجوب دائما في الأوامر المقيدة .

وأما العزم ، فلا نسلم وجوبه ، ولهذا فإن من دخل عليه الوقت وهو نائم ، لا يجب على من حضره إنباهه ولو كان العزم واجبا في ذلك الوقت ، لوجب عليه ، كما لو ضاق وقت العبادة ، وهو نائم .

وإن سلمنا وجوب العزم ، لكن لا نسلم وجوبه دائما ، بل هو تبع لوجوب المأمور به ، وإن سلمنا وجوبه دائما ، فلا نسلم كونه مستفادا من نفس الأمر ، ليلزم ما قيل ، بل إنما هو مستفاد من دليل اقتضى دوامه غير الأمر الوارد بالعبادة ، ولهذا وجب في الأوامر بالفعل مرة واحدة .

وعن الخامسة : أنها باطلة من جهة أن الأمر غير مشعر بالزمان ، وإنما الزمان من ضرورات وقوع الفعل المأمور به ، ولا يلزم من عدم اختصاصه ببعض الأزمنة دون البعض التعميم كالمكان .

وعن السادسة : وهي قولهم لو كان ( الأمر ) للمرة الواحدة لما دخله النسخ ليس كذلك عندنا ، فإنه لو أمر بالحج في السنة المستقبلة ، جاز نسخه عندنا قبل التمكن من الامتثال على ما يأتي .

وإنما ذلك لازم على المعتزلة ، وأما دخول الاستثناء فمن أوجب الفعل على الفور يمنع منه ، ومن أوجبه على التراخي ، فلا يمنع من استثناء بعض الأوقات التي المكلف مخير في إيقاع الواجب فيها .

وأما حسن الاستفهام ، فإنما كان لتحصيل اليقين فيما اللفظ محتمل له تأكيدا ، فإنه محتمل لإرادة التكرار وإرادة المرة الواحدة ، وبه يخرج الجواب عن قوله : " صل مرة واحدة " وقوله " صل مرارا " غير متناقض ، بل غايته دلالة الدليل على إرادة التكرار المحتمل .

وإذا لم يفعل ما أمر به في أول الوقت فمن قال بالتراخي لا يحتاج إلى دليل آخر ; لأن مقتضى الأمر المطلق عنده تخيير المأمور في إيقاع الفعل في أي وقت شاء من ذلك " الوقت " ، ومن قال بالفور فلا بد له من دليل في ثاني الحال .

[ ص: 160 ] وعن السابعة : ما سبق في الواجب والمندوب .

وعن الثامنة : لا نسلم أن الأمر بالشيء نهي عن أضداده ، وإن سلم ذلك ، ولكن اقتضاء النهي للأضداد بصفة الدوام ، فرع كون الأمر مقتضيا للفعل على الدوام ، وهو محل النزاع .

وأما قوله : صلى الله عليه وسلم ( إذا أمرتكم بأمر ) الحديث ، إنما يلزم أن لو كان ما زاد على المرة الواحدة مأمورا به ، وليس كذلك .

وأما حديث عمر فلا يدل على أنه فهم أن الأمر بالطهارة يقتضي تكرارها بتكرر الصلاة ، بل لعله أشكل عليه أنه للتكرار فسأل النبي عن عمده وسهوه في ذلك لإزاحة الإشكال ، بمعرفة كونه للتكرار إن كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم سهوا أو لا للتكرار إن كان فعله عمدا .

كيف وإن فهم عمر لذلك مقابل بإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عن التكرار ، ولو كان للتكرار لما أعرض عنه ، وله الترجيح >[5] .

وأما الأخيرة : فإنما عم الأمر فيها بالإكرام وحسن العشرة للأزمان ; لأن ذلك إنما يقصد به التعظيم ، وذلك يستدعي استحقاق المأمور بإكرامه للإكرام ، وهو سبب الأمر ، فمهما لم يعلم زوال ذلك السبب وجب دوام المسبب ، فكان الدوام مستفادا من هذه القرينة لا من مطلق الأمر .

والجواب عن الأولى للقائلين بامتناع احتمال الأمر المطلق للتكرار أن ذلك يدل على أن الأمر غير ظاهر في التكرار ، ولا يلزم منه امتناع احتماله له .

ولهذا فإنه لو قال : ادخل الدار مرارا بطريق التفسير ، فإنه يصح ويلزم ولو عدم لما صح التفسير .

وعن الثانية : أن ذلك قياس في اللغات فلا يصح ، وبه دفع الشبهة الثالثة .

وإذا قال لوكيله ( طلق زوجتي ) إنما لم يملك ما زاد على الطلقة الواحدة لعدم ظهور الأمر فيها لا لعدم لغة الاحتمال ; ولهذا لو قال ( طلقها ثلاثا ) على التفسير صح .

وعن الخامسة ما سبق .

[ ص: 161 ] وعن السادسة أنها باطلة وذلك لأن زيادة المشقة من حمل الأمر على التكرار ، إما أن لا يكون منافيا له أو يكون منافيا ، فإن كان الأول فلا اتجاه لما ذكروه ، وإن كان الثاني فغايته تعذر العمل بالأمر في التكرار عند لزوم الحرج ، فيكون ذلك قرينة مانعة من صرف الأمر إليه ، ولا يلزم من ذلك امتناع احتماله له لغة .

وجواب شبهة القائلين بالوقف ما سبق في جواب من تقدم والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية