الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
المسألة الرابعة

الأمر المعلق بشرط كقوله : ( إذا زالت الشمس فصلوا ) >[1] أو صفة كقوله : ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ) هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرر الشرط والصفة أم لا ؟

فمن قال : إن الأمر المطلق يقتضي التكرار فهو هاهنا أولى ، ومن قال : إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار اختلفوا هاهنا : فمنهم من أوجبه ، ومنهم من نفاه .

وقبل الخوض في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع ، فنقول : ما علق به المأمور من الشرط أو الصفة ، إما أن يكون قد ثبت كونه علة في نفس الأمر لوجوب الفعل المأمور به كالزنا ، أو لا يكون كذلك ، بل الحكم متوقف عليه من غير تأثير له فيه ، كالإحصان الذي يتوقف عليه الرجم في الزنا ، فإن كان الأول فالاتفاق واقع على تكرر الفعل بتكرره نظرا إلى تكرر العلة ، ووقوع الاتفاق على التعبد باتباع العلة ، مهما وجدت ، فالتكرار مستند إلى تكرار العلة ، لا إلى الأمر وإن كان الثاني ، فهو محل الخلاف ، والمختار أنه لا تكرار .

وقد احتج القائلون بهذا المذهب بحجج واهية ، لا بد من التنبيه عليها ، وعلى ما فيها ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار ، الحجة الأولى أنهم قالوا أجمعنا على أن الخبر المعلق بالشرط أو الصفة لا يقتضي تكرار المخبر عنه ، كما لو قال : " إن جاء زيد جاء عمرو " فإنه لا يلزم تكرر مجيء عمرو في تكرر مجيء زيد ، فكذلك في الأمر ، وهي باطلة ، فإن حاصلها يرجع إلى القياس في اللغة ، وقد أبطلناه >[2] .

[ ص: 162 ] الثانية أنه لو قال لزوجته " إذا دخلت الدار فأنت طالق " فإنه لا يتكرر الطلاق بتكرار الدخول ، فكذلك في قوله " إذا زالت الشمس فصلوا " وهو أيضا من جنس ما تقدم ، لما فيه من قياس الأمر على إنشاء الطلاق الذي ليس بأمر .

الثالثة : أن اللفظ لا دلالة فيه إلا على تعليق شيء بشيء ، وهو أعم من تعليقه عليه في كل صورة ، أو في صورة واحدة ، والمشعر بالأعم لا يلزم أن يكون مشعرا بالأخص .

وحاصل هذه الحجة أيضا يرجع إلى محض الدعوى بأن الأمر المضاف إلى الشرط أو الصفة لا يفهم منه اقتضاء التكرار بتكرر الشرط أو الصفة ، وهو عين محل النزاع .

وإنما الواجب أن يقال إنه مشعر بالأعم ، والأصل عدم إشعاره بالأخص .

والمعتمد في ذلك ، أن يقال لو وجب التكرار لم يخل إما أن يكون المقتضي له نفس الأمر أو الشرط أو مجموع الأمرين ، لا جائز أن يقال بالأول لما سبق في المسألة المتقدمة ، ولا بالثاني لأن الشرط غير مؤثر في المشروط بحيث يلزم من وجوده ، بل إنما تأثيره في انتفاء المشروط عند انتفائه ، وحيث قيل بملازمة المشروط لوجود الشرط في قوله لزوجته " إن دخلت الدار فأنت طالق " إنما كان لضرورة وجود الموجب ، وهو قوله " أنت طالق " لا لنفس دخول الدار ، وإلا كان دخول الدار موجبا للطلاق مطلقا ، وهو محال ، ولا جائز أن يقال بالثالث ، لأنا أجمعنا على أنه لو قال لعبده " إذا دخلت السوق فاشتر لحما " أنه لا يقتضي التكرار ، وذلك إما أن يكون مع تحقق الموجب للتكرار ، أو لا مع تحققه : لا جائز أن يقال بالأول .

وإلا فانتفاء التكرار إما لمعارض ، أو لا لمعارض ، والأول ممتنع لما فيه من المعارضة وتعطيل الدليل عن أعماله ، وهو خلاف الأصل ، والثاني أيضا باطل لما فيه من مخالفة الدليل من غير معارض فلم يبق سوى الثاني ، وهو المطلوب .

فإن قيل ما ذكرتموه معارض من وجوه .

الأول : أنه قد وجد في كتاب الله تعالى أوامر متعلقة بشروط وصفات وهي متكررة بتكررها ، كقوله تعالى : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) الآية ، وقوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) ( الزانية والزاني ) الآية ، ولو لم يكن ذلك مقتضيا للتكرار لما كان متكررا .

[ ص: 163 ] الثاني : أن العلة يتكرر الحكم بتكررها إجماعا ، والشرط أقوى من العلة لانتفاء الحكم بانتفائه بخلاف العلة ، فكان اقتضاؤه للتكرار أولى .

الثالث : أن نسبة الحكم إلى إعداد الشرط المعلق عليه نسبة واحدة ، ولا اختصاص له بالموجود الأول منها ، دون ما بعده ، وعند ذلك ، فإما أن يلزم من انتفاء الحكم مع وجود الشرط ثانيا وثالثا انتفاؤه مع وجود الشرط الأول ، أو من وجوده مع الأول الوجود مع الثاني وما بعده ضرورة التسوية . والأول خلاف الإجماع ، والثاني هو المطلوب .

الرابع : أنه لو لم يكن الأمر مقتضيا لتعليق الحكم بجميع الشروط ، بل بالأول منها فيلزم ، أن يكون فعل العبادة مع الشرط الثاني ، دون الأول ، قضاء ، وكانت مفتقرة إلى دليل آخر وهو ممتنع .

الخامس : أن النهي المعلق بالشرط مفيد للتكرار ، كما إذا قال " إن دخل زيد الدار فلا تعطه درهما " والأمر ضد النهي ، فكان مشاركا له في حكمه ، ضرورة اشتراكهما في الطلب والاقتضاء .

السادس : أن تعليق الأمر على الشرط الدائم موجب لدوام المأمور به بدوامه ، كما لو قال ( إذا وجد شهر رمضان فصمه ) فإن الصوم يكون دائما بدوام الشهر ، وتعليق الأمر على الشرط المتكرر في معناه فكان دائما .

والجواب عن الأول أنه إذا ثبت بما ذكرناه أن الأمر المعلق بالشرط والصفة غير مقتض للتكرار ، فحيث قضي بالتكرار ، إما أن يكون الشرط والصفة علة للحكم المكرر في نفس الأمر ، كما في الزنا والسرقة ، أو لا يكون علة له فإن كان الأول ، فالتكرار إنما كان لتكرر العلة الموجبة للحكم ، ولا كلام فيه .

وإن كان الثاني ، فيجب اعتقاد كونه متكررا لدليل اقتضاه غير الأمر المعلق بالشرط والصفة ، لما ذكرناه من عدم اقتضائه ، كيف وإنه كما قد يتكرر الفعل المأمور به بتكرر الشرط ، فقد لا يتكرر كالأمر بالحج ، فإنه مشروط بالاستطاعة وهو غير متكرر بتكررها .

[ ص: 164 ] وعن الثاني أنه لا يلزم من تكرر الحكم بتكرر العلة لكونها موجبة للحكم ، تكرره بتكرر الشرط ، مع أنه غير موجب للحكم ، كما تقرر .

وعن الثالث أنه إنما يلزم القائلين بالوجوب على الفور ، وليس كذلك عندنا بل الأمر مقتض للامتثال مع استواء التقديم والتأخير فيه ، إذا علم تجدد الشرط ، وغلب على الظن بقاء المأمور ، ويكون الأمر قد اقتضى تعلق المأمور به على الشروط كلها على طريق البدل من غير اختصاص له ببعضها دون بعض .

وأما إن لم يغلب على الظن تجدد الشرط ، ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني ، فقد تعين اختصاص المأمور بالشرط الأول ، لعدم تحقق ما سواه .

وعلى هذا ، فقد خرج الجواب عن الرابع أيضا .

وعن الخامس : أن حاصله يرجع إلى قياس الأمر على النهي في اللغة ، وهو باطل بما سبق .

كيف وإنا لا نسلم أن النهي المضاف إلى الشرط يتكرر بتكرر الشرط ، بل ما اقتضاه النهي إنما هو دوام المنع عند تحقق الشرط الأول ، سواء تجدد الشرط ثانيا ، أو لم يتجدد .

وعن السادس : أن الشرط المستشهد به ، وإن كان له دوام في زمان معين والحكم موجود معه ، فهو واحد ، والمشروط به غير متكرر بتكرره .

وعند ذلك فلا يلزم من لزوم وجود المشروط عند تحقق شرطه من غير تكرر ، لزوم التكرر بتكرر الشرط في محل النزاع .

التالي السابق


الخدمات العلمية