الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
فإن قيل : أما الحروف المعجمة التي في أوائل السور فهي أسماؤها .

وأما العبادات الحادثة فمن حيث إنها أفعال محسوسة معلومة للعرب ومسماة بأسماء خاصة لها لغة ، غير أن الشرع اعتبرها في الثواب والعقاب عليها بتقدير الفعل أو الترك ، وليس في ذلك ما يدل على اشتمال القرآن على ما ليس بعربي .

وأما الآيات المذكورة فهي محمولة على مدلولاتها لغة .

أما قوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) فالمراد به تصديقكم بالصلاة ، وقوله تعالى : ( أقيموا الصلاة ) فالمراد به الدعاء .

وكذلك قوله : ( وآتوا الزكاة ) فالمراد به النمو .

والمراد من الصوم الإمساك ، ومن الحج القصد ، غير أن الشارع شرط في إجزائها وصحتها شرعا ضم غيرها إليها . وليس في ذلك ما يدل على تغيير الوضع اللغوي ، وإن سلمنا دخول هذه الشروط في مسمى هذه الأسماء لكن بطريق المجاز ، أما في الصلاة فمن جهة أن الدعاء جزؤها ، والشيء قد يسمى باسم جزئه ، ومنه قول الشاعر :


يناشدني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم

.

وأراد به القرآن ، فسماه باسم جزئه ، وكذلك الكلام في الصوم والزكاة والحج .

ويمكن أن يقال بأن تسمية الصوم الخاص وكذلك الزكاة والحج والإيمان ، من باب التصرف بتخصيص الاسم ببعض مسمياته لغة كما في لفظ [ ص: 40 ] الدابة ، والشارع له ولاية هذا التصرف كما لأهل اللغة ، ويخص الصلاة أن أفعالها إنما سميت صلاة لكونها مما يتبع بها فعل الإمام . فإن التالي للسابق من الخيل يسمى مصليا لكونه تابعا ، ويخص الزكاة أن تسمية الواجب زكاة باسم سببه ، والتجوز باسم السبب عن المسبب جائز لغة ، والمجاز من اللغة لا من غيرها .

قلنا : أما الحروف فإنها إذا كانت أسماء لآحاد السور فهي أعلام لها وليست لغوية ، فقد اشتمل القرآن على ما ليس من لغة العرب ، وما ذكروه في العبادات الحادثة في الشرع ، فإنما يصح ، أن لو لم تكن قد أطلق عليها أسماء لم تكن العرب قد أطلقتها عليها ، ويدل على هذا الإطلاق ما ذكر من الآيات .

قولهم : إن هذه الأسماء محمولة على موضوعاتها لغة غير أن الشارع شرط في إجزائها شروطا لا تصح بدونها ، فإن >[1] مسمى الصلاة في اللغة هو الدعاء .

وقد يطلق اسم الصلاة على الأفعال التي لا دعاء فيها ، كصلاة الأخرس الذي لا يفهم الدعاء في الصلاة حتى يأتي به ، وبتقدير أن يكون الدعاء متحققا فليس هو المسمى بالصلاة وحده ، ودليله أنه يصح أن يقال : إنه في الصلاة حالة كونه غير داع ، ولو كان هو المسمى بالصلاة لا غير لصح عند فراغه من الدعاء أن يقال : خرج من الصلاة ، وإذا عاد إليه يقال : عاد إلى الصلاة ، وأن لا يسمى الشخص مصليا حالة عدم الدعاء مع تلبسه بباقي الأفعال ، وكل ذلك خلاف الإجماع .

قولهم : تسمية هذه الأفعال بهذه الأسماء إنما هو بطريق المجاز .

قلنا : الأصل في الإطلاق الحقيقة .

قولهم : إن الدعاء جزء من هذه الأفعال ، والشيء قد يسمى باسم جزئه .

قلنا : كل جزء أو بعض الأجزاء ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم .

ولهذا فإن العشرة لا تسمى خمسة ، ولا الكل جزءا وإن كان بعضه يسمى جزءا ، إلى أمثلة كثيرة لا تحصى .

[ ص: 41 ] وليس القول بأن ما نحن فيه من القبيل الجائز أولى من غيره ، وإن سلمنا صحة ذلك تجوزا ، ولكن ليس القول بالتجوز في هذه الأسماء ، وإجراء لفظ القرآن على حقيقته أولى من العكس .

فإن قيل : بل ما ذكرناه أولى ، فإن ما ذكرتموه يلزم منه النقل وتغيير اللغة ، فيستدعي ثبوت أصل الوضع وإثبات وضع آخر . والوضع اللغوي لا يفتقر إلى شيء آخر ، ولا يلزم منه تغيير فكان أولى . وأيضا فإن الغالب من الأوضاع البقاء لا التغيير ، وإدراج ما نحن فيه تحت الأغلب أغلب .

قلنا : بل جانب الخصم أولى ; لما فيه من ارتكاب مجاز واحد ، وما ذكرتموه ففيه ارتكاب مجازات كثيرة فكان أولى . وعلى هذا فقد اندفع قولهم بالتجوز بجهة التخصيص أيضا ، وما ذكروه من تسمية أفعال الصلاة لما فيها من المتابعة للإمام ، فيلزم منه أن لا تسمى صلاة الإمام والمنفرد صلاة لعدم هذا المعنى فيها .

وقولهم في الزكاة : أن الواجب سمي زكاة باسم سببه تجوزا فيلزم عليه أن لا تصح تسميته زكاة ، عند عدم النماء في المال ، وإن كان النماء حاصلا فالتجوز باسم السبب عن المسبب جائز مطلقا أو في بعض الأسباب ، الأول ممنوع والثاني مسلم . ولهذا فإنه لا يصح تسمية الصيد شبكة ، وإن كان نصبها سببا له ، ولا يسمى الابن أبا وإن كان الأب سببا له ، وكذلك لا يسمى العالم إلها وإن كان الإله تعالى سببا له >[2] ، إلى غير ذلك من النظائر .

وعند ذلك فليس القول بأن ما نحن فيه من قبيل التجوز به أولى من غيره .

وأما المعتزلة فقد احتجوا بما سبق من الآيات وبقولهم : إن الإيمان في اللغة هو التصديق ، وفي الشرع يطلق على غير التصديق . ويدل عليه قوله عليه السلام [ ص: 42 ] : ( الإيمان بضع وسبعون بابا أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ) . سمى إماطة الأذى إيمانا وليس بتصديق .

وأيضا فإن الدين في الشرع عبارة عن فعل العبادات وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة بدليل قوله تعالى : ( وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) إلى آخر الآية ، ثم قال : ( وذلك دين القيمة ) فكان راجعا إلى كل المذكور .

والدين هو الإسلام لقوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) والإسلام هو الإيمان ، فيكون الإيمان في الشرع هو فعل العبادات .

ودليل كون الإيمان هو الإسلام أنه لو كان غير الإسلام لما كان مقبولا من صاحبه لقوله تعالى : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .

وأيضا فإنه استثنى المسلمين من المؤمنين في قوله تعالى : ( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) والأصل أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه .

>[3] وأيضا قوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) وأراد به الصلاة إلى بيت المقدس .

وأيضا فإن قاطع الطريق وإن كان مصدقا فليس بمؤمن لأنه يدخل النار بقوله تعالى : ( ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) والداخل في النار مخزي لقوله تعالى حكاية عن أهل النار >[4] ( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته ) مع التقرير لهم على ذلك ، والمؤمن غير مخزي ؛ لقوله تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) .

>[5] [ ص: 43 ] وأيضا فإن المكلف يوصف بكونه مؤمنا حالة كونه غافلا عن التصديق بالنوم وغيره .

وأيضا فإنه لو كان الإيمان في الشرع هو الإيمان اللغوي أي التصديق لسمي في الشرع المصدق بشريك الإله تعالى مؤمنا ، والمصدق بالله مع إنكار الرسالة مؤمنا . . . إلى نظائره .

ولقائل أن يقول : أما الآيات السابق ذكرها فيمكن أن يقال في جوابها : إن إطلاق اسم الصلاة والزكاة والصوم والحج إنما كان بطريق المجاز على ما سبق ، والمجاز غير خارج عن اللغة ، وتسمية إماطة الأذى عن الطريق إيمانا أمكن أن يكون لكونه دليلا على الإيمان ، فعبر باسم المدلول عن الدال وهو أيضا جهة من جهات التجوز .

>[6] فإن قيل : الأصل إنما هو الحقيقة .

قلنا : إلا أنه يلزم منه التغيير ومخالفة الوضع اللغوي ، فيتقابلان وليس أحدهما أولى من الآخر لما سبق .

وقولهم : إن الإيمان هو الإسلام بما ذكروه فهو معارض بقوله تعالى : ( قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) ولو اتحدا لما صح هذا القول >[7] ، وليس أحدهما أولى من الآخر بل الترجيح للتغاير نظرا إلى أن الأصل عند تعدد الأسماء تعدد المسميات ؛ ولئلا يلزم منه التغيير في الوضع ، وبهذا يندفع ما ذكروه من الاستثناء .

وقوله تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) فالمراد به التصديق بالصلاة [ ص: 44 ] لا نفس الصلاة ، فلا تغيير وإن كان المراد به أن الصلاة لما كانت تدل على التصديق سميت باسم مدلولها ، وذلك مجاز من وضع اللغة .

وقوله تعالى : ( يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ) لا يتناول كل مؤمن بل من آمن مع النبي عليه السلام >[8] وهو صريح في ذلك ، وأولئك لم يصدر منهم ما دل صدر الآية عليه ، من الحراب لله ورسوله ، والسعي في الأرض بالفساد الذي أوجب دخول النار في الآية ، ولا يلزم من نفي الخزي عمن آمن مع النبي نفيه عن غيره .

وقولهم : إن المكلف يوصف بالإيمان حالة كونه غافلا عن التصديق بالله تعالى ، إنما كان ذلك بطريق المجاز لكونه كان مصدقا وأنه يؤول إلى التصديق ، وهو جهة من جهات التجوز .

وما يقال من أن الأصل الحقيقة ، فقد سبق جوابه ، كيف وإن ذلك لازم لهم في كل ما يفسرون الإيمان به ، ومع اتحاد المحذور فتقرير الوضع أولى .

والمصدق بشريك الإله تعالى ليس مؤمنا شرعا ; لأن الإيمان في الشرع مطلق ليس تصديق بل تصديق خاص ، وهو التصديق بالله وبما جاءت به رسله ، هو من باب تخصيص الاسم ببعض مسمياته في اللغة ، فكان مجازا لغويا ، وبه يندفع ما قيل من التصديق بالله والكفر برسوله ، حيث إن مسمى الإيمان الشرعي لم يوجد .

وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فالحق عندي في ذلك إنما هو إمكان كل واحد من المذهبين .

وأما ترجيح الواقع منهما فعسى أن يكون عند غيري تحقيقه .

>[9]

التالي السابق


الخدمات العلمية