الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 222 ] المسألة الثالثة

اختلف العلماء في أقل الجمع هل هو اثنان أو ثلاثة ؟ وليس محل الخلاف ما هو المفهوم من لفظ الجمع لغة ، وهو ضم شيء إلى شيء ، فإن ذلك في الاثنين والثلاثة وما زاد من غير خلاف ، وإنما محل النزاع في اللفظ المسمى بالجمع في اللغة مثل قولهم : رجال ومسلمون .

وإذ تنقح محل النزاع فنقول مذهب عمر وزيد بن ثابت ومالك وداود والقاضي أبي بكر والأستاذ أبي إسحاق >[1] وجماعة من أصحاب الشافعي - رضي الله عنه - كالغزالي وغيره أنه اثنان ، ومذهب ابن عباس والشافعي وأبي حنيفة ومشايخ المعتزلة وجماعة من أصحاب الشافعي أنه ثلاثة ، وذهب إمام الحرمين >[2] إلى أنه لا يمتنع رد لفظ الجمع إلى الواحد .

احتج الأولون بحجج من جهة الكتاب والسنة وإشعار اللغة والإطلاق .

أما من جهة الكتاب فقوله تعالى : ( إنا معكم مستمعون ) ، وأراد به موسى وهارون ، وقوله تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) ، وقوله تعالى : ( وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب إذ دخلوا على داود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان بغى بعضنا على بعض ) ، وقوله تعالى : ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) وأراد به الأخوين ، وقوله تعالى : ( عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ) ، وأراد به يوسف وأخاه وقوله تعالى : ( وكنا لحكمهم شاهدين ) ، وأراد به داود وسليمان ، وقوله تعالى : ( هذان خصمان اختصموا ) ، وقوله تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) .

[ ص: 223 ] وأما من جهة السنة ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " الاثنان فما فوقهما جماعة " >[3] .

وأما من جهة الإشعار اللغوي فهو أن اسم الجماعة مشتق من الاجتماع ، وهو ضم شيء إلى شيء ، وهو متحقق في الاثنين حسب تحققه في الثلاثة وما زاد عليها ، ولذلك تتصرف العرب وتقول : جمعت بين زيد وعمرو فاجتمعا وهما مجتمعان ، كما يقال ذلك في الثلاثة ، فكان إطلاق اسم الجماعة على الاثنين حقيقة ، وأما من جهة الإطلاق فمن وجهين : الأول : أن الاثنين يخبران عن أنفسهما بلفظ الجمع ، فيقولان : قمنا وقعدنا وأكلنا وشربنا كما تقول الثلاثة .

الثاني : أنه يصح أن يقول القائل إذا أقبل عليه رجلان في مخافة : أقبل الرجال .

وذلك كله يدل على أن لفظ الجمع حقيقة في الاثنين ، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة .

قال النافون لذلك : أما قوله تعالى : ( إنا معكم مستمعون ) ، فالمراد به موسى وهارون وفرعون وقومه وهم جمع ، وقوله تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) فكل طائفة جمع .

وأما قصة داود فلا حجة فيها ، فإن الخصم قد يطلق على الواحد وعلى الجماعة فيقال : هذا خصمي وهؤلاء خصمي ، وليس في الآية ما يدل على أن كل واحد من الخصمين كان واحدا ، وقوله تعالى : ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) ، فالمراد به الثلاثة ، وحيث ورثناها السدس مع الأخوين لم يكن ذلك مخالفا لمنطوق اللفظ ، بل لمفهومه بدليل آخر ، وهو انعقاد الإجماع على ذلك >[4] .

والمراد من قوله تعالى : ( عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ) يوسف وأخوه وشمعون الذي قال ( فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي ) ، والمراد من قوله تعالى : ( وكنا لحكمهم شاهدين ) [ ص: 224 ] داود وسليمان والمحكوم له وهم جماعة ، وقوله تعالى : ( هذان خصمان اختصموا ) ، فالجواب عنه ما تقدم في قصة داود ، وقوله تعالى : ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) فهو أشبه مما يحتج به هاهنا ويمكن أن يجاب عنه بأن الخطاب وإن كان مع اثنين ، وإنه ليس لكل واحد منهما في الحقيقة سوى قلب واحد غير أنه قد يطلق اسم القلوب على ما يوجد للقلب الواحد من الترددات المختلفة إلى الجهات المختلفة مجازا ، ومن ذلك قولهم لمن مال قلبه إلى جهتين أو تردد بينهما : إنه ذو قلبين وعند ذلك فيجب حمل قوله : ( قلوبكما ) على جهة التجوز دون الحقيقة ، جمعا بينه وبين ما سنذكره من الأدلة الدالة على امتناع إطلاق لفظ الجمع على الاثنين حقيقة ، ويمكن أن يقال : إنما قال : ( قلوبكما ) تجوزا حذرا من استثقال الجمع بين تثنيتين .

وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " الاثنان فما فوقهما جماعة " إنما أراد به أن حكمهما حكم الجماعة في انعقاد صلاة الجماعة بهما وإدراك فضيلة الجماعة >[5] ، ويجب الحمل عليه ، لأن الغالب من النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعرفنا الأحكام الشرعية لا الأمور اللغوية ، لكونها معلومة للمخاطب ولما سيأتي من الأدلة .

وأما ما ذكروه من الإشعار اللغوي فجوابه أن يقال : وإن كان ما منه اشتقاق لفظ الجماعة في الثلاثة موجودا في الاثنين ، فلا يلزم إطلاق اسم الجماعة عليهما إذ هو من باب القياس في اللغة ، وقد أبطلناه ، ولهذا فإن المعنى الذي صح منه اشتقاق اسم القارورة للزجاجة المخصوصة ، وهو قرار المائع فيها متحقق في الجرة والكوز ، ولا يصح تسميتهما قارورة .

كيف وإن ذلك لا يطرد في اسم الرجال والمؤمنين وغيرهما من أسماء الجموع إذ مشتق من الجمع ، والخلاف واقع في إطلاقه على الاثنين حقيقة .

[ ص: 225 ] وجواب الإطلاق الأول أن ذلك لا يدل على أن الاثنين جمع بدليل صحة قول الواحد لذلك مع أنه ليس بجماعة .

ولهذا فإنه لا يصح إخبار غيرهما عنهما بذلك ، فلا يقال : عن الاثنين قاموا وقعدوا ، بل قاما وقعدا .

وجواب الإطلاق الثاني أن ذلك أيضا لا يدل على أن الاثنين جماعة ، بدليل صحة قوله : جاء الرجال عندما إذا أقبل عليه الواحد في حال المخافة ، والواحد ليس بجمع بالاتفاق .

وأما حجج القائلين بأن أقل الجمع ثلاثة فست : الأولى : ما روي عن ابن عباس أنه قال لعثمان حين رد الأم من الثلث إلى السدس بأخوين : قال الله تعالى ( فإن كان له إخوة فلأمه السدس ) ، وليس الأخوان إخوة في لسان قومك . فقال عثمان : لا أستطيع أن أنقض أمرا كان قبلي وتوارثه الناس >[6] ، ولولا أن ذلك مقتضى اللغة لما احتج به ابن عباس على عثمان ، وأقره عليه عثمان وهما من أهل اللغة وفصحاء العرب .

الثانية : أن أهل اللغة فرقوا بين رجلين ورجال ، فإطلاق اسم الرجال على الرجلين رفع لهذا الفرق .

الثالثة : أنه لو صح إطلاق الرجال على الرجلين لصح نعتهما بما ينعت به الرجال ، ولا يصح أن يقال : جاءني رجلان ثلاثة كما يقال : جاءني رجال ثلاثة ، ولصح أن يقال : رأيت اثنين رجالا كما يقال : رأيت ثلاثة رجال .

الرابعة : أن أهل اللغة فرقوا بين ضمير التثنية والجمع فقالوا في الاثنين : فعلا ، وفي الجميع : فعلوا .

الخامسة : أنه يصح أن يقال : ما رأيت رجالا ، بل رجلين .

ولو كان اسم الرجال للرجلين حقيقة لما صح نفيه .

[ ص: 226 ] السادسة : أنه لو قال : لفلان علي دراهم ، فإنه لا يقبل تفسيره بأقل من ثلاثة .

وكذلك في النذر والوصية .

وهذه الحجج ضعيفة ، أما الحجة الأولى فهي معارضة بما روي عن زيد بن ثابت أنه قال : الأخوان أخوة .

وروي عنه أنه قال : أقل الجمع اثنان ، وليس العمل بأحدهما أولى من الآخر .

وأما الثانية فهو أن التفرقة بين الرجلين والرجال أن اسم الرجلين جمع خاص بالاثنين ، والرجال جمع عام للاثنين وما زاد عليهما .

وأما الثالثة فهو أن الثلاثة نعت للجمع العام ، وهو الرجال ، ولا يلزم أن يكون نعتا للجمع الخاص ، وهو رجلان ، وبه يعرف الجواب عن امتناع قولهم : رأيت اثنين رجالا من حيث إن رجالا اسم للجمع العام ، وهو الثلاثة وما زاد عليها ، فلا يلزم أن يكون أعطي لما دون ذلك ، وبه يخرج الجواب عن الفرق بين ضمير التثنية وضمير الجمع ، فإن ضمير ( فعلا ) لجمع خاص ، وهو الاثنان ، و ( فعلوا ) ضمير ما زاد على ذلك .

وأما الخامسة ، فإنه إذا رأى رجلين لا نسلم أنه يصح قوله : ما رأيت رجالا إلا أن يريد به ما زاد على الاثنين .

وأما الأحكام فممنوعة على أصل من يرى أن أقل الجمع اثنان .

وإذا عرف ضعف المأخذ من الجانبين فعلى الناظر بالاجتهاد في الترجيح وإلا فالوقف لازم >[7] .

التالي السابق


الخدمات العلمية