الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 232 ] المسألة الخامسة

اختلف القائلون بالعموم في صحة الاحتجاج به بعد التخصيص في ما بقي فأثبته الفقهاء مطلقا ، وأنكره عيسى بن أبان وأبو ثور مطلقا ، ومنهم من فصل ثم اختلف القائلون بالتفصيل ، فقال البلخي >[1] : إن خص بدليل متصل كالشرط والصفة والاستثناء فهو حجة ، وإن خص بدليل منفصل فليس بحجة .

وقال أبو عبد الله البصري : إن كان المخصص قد منع من تعلق الحكم بالاسم العام ، وأوجب تعلقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر لم يجز التعلق به كما في قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) فإن قيام الدلالة على اعتبار الحرز ومقدار المسروق مانع من تعلق الحكم بعموم اسم السارق ، وموجب لتعلقه بشرط لا ينبئ عنه ظاهر اللفظ .

وإن كان المخصص لم يمنع من تعلق الحكم بالاسم العام فهو حجة كقوله تعالى : ( اقتلوا المشركين ) ، فإن قيام الدلالة على المنع من قتل الذمي غير مانع من تعلق الحكم باسم المشركين .

وقال القاضي عبد الجبار : إن كان العام المخصوص ، لو تركنا وظاهره من دون التخصيص كنا نمتثل ما أريد منا ، ونضم إليه ما لم يرد منا صح الاحتجاج به ، وذلك كقوله تعالى : ( اقتلوا المشركين ) المخصص بأهل الذمة ، وإن كان العام بحيث لو تركنا وظاهره تخصيص لم يمكنا امتثال ما أريد منا دون بيان فلا يكون حجة ، وذلك كقوله تعالى : ( أقيموا الصلاة ) لو تركنا والآية لم يمكنا امتثال ما أريد منا من الصلاة الشرعية قبل تخصيصه بالحائض ، فكذلك بعد التخصيص .

[ ص: 233 ] ومن الناس من قال : إنه يكون حجة في أقل الجمع ولا يكون حجة فيما زاد على ذلك .

واتفق الكل على أن العام لو خص تخصيصا مجملا ، فإنه لا يبقى حجة كما لو قال : اقتلوا المشركين إلا بعضهم .

والمختار صحة الاحتجاج به فيما وراء صور التخصيص ، وقد احتج بعض الأصحاب على ذلك بأن قال : اللفظ العام كان متناولا للكل بالإجماع ، فكونه حجة في كل قسم من أقسام ذلك الكل إما أن يكون موقوفا على كونه حجة في القسم الآخر ، أو على كونه حجة في الكل أو لا يتوقف على واحد منهما ، فإن كان الأول فهو باطل لأنه إن كان كونه حجة في كل واحد من الأقسام مشروطا بكونه حجة في القسم الآخر فهو دور ممتنع ، وإن كان كونه حجة في بعض الأقسام مشروطا بكونه حجة في قسم آخر ولا عكس ، فكونه حجة في ذلك القسم الآخر يبقى بدون كونه حجة في القسم المشروط ، وليس بعض الأقسام بذلك أولى من البعض مع تساوي نسبة اللفظ العام إلى كل أقسامه .

وإن كان الثاني فهو أيضا باطل ، لأن كونه حجة في الكل يتوقف على كونه حجة في كل واحد من تلك الأقسام ، لأن الكل لا يتحقق إلا عند تحقق جميع الأفراد ، وذلك أيضا دور ممتنع .

وإذا بطل القسمان ثبت كونه حجة في كل واحد من الأقسام من غير توقف على كونه حجة في القسم الآخر ، ولا على الكل ثبت كونه حجة في البعض المستبقي ، وإن لم يبق حجة في غيره .

وهذه الحجة مع طولها ضعيفة جدا إذ لقائل أن يقول : ما المانع من صحة توقف الاحتجاج به في كل واحد من الأقسام على الآخر ، أو على الكل مع التعاكس ؟

قوله إنه دور ممتنع متى يكون ذلك ممتنعا إذا كان التوقف توقف معية أو توقف تقدم ؟ >[2] الأول ممنوع والثاني مسلم .

ولكن لم قلت بأن التوقف هاهنا بجهة التقدم .

ولا يخفى أن بيان ذلك مما لا سبيل إليه .

[ ص: 234 ] والمعتمد في ذلك الإجماع والمعقول .

أما الإجماع فهو أن فاطمة - رضي الله عنها - احتجت على أبي بكر في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى : ( يوصيكم الله في أولادكم ) الآية مع أنه مخصص بالكافر والقاتل ، ولم ينكر أحد من الصحابة صحة احتجاجها مع ظهوره وشهرته ، بل عدل أبو بكر في حرمانها إلى الاحتجاج بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة " .

وأيضا ، فإن عليا >[3] عليه السلام احتج على جواز الجمع بين الأختين في الملك بقوله تعالى : ( أو ما ملكت أيمانكم ) مع كونه مخصصا بالأخوات والبنات ، وكان ذلك مشهورا فيما بين الصحابة ولم يوجد له نكير فكان إجماعا .

وأيضا فإن ابن عباس احتج على تحريم نكاح المرضعة بعموم قوله تعالى : ( وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم ) ، وقال : قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير ، مع أنه مخصوص لكون الرضاع المحرم متوقفا على شروط وقيود ، فليس كل ، ولم ينكر عليه منكر صحة احتجاجه به فكان إجماعا .

[ ص: 235 ] وأما المعقول فهو أن العام قبل التخصيص حجة في كل واحد من أقسامه إجماعا .

والأصل بقاء ما كان قبل التخصيص بعده >[4] إلا أن يوجد له معارض .

والأصل عدمه .

فإن قيل : لو كان حجة في الباقي بعد التخصيص لم يخل إما أن يدل عليه حقيقة أو تجوزا ، لا جائز أن يقال بالأول إذ يلزم منه أن يكون اللفظ مشتركا >[5] بينه وبين الاستغراق ، ضرورة اتفاق القائلين بالعموم على كونه حقيقة في الاستغراق ، والاشتراك على خلاف الأصل .

وإن كان مجازا فيمتنع الاحتجاج به لثلاثة أوجه :

الأول : أن المجاز فيما وراء صورة التخصيص متردد بين أقل الجمع وما عدا صورة التخصيص ، ويمتنع الحمل على الكل لما فيه من تكثير جهات التجوز ، وليس حمله على أحد المجازين أولى من الآخر ، لعدم دلالة اللفظ عليه فكان مجملا .

الثاني : أن المجاز ليس بظاهر وما لا يكون ظاهرا لا يكون حجة .

الثالث : أن العام بعد التخصيص ينزل منزلة قوله : اقتلوا المشركين إلا بعضهم والمشبه به ليس بحجة ، فكذلك المشبه سلمنا أنه حجة ، لكن في أقل الجمع أو فيما عدا صورة التخصيص ؟ الأول مسلم والثاني ممنوع .

وذلك لأن الحمل على أقل الجمع متيقن بخلاف الحمل على ما زاد عليه ، فإنه مشكوك فيه فكان حجة في المتيقن .

والجواب عن السؤال الأول من جهة الإجمال والتفصيل ، أما الإجمال فهو أن اللفظ العام حجة في كل واحد من أقسامه قبل التخصيص إجماعا ، وهو إما أن يكون دالا عليه حقيقة أو مجازا ضرورة ، وكل ما ذكروه من الإشكالات تكون لازمة ، ومع ذلك فهو حجة والعذر يكون متحدا .

وأما التفصيل فنقول : ما المانع أن يكون مشتركا ؟ قولهم : الاشتراك على خلاف الأصل ، قلنا : إنما يكون خلاف الأصل إن لم يكن من قبيل الأسماء العامة ، وليس كذلك على ما يأتي عن قرب ( إن شاء الله تعالى ) .

وإن سلمنا أنه ليس مشتركا فما المانع من التجوز ؟ [ ص: 236 ] قولهم : إنه مجمل لتردده بين جهات التجوز .

قلنا : يجب اعتقاد ظهوره في بعضها نفيا للإجمال عن الكلام إذ هو خلاف الأصل ، ثم متى يكون كذلك إذا كان حمله على ما عدا صورة التخصيص مشهورا أو إذا لم يكن ؟ الأول ممنوع والثاني مسلم .

وبيان اشتهاره ما نقل عن الصحابة من علمهم بالعمومات المخصصة فيما وراء صورة التخصيص ، نقلا شائعا ذائعا سلمنا أنه غير مشهور فيه ، ولكن يجب حمل اللفظ بعد التخصيص عليه لأنه أولى من حمله على أقل الجمع لثلاثة أوجه :

الأول : لكونه معينا وكون أقل الجمع مبهما في الجنس .

والثاني : إن حمله عليه بتقدير أن يكون المراد من اللفظ أقل الجمع غير مخل بمراد المتكلم ، وحمله على أقل الجميع بتقدير أن يكون المراد من اللفظ ما عدا صورة التخصيص مخل بمراد المتكلم ، فكان الحمل عليه أولى .

والثالث : إنه أقرب إلى الحقيقة فكان أولى .

قولهم : المجاز ليس بظاهر إن أرادوا به أنه ليس حقيقة فمسلم ، ولكن لا يدل ذلك على أنه لا يكون حجة إلا أن تكون الحجة منحصرة في الحقيقة ، وهو محل النزاع ، وإن أرادوا به أنه لا يكون حجة ، فهو محل النزاع .

قولهم : إنه ينزل منزلة قوله : اقتلوا المشركين إلا بعضهم ليس كذلك ، فإن الخارج عن العموم إذا كان مجهولا تعذر العمل بالعموم مطلقا ، لأن العمل به في أي واحد قدر لا يؤمن معه أن يكون هو المستثنى بخلاف ما إذا كان الخارج معينا .

وعن السؤال الثاني بما ذكرناه من الترجيحات السابقة .

التالي السابق


الخدمات العلمية