الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 237 ] المسألة السادسة

إذا ورد خطاب جوابا لسؤال سائل داع إلى الجواب فالجواب إما أن يكون غير مستقل بنفسه دون السؤال أو هو مستقل ، فإن كان الأول فهو تابع للسؤال في عمومه وخصوصه : أما في عمومه خلاف ، وذلك كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل عن بيع الرطب بالتمر فقال : " أينقص الرطب إذا يبس قالوا : نعم ، قال فلا إذا " .

وأما في خصوصه فكما لو سأله سائل وقال : توضأت بماء البحر ، فقال له : يجزئك ، فهذا وأمثاله ، وإن ترك فيه الاستفصال مع تعارض الأحوال لا يدل على التعميم في حق الغير كما قاله الشافعي - رضي الله عنه - إذ اللفظ لا عموم له .

ولعل الحكم على ذلك الشخص كان لمعنى يختص به >[1] كتخصيص أبي بردة في الأضحية بجدعة من المعز ، وقوله له : تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك ، وتخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده ، وبتقدير تعميم المعنى الجالب للحكم ، فالحكم في حق غيره إن ثبت فبالعلة المتعدية لا بالنص .

وأما إن كان الجواب مستقلا بنفسه دون السؤال فإما أن يكون مساويا للسؤال أو أعم منه أو أخص .

[ ص: 238 ] فإن كان مساويا له فالحكم في عمومه وخصوصه عند كون السؤال عاما أو خاصا ، فكما لو لم يكن مستقلا .

ومثاله عند كون السؤال خاصا سؤال الأعرابي عن وطئه في نهار رمضان ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " اعتق رقبة " >[2] ، ومثاله عند كون السؤال عاما ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سئل فقيل له : " إنا نركب البحر على أرماث لنا ، >[3] وليس معنا من الماء العذب ما يكفينا ، أفنتوضأ بماء البحر فقال - صلى الله عليه وسلم - : " البحر هو الطهور " .

وأما إن كان الجواب أخص من السؤال فالجواب يكون خاصا ، ولا يجوز تعديه الحكم من محل التنصيص إلى غيره إلا بدليل خارج عن اللفظ ، إذ اللفظ لا عموم له كما سبق تقريره ، بل وفي هذه الصورة الحكم بالخصوص أولى من القول به فيما إذا كان السؤال خاصا ، والجواب مساويا له حيث إنه هاهنا عدل عن مطابقة سؤال السائل بالجواب مع دعوى الحاجة إليه ، بخلاف تلك الصورة ، فإنه طابق بجوابه سؤال السائل .

وأما إن كان الجواب أعم من السؤال فإما أن يكون أعم من السؤال في ذلك الحكم ، كسؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن ماء بئر بضاعة فقال : " خلق الماء طهورا لا ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه " أو أنه >[4] أعم من السؤال في غير ذلك الحكم كسؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن التوضؤ بماء البحر فقال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " >[5] .

[ ص: 239 ] فإن كان من القسم الثاني فلا خلاف في عمومه في حل ميتته لأنه عام مبتدأ به لا في معرض الجواب ، إذ هو غير مسئول عنه ، وكل عام ورد مبتدأ بطريق الاستقلال فلا خلاف في عمومه عند القائلين بالعموم .

وأما إن كان من القسم الأول فمذهب أبي حنيفة والجم الغفير أنه عام ، وإنه لا يسقط عمومه بالسبب الذي ورد عليه ، والمنقول عن الشافعي - رضي الله عنه - ومالك والمزني وأبي ثور خلافه .

وعلى هذا يكون الحكم فيما إذا ورد العام على سبب خاص لا تعلق له بالسؤال ، كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه مر بشاة ميمونة وهي ميتة ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " >[6] .

والمختار إنما هو القول بالتعميم إلى أن يدل الدليل على التخصيص .

ودليله أنه لو عري اللفظ الوارد عن السبب كان عاما ، وليس ذلك إلا لاقتضائه للعموم بلفظه لا لعدم السبب ، فإن عدم السبب لا مدخل له في الدلالات اللفظية ، ودلالة العموم لفظية ، وإذا كانت دلالته على العموم مستفادة من لفظه فاللفظ وارد مع وجوب السبب حسب وروده مع عدم السبب ، فكان مقتضيا للعموم ، ووجود السبب لو كان لكان مانعا من اقتضائه للعموم ، وهو ممتنع لثلاثة أوجه : الأول : أن الأصل عدم المانعية ، فمدعيها يحتاج إلى البيان .

الثاني : أنه لو كان مانعا من الاقتضاء للعموم لكان تصريح الشارع بوجوب العمل بعمومه مع وجود السبب إما إثبات حكم العموم مع انتفاء العموم ، أو إبطال الدليل المخصص ، وهو خلاف الأصل .

الثالث : أن أكثر العمومات وردت على أسباب خاصة ، فآية السرقة نزلت في سرقة المجن أو رداء صفوان ، وآية الظهار نزلت في حق سلمة بن صخر ، وآية اللعان نزلت في حق هلال بن أمية إلى غير ذلك .

والصحابة عمموا أحكام هذه [ ص: 240 ] الآيات من غير نكير فدل على أن السبب غير مسقط للعموم ، ولو كان مسقطا للعموم لكان إجماع الأمة على التعميم خلاف الدليل ، ولم يقل أحد بذلك .

فإن قيل : ما ذكرتموه معارض بما يدل على اختصاص العموم بالسبب ، وبيانه من ستة أوجه : الأول : أنه لو لم يكن المراد بيان حكم السبب لا غير ، بل بيان القاعدة العامة لما أخر البيان إلى حالة وقوع تلك الواقعة ، واللازم ممتنع .

وإذا كان المقصود إنما هو بيان حكم السبب الخاص وجب الاقتصار عليه .

الثاني : أنه لو كان الخطاب عاما لكان جوابا وابتداء ، وقصد الجواب والابتداء متنافيان .

الثالث : أنه لو كان الخطاب مع السبب عاما لجاز إخراج السبب عن العموم بالاجتهاد كما في غيره من الصور الداخلة تحت العموم ، ضرورة تساوي نسبة العموم إلى الكل ، وهو خلاف الإجماع .

الرابع : أنه لو لم يكن للسبب مدخل في التأثير لما نقله الراوي لعدم فائدته .

الخامس : أنه لو قال القائل لغيره : تغدى عندي ، فقال : لا والله لا تغديت ، فإنه وإن كان جوابا عاما فمقصور على سببه حتى إنه لا يحنث بغدائه عند غيره ، ولولا أن السبب يقتضي التخصيص لما كان كذلك .

السادس : أنه إذا كان السؤال خاصا فلو كان الجواب عاما لم يكن مطابقا للسؤال ، والأصل المطابقة لكون الزيادة عديمة التأثير فيما تعلق به غرض السائل .

والجواب عن المعارضة الأولى أنها مبنية على وجوب رعاية الغرض والحكمة في أفعال الله وهو غير مسلم >[7] ، وإن كان ذلك مسلما ، لكن لا مانع من اختصاص إظهار الحكم عند وجود السبب لحكمة استأثر الرب تعالى بالعلم بها دون غيره ، [ ص: 241 ] ثم يلزم مما ذكروه أن تكون العمومات الواردة على الأسباب الخاصة مما ذكرناه مختصة بأسبابها ، وهو خلاف الإجماع .

وعن الثانية أنه إن أريد بالتنافي بين الجواب والابتداء امتناع ذكره لحكم السبب مع غيره فهو محل النزاع ، وإن أرادوا غير ذلك فلا بد من تصويره .

وعن الثالثة أنه لا خلاف في كون الخطاب ورد بيانا لحكم السبب فكان مقطوعا به فيه ، فلذلك امتنع تخصيصه بالاجتهاد بخلاف غيره ، فإن تناوله له ظني ، وهو ظاهر فيه فلذلك جاز إخراجه عن عموم اللفظ بالاجتهاد ، وما نقل عن أبي حنيفة من أنه كان يجوز إخراج السبب عن عموم اللفظ بالاجتهاد ، حتى إنه أخرج الأمة المستفرشة عن عموم قوله عليه السلام : " الولد للفراش " >[8] ولم يلحق ولدها بمولاها مع وروده في وليد زمعة .

وقد قال عبد الله بن زمعة : هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه .

فلعله فعل ذلك لعدم اطلاعه على ورود الخبر على ذلك السبب .

وعن الرابعة أن فائدة نقل السبب امتناع إخراجه عن العموم بطريق الاجتهاد ومعرفة أسباب التنزيل .

وعن الخامسة أن الموجب للتخصيص بالسبب في الصورة المستشهد بها عادة أهل العرف بعضهم مع بعض ، ولا كذلك في الأسباب الخاصة بالنسبة إلى خطاب الشارع بالأحكام الشرعية .

وعن السادسة إن أرادوا بمطابقة الجواب للسؤال الكشف عنه وبيان حكمه فقد وجد ، وإن أرادوا بذلك أن لا يكون بيانا لغير ما سئل عنه ، فلا نسلم أنه الأصل .

ويدل على ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " تعرض لحل الميتة ولم يكن مسئولا عنها .

ولو كان الاقتصار على نفس المسئول عنه هو الأصل لكان بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - لحل الميتة على خلاف الأصل ، وهو بعيد .

التالي السابق


الخدمات العلمية