الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
المسألة الحادية عشرة

الفعل وإن انقسم إلى أقسام وجهات فالواقع منه لا يقع إلا على وجه واحد منها ، فلا يكون عاما لجميعها بحيث يحمل وقوعه على جميع جهاته ، وذلك كما روي عنه - عليه السلام - أنه صلى داخل الكعبة ، فصلاته الواقعة يحتمل أنها كانت فرضا ويحتمل أنها كانت نفلا ، ولا يتصور وقوعها فرضا نفلا ، فيمتنع الاستدلال بذلك على جواز الفرض والنفل في داخل الكعبة جميعا ، إذ لا عموم للفعل الواقع بالنسبة إليهما ، ولا يمكن تعيين أحد القسمين إلا بدليل .

وأما ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى بعد غيبوبة الشفق ، فالشفق اسم مشترك بين الحمرة والبياض ، فصلاته يحتمل أنها وقعت بعد الحمرة ، ويحتمل أنها وقعت بعد البياض ، فلا يمكن حمل ذلك على وقوع فعل الصلاة بعدهما على رأي من لا يرى حمل اللفظ المشترك على جميع محامله ، وإنما يمكن ذلك على رأي من يرى ذلك كما سبق تحقيقه .

فإن قول الراوي : صلى بعد غيبوبة الشفق ينزل منزلة قوله : صلى بعد الشفقين .

[ ص: 253 ] وفي هذا المعنى أيضا قول الراوي : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجمع بين الصلاتين في السفر ، فإنه يحتمل وقوع ذلك في وقت الأولى ، ويحتمل وقوعه في وقت الثانية ، وليس في نفس وقوع الفعل ما يدل على وقوعه فيهما ، بل في أحدهما .

والتعين متوقف على الدليل .

وأما وقوع ذلك منه - صلى الله عليه وسلم - متكررا على وجه يعم سفر النسك وغيره ، فليس أيضا في نفس وقوع الفعل ما يدل عليه ، بل إن كان ولا بد فاستفادة ذلك إنما هي من قول الراوي : كان يجمع بين الصلاتين .

ولهذا فإنه إذا قيل : كان فلان يكرم الضيف يفهم منه التكرار دون القصور على المرة الواحدة .

وعلى هذا أيضا يجب أن يعلم أن ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - واجبا كان عليه أو جائزا له لا عموم له بالإضافة إلى غيره ، بل هو خاص في حقه إلا أن يدل دليل من خارج على المساواة بينه وبين غيره في ذلك الفعل ، كما لو صلى وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي ، أو غير ذلك >[1] .

فإن قيل : فقد أجمعت الأمة على تعميم سجود السهو في كل سهو ، بما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه سها في الصلاة فسجد ، وكذلك اتفقوا على تعميم ما نقل عن عائشة أنها قالت : " كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وهو في الصلاة " في حق كل أحد ، حتى إن الشافعي استدل بذلك على طهارة مني الآدمي ، واستدل به أبو حنيفة على جواز الاقتصار على الفرك في حق غير النبي مع حكمه بنجاسته .

[ ص: 254 ] وكذلك إجماعهم على وجوب الغسل من التقاء الختانين بقول عائشة : فعلته أنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - واغتسلنا ، وأيضا فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سئل عن حكم أجاب بما يخصه ، وأحال معرفة ذلك على فعل نفسه .

فمن ذلك لما سألته أم سلمة عن الاغتسال قال : " أما أنا فأفيض الماء على رأسي " ومن ذلك أنه لما سئل عن قبلة الصائم قال : " أنا أفعل ذلك " ، ولولا أن للفعل عموما لما كان كذلك .

قلنا : أما تعميم سجود السهو ، فإنه إنما كان لعموم العلة ، وهي السهو من حيث إنه رتب السجود على السهو بفاء التعقيب ، وهو دليل العلية كما يأتي ذكره لا لعموم الفعل .

وكذلك الحكم في قوله : " زنى ماعز فرجم " وفي قوله : " رضخ يهودي رأس جارية فرضخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه " .

وأما العمل بخبر عائشة في فرك المني ووجوب الغسل من التقاء الختانين ، وإفاضة الماء على الرأس وقبلة الصائم ، فكل ذلك مستند إلى القياس لا إلى عموم الفعل لتعذره كما >[2] سبق ، >[3] والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية