الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
المسألة الثامنة عشرة

اتفق العلماء على أن كل واحد من المذكر والمؤنث لا يدخل في الجمع الخاص بالآخر كالرجال والنساء ، وعلى دخولهما في الجمع الذي لم تظهر فيه علامة تذكير ولا تأنيث كالناس .

وإنما وقع الخلاف بينهم في الجمع الذي ظهرت فيه علامة التذكير كالمسلمين والمؤمنين : هل هو ظاهر في دخول الإناث فيه أو لا ؟ فذهبت الشافعية والأشاعرة والجمع الكثير من الحنفية والمعتزلة إلى نفيه .

وذهبت الحنابلة وابن داود >[1] وشذوذ من الناس إلى إثباته .

[ ص: 266 ] احتج النافون بالكتاب والسنة والمعقول ، أما الكتاب فقوله تعالى : ( إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ) عطف جمع التأنيث على جمع المسلمين والمؤمنين ، ولو كان داخلا فيه لما حسن عطفه عليه لعدم فائدته .

وأما السنة فما روي عن أم سلمة أنها قالت : يا رسول الله : إن النساء قلن ما نرى الله ذكر إلا الرجال ، فأنزل الله : ( إن المسلمين والمسلمات ) الآية >[2] .

ولو كن قد دخلن في جمع التذكير ، لكن مذكورات وامتنعت صحة السؤال والتقرير عليه .

وأيضا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " ويل للذين يمسون فروجهم ثم يصلون ولا يتوضئون " فقالت عائشة : هذا للرجال فما للنساء ؟ >[3] ولولا خروجهن من جمع الذكور لما صح السؤال ولا التقرير من النبي - صلى الله عليه وسلم .

وأما المعقول فهو أن الجمع تضعيف الواحد ، فقولنا : قام لا يتناول المؤنث بالإجماع ، فالجمع الذي هو تضعيفه كقولنا : قاموا لا يكون متناولا له .

فإن قيل : أما الآية فالعطف فيها لا يدل على عدم دخول الإناث في جمع التذكير .

قولكم لا فائدة فيه ليس كذلك إذ المقصود منه إنما هو الإتيان بلفظ يخصهن تأكيدا فلا يكون عريا عن الفائدة .

وأما سؤال أم سلمة وعائشة فلم يكن لعدم دخول النساء في جمع الذكور ، بل لعدم تخصيصهن بلفظ صريح فيهن كما ورد في المذكر .

وأما قولكم : إن الجمع تضعيف الواحد فمسلم ، ولكن لم قلتم بامتناع دخول المؤنث فيه مع أنه محل النزاع ؟ .

والذي يدل على دخول المؤنث في جمع التذكير ثلاثة أمور : [ ص: 267 ] الأول : أن المألوف من عادة العرب أنه إذا اجتمع التذكير والتأنيث غلبوا جانب التذكير .

ولهذا فإنه يقال : للنساء إذا تمحضن : ادخلن ، وإن كان معهن رجل قيل : ادخلوا .

قال الله - تعالى - لآدم وحواء وإبليس : ( قلنا اهبطوا منها جميعا ) كما ألف منهم تغليب جمع من يعقل إذا كان معه من لا يعقل .

ومنه قوله تعالى : ( والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ) ، بل أبلغ من ذلك أنهم إذا وصفوا ما لا يعقل بصفة من يعقل غلبوا فيه من يعقل .

ومنه قوله تعالى : ( أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ) جمعهم جمع من يعقل لوصفهم بالسجود الذي هو صفة من يعقل .

وكتغليبهم الكثرة على القلة حتى إنهم يصفون بالكرم والبخل جمعا أكثرهم متصف بالكرم أو البخل .

وكتغليبهم في التثنية أحد الاسمين على الآخر كقولهم : ( الأسودان ) للتمر ظاهرا ، والعمران لأبي بكر وعمر ، والقمران للشمس والقمر .

الثاني : أنه يستهجن من العربي أن يقول لأهل حلة أو قرية : أنتم آمنون ونساؤكم آمنات لحصول الأمن للنساء بقوله : أنتم آمنون ، ولولا دخولهن في قوله : أنتم آمنون لما كان كذلك .

وكذلك لا يحسن منه أن يقول لجماعة فيهم رجال ونساء : قوموا وقمن ، بل لو قال : قوموا كان ذلك كافيا في الأمر للنساء بالقيام .

ولولا دخولهن في جمع التذكير لما كان كذلك .

الثالث : أن أكثر أوامر الشرع بخطاب المذكر مع انعقاد الإجماع على أن النساء يشاركن الرجال في أحكام تلك الأوامر ، ولو لم يدخلن في ذلك الخطاب لما كان كذلك .

والجواب قولهم في الآية : فائدة التخصيص بلفظ يخصهن التأكيد .

قلنا : لو اعتقدنا عدم دخولهن في جمع التذكير كانت فائدة تخصيصهن بالذكر التأسيس ، ولا يخفى أن فائدة التأسيس أولى في كلام الشارع .

قولهم : سؤال أم سلمة وعائشة إنما كان لعدم تخصيص النساء بلفظ يخصهن ، لا لعدم دخول النساء في جمع التذكير ليس كذلك ، أما سؤال أم سلمة فهو صريح في عدم الذكر مطلقا لا في عدم ذكر ما يخصهن بحيث قالت : ما نرى الله ذكر إلا الرجال ، ولو ذكر النساء ، ولو بطريق الضمن لما صح هذا الإخبار [ ص: 268 ] على إطلاقه .

وأما حديث عائشة فلأنها قالت : هذا للرجال ، ولو كان الحكم عاما لما صح منها تخصيص ذلك بالرجال .

قولهم : المألوف من عادة العرب تغليب جانب التذكير ؛ مسلم ، ونحن لا ننازع في أن العربي إذا أراد أن يعبر عن جمع فيهم ذكور وإناث أنه يغلب جانب التذكير ويعبر بلفظ التذكير ، ويكون ذلك من باب التجوز ، وإنما النزاع في أن جمع التذكير إذا أطلق هل يكون ظاهرا في دخول المؤنث ومستلزما له أو لا ؟ وليس فيما قيل ما يدل على ذلك .

وهذا كما أنه يصح التجوز بلفظ الأسد عن الإنسان ، ولا يلزم أن يكون ظاهرا فيه مهما أطلق .

فإن قيل : إذا صح دخول المؤنث في جمع المذكر فالأصل أن يكون مشعرا به حقيقة لا تجوزا .

قلنا : ولو كان جمع التذكير حقيقة للذكور والإناث مع انعقاد الإجماع على أنه حقيقة في تمحض الذكور كان اللفظ مشتركا ، وهو خلاف الأصل .

فإن قيل : ولو كان مجازا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد لدخول المسمى الحقيقي فيه وهم الذكور ، وهو ممتنع .

قلنا : ليس كذلك ، فإنه لا يكون حقيقة في الذكور إلا مع الاقتصار .

وأما إذا كان جزءا من المذكور لا مع الاقتصار فلا .

كيف وإنا لا نسلم امتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز كما سبق تقريره ؟

وأما الوجه الثاني فإنما استهجن من العربي أن يقول : أنتم آمنون ونساؤكم آمنات ؛ لأن تأمين الرجال يستلزم الأمن من جميع المخاوف المتعلقة بأنفسهم وأموالهم ونسائهم ، فلو لم تكن النساء آمنات لما حصل أمن الرجال مطلقا ، وهو تناقض .

أما أن ذلك يدل على ظهور دخول النساء في الخطاب فلا ، وبه يظهر لزوم أمن النساء من الاقتصار على قوله للرجال : أنتم آمنون .

وأما الوجه الثالث فغير لازم ، وذلك أن النساء وإن شاركن الرجال في كثير من أحكام التذكير ، فيفارقن للرجال في كثير من الأحكام الثابتة بخطاب التذكير ، كأحكام الجهاد في قوله - تعالى - : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) وأحكام الجمعة في قوله - تعالى - : [ ص: 269 ] ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) إلى غير ذلك من الأحكام .

ولو كان جمع التذكير مقتضيا لدخول الإناث فيه لكان خروجهن عن هذه الأوامر على خلاف الدليل ، وهو ممتنع فحيث وقع الاشتراك تارة والافتراق تارة علم أن ذلك إنما هو مستند إلى دليل خارج ، لا إلى نفس اقتضاء اللفظ لذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية