الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
وأما إن لم تكن الجملة الأخيرة مضربة عن الأولى ، بل لها بها نوع تعلق فالاستثناء راجع إلى الكل ، وذلك أربعة أقسام :

القسم الأول : أن تتحد الجملتان نوعا واسما لا حكما ، غير أن الحكمين قد اشتركا في غرض واحد كما لو قال : أكرم بني تميم وسلم على بني تميم إلا الطوال ، لاشتراكهما في غرض الإعظام .

[ ص: 301 ] الثاني : أن تتحد الجملتان نوعا وتختلفا حكما ، واسم الأولى مضمر في الثانية كما لو قال : أكرم بني تميم واستأجرهم إلا الطوال .

القسم الثالث : بالعكس من الذي قبله كما لو قال : أكرم بني تميم وربيعة إلا الطوال .

القسم الرابع : أن يختلف نوع الجمل المتعاقبة ، إلا أنه قد أضمر في الجملة الأخيرة ما تقدم ، أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدا كما في آية القذف ، فإن جملها مختلفة النوع من حيث إن قوله - تعالى - : (فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أمر ، وقوله : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) نهي ، وقوله : ( وأولئك هم الفاسقون ) خبر ، غير أنها داخلة تحت القسم الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض الانتقام والإهانة ، وداخلة تحت القسم الثاني من جهة إضمار الاسم المتقدم فيها . القسم الرابع : أن يختلف نوع الجمل المتعاقبة ، إلا أنه قد أضمر في الجملة الأخيرة ما تقدم ، أو كان غرض الأحكام المختلفة فيها واحدا كما في آية القذف ، فإن جملها مختلفة النوع من حيث إن قوله - تعالى - : ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) أمر ، وقوله : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا ) نهي ، وقوله : ( وأولئك هم الفاسقون ) خبر ، غير أنها داخلة تحت القسم الأول من هذه الأقسام الأربعة لاشتراك أحكام هذه الجمل في غرض الانتقام والإهانة ، وداخلة تحت القسم الثاني من جهة إضمار الاسم المتقدم فيها .

وذهب المرتضى من الشيعة إلى القول بالاشتراك ، وذهب القاضي أبو بكر والغزالي وجماعة من الأصحاب إلى الوقف .

والمختار أنه مهما ظهر كون ( الواو ) للابتداء فالاستثناء يكون مختصا بالجملة الأخيرة ، كما في القسم الأول من الأقسام الثانية المذكورة لعدم تعلق إحدى الجملتين بالأخرى ، وهو ظاهر .

وحيث أمكن أن تكون ( الواو ) للعطف أو الابتداء كما في باقي الأقسام السبعة فالواجب إنما هو الوقف .

وتحقيق ذلك متوقف على ذكر حجج المخالفين وإبطالها ، ولنبدأ من ذلك بحجج القائلين بالعود إلى الجميع : الحجة الأولى : أن الجمل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة ، ولهذا فإنه لا فرق في اللغة بين قوله : اضرب الجماعة التي منها قتلة وسراق وزناة إلا من تاب ، وبين قوله : اضرب من قتل وسرق وزنى إلا من تاب ، فوجب اشتراكهما في عود الاستثناء إلى الجميع .

وهي غير صحيحة ، وذلك لأنه إن قيل إنه لا فارق بين الجملة والجملتين في أمر ما لزم أن يكون المتكثر واحدا والواحد متكثرا ، وهو محال .

وإن قيل بالفرق فلا بد من جامع موجب للاشتراك في الحكم .

ومع ذلك فحاصله يرجع إلى القياس في اللغة ، ولا سبيل إليه لما تقدم .

[ ص: 302 ] الحجة الثانية : أن الإجماع منعقد على أنه لو قال : والله لا أكلت الطعام ، ولا دخلت الدار ، ولا كلمت زيدا واستثنى بقوله : إن شاء الله أنه يعود إلى الجميع .

وهذه الحجة أيضا باطلة ، فإن العلماء وإن أطلقوا لفظ الاستثناء على التعليق على المشيئة فمجاز ، وليس باستثناء حقيقة ، بل ذلك شرط كما في قوله : إن دخلت الدار ، ويدل على كونه شرطا لا استثناء أنه يجوز دخوله على الواحد مع أن الواحد لا يدخله الاستثناء ، وذلك كقوله : أنت طالق إن شاء الله ، ولو قال : أنت طالق طلقة إلا طلقة لم يصح ووقع به طلقة .

وكذلك إذا قال : له علي درهم إلا درهما ، وإذا كان شرطا فلا يلزم من عوده إلى الجميع عود الاستثناء إلا بطريق القياس ، ولا بد من جامع مؤثر .

ومع ذلك يكون قياسا في اللغة ، وهو باطل بما سبق .

وبهذا يبطل إلحاقهم الاستثناء بالشرط ، وهو قولهم : الاستثناء غير مستقل بنفسه فكان عائدا إلى الكل كالشرط ، وهو ما إذا قال : أكرم بني تميم وبني ربيعة إن دخلوا الدار ، كيف والفرق ظاهر ؟ فإن الشرط وإن كان متأخرا في اللفظ فهو متقدم في المعنى لوجوب تقدم الشرط على الجزاء ، فقوله : أكرم بني تميم وبني ربيعة إن دخلوا الدار في معنى قوله : إن دخل بنو تميم وبنو ربيعة الدار فأكرمهم ، ولو صرح بذلك كان صحيحا ولا كذلك في الاستثناء .

ولهذا ، فإنه لو قال : إلا أن يتوبوا اضرب بني تميم وبني ربيعة لا يكون صحيحا .

الحجة الثالثة : أن الحاجة قد تدعو إلى الاستثناء من جميع الجمل ، وأهل اللغة مطبقون على أن تكرار الاستثناء في كل جملة مستقبح ركيك مستثقل ، وذلك كما لو قال : إن دخل زيد الدار فاضربه إلا أن يتوب ، وإن زنى فاضربه إلا أن يتوب فلم يبق سوى تعقب الاستثناء للجملة الأخيرة .

ولقائل أن يقول : وإن كان ذلك مطولا غير أنه يعرف شمول الاستثناء للكل بيقين فلا يكون مستقبحا ، وإن كان مستقبحا ، فإنما يمتنع أن لو كان وضع اللغة مشروطا بالمستحسن وهو غير مسلم .

ودليله أنه لو وقع الاستثناء كذلك ، فإنه يصح لغة ويثبت حكمه ، ولولا أنه من وضع اللغة لما كان كذلك .

[ ص: 303 ] الحجة الرابعة : أن الاستثناء صالح أن يعود إلى كل واحدة من الجمل ، وليس البعض أولى من البعض فوجب العود إلى الجميع كالعام .

ولقائل أن يقول : كونه صالحا للعود إلى الجميع غير موجب لذلك ، ولهذا فإن اللفظ إذا كان حقيقة في شيء ومجازا في شيء فهو صالح للحمل على المجاز ، ولا يجب حمله على المجاز .

وما ذكروه من الإلحاق بالعموم غير صحيح لما علم مرارا .

الحجة الخامسة : أنه لو قال : علي خمسة وخمسة إلا ستة ، فإنه يصح .

ولو كان مختصا بالجملة الأخيرة لما صح ؛ لكونه مستغرقا لها .

قلنا : لا نسلم صحة الاستثناء ( على رأي لنا ) .

وإن سلمنا ، فإنما عاد إلى الجميع لقيام الدليل عليه ، وذلك لأنه لا بد من إعمال لفظه مع الإمكان ، وقد تعذر استثناء الستة من الجملة الأخيرة ؛ لكونه مستغرقا لها ، وهو صالح للعود إلى الجميع فحمل عليه ، ومع قيام الدليل على ذلك فلا نزاع ، وإنما النزاع فيما إذا ورد الاستثناء مقارنا للجملة الأخيرة من غير دليل يوجب عوده إلى ما تقدم .

الحجة السادسة : أنه لو قال القائل : بنو تميم وربيعة أكرموهم إلا الطوال ، فإن الاستثناء يعود إلى الجميع ، فكذلك إذا تقدم الأمر بالإكرام ضرورة اتحاد المعنى .

ولقائل أن يقول : حاصل ما ذكروه يرجع إلى القياس في اللغة ، وهو باطل لما علم كيف ، والفرق ظاهر ؟ ؛ لأنه إذا تأخر الأمر عن الجمل فقد اقترن باسم الجميع ، وهو قوله : أكرموهم بخلاف الأمر المتقدم ، فإنه لم يتصل باسم الفريقين ، بل باسم الفريق الأول .

الحجة السابعة : أنه إذا قال القائل : اضربوا بني تميم وبني ربيعة إلا من دخل الدار فمعناه من دخل من الفريقين .

ولقائل أن يقول : ليس تقدير هذا المعنى أولى من تقدير : إلا من دخل من ربيعة .

وأما حجج القائلين بعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فمن جهة النص والمعقول .

[ ص: 304 ] أما النص : فقوله - تعالى - : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا ) ، فإنه راجع إلى قوله : " وأولئك هم الفاسقون " ولم يرجع إلى الجلد بالاتفاق .

وأيضا قوله - تعالى - : ( فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ) ، وقوله : ( إلا أن يصدقوا ) راجع إلى الدية دون الإعتاق بالاتفاق .

قلنا : أما الآية الأولى ، فلا نسلم اختصاص الاستثناء بالجملة الأخيرة منها ، بل هو عائد إلى جميع الجمل عدا الجلد لدليل دل عليه ، وهو المحافظة على حق الآدمي .

أما الآية الأخرى ، فإنما امتنع عود الاستثناء إلى الإعتاق ؛ لأنه حق الله - تعالى - وتصدق الولي لا يكون مسقطا لحق الله - تعالى - .

التالي السابق


الخدمات العلمية