الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
المسألة الخامسة

يجوز تخصيص عموم القرآن بالسنة ، أما إذا كانت السنة متواترة فلم أعرف فيه خلافا ، ويدل على جواز ذلك ما مر من الدليل العقلي .

وأما إذا كانت السنة من أخبار الآحاد ، فمذهب الأئمة الأربعة جوازه ، ومن الناس من منع ذلك مطلقا ، ومنهم من فصل ، وهؤلاء اختلفوا فذهب عيسى بن أبان إلى أنه إن كان قد خص بدليل مقطوع به جاز تخصيصه بخبر الواحد ، وإلا فلا .

وذهب الكرخي إلى أنه إن كان قد خص بدليل منفصل لا متصل جاز تخصيصه بخبر الواحد وإلا فلا ، وذهب القاضي أبو بكر إلى الوقف .

والمختار مذهب الأئمة ، ودليله العقل والنقل .

أما النقل فهو أن الصحابة خصوا قوله - تعالى - : ( وأحل لكم ما وراء ذلكم ) بما رواه أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قوله : " لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها " >[1] .

وخصوا قوله - تعالى - : ( يوصيكم الله في أولادكم ) الآية ، بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يرث القاتل >[2] ، ولا يرث الكافر من المسلم ، ولا المسلم من الكافر " . >[3]

[ ص: 323 ] وبما رواه أبو بكر من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة " >[4] ، وخصوا قوله - تعالى - : ( كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه جعل للجدة السدس >[5] ، وخصوا قوله - تعالى - : ( وأحل الله البيع ) بما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الدرهم بالدرهمين . >[6]

، وخصوا قوله - تعالى - : ( والسارق والسارقة ) وأخرجوا منه ما دون النصاب بقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا قطع إلا في ربع دينار فصاعدا " >[7] ، وخصوا قوله - تعالى - : ( اقتلوا المشركين ) بإخراج المجوس منه بما روي عنه - عليه السلام - أنه قال : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " إلى غير ذلك من الصور المتعددة ، ولم يوجد لما فعلوه نكير فكان ذلك إجماعا .

والوقوع دليل الجواز وزيادة .

وأما المعقول : فما ذكرناه فيما تقدم في تخصيص الكتاب بالكتاب .

فإن قيل : ما ذكرتموه من التخصيص في الصور المذكورة لا نسلم أن تخصيصها كان بخبر الواحد ، ويدل عليه قوله - صلى الله عليه وسلم : " إذا روي عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فما وافقه فاقبلوه وما خالفه فردوه " والخبر فيما نحن فيه مخالف للكتاب فكان مردودا . >[8] .

[ ص: 324 ] قولهم : إن الصحابة أجمعوا على ذلك إن لم يصح فليس بحجة ، وإن صح فالتخصيص بإجماعهم عليه لا بخبر الواحد .

كيف وإنه لا إجماع على ذلك ؟ [ ص: 325 ] ويدل عليه ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كذب فاطمة بنت قيس فيما روته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة ، لما كان ذلك مخصصا لعموم قوله - تعالى - : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ) وقال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة ؟ >[9]

وإن سلمنا الإجماع على أن التخصيص كان بخبر الواحد ، لكن ليس في ذلك ما يدل على أن قول الواحد بمجرده مخصص ، بل ربما قامت الحجة عندهم على صدقه وصحة قوله بقرائن وأدلة اقترنت بقوله فلا يكون مجرد إخباره حجة .

وأما ما ذكرتموه من المعقول ، فنقول : خبر الواحد ، وإن كان نصا في مدلوله نظرا إلى متنه غير أن سنده مظنون محتمل للكذب بخلاف القرآن المتواتر ، فإنه قطعي السند وقطعي في دلالته على كل واحد من الآحاد الداخلة فيه لما بيناه في المسألة المتقدمة ، فلا يكون خبر الواحد واقعا في معارضته كما في النسخ .

وإن سلمنا أن العموم ظني الدلالة بالنسبة إلى آحاده ، لكن متى إذا خص بدليل مقطوع على ما قاله عيسى بن أبان أو بدليل منفصل على ما قاله الكرخي أو قبل التخصيص ؟ الأول مسلم لكونه صار مجازا ظنيا ، والثاني ممنوع لبقائه على حقيقته ، وعند ذلك فيمتنع التخصيص بخبر الواحد مطلقا لترجيح العام عليه قبل التخصيص ، بكونه قاطعا في متنه وسنده .

[ ص: 326 ] وإن سلمنا أن دلالة العام بالنظر إلى متنه ظنية مطلقا غير أنه قطعي السند والخبر ، وإن كان قاطعا في متنه فظني في سنده فقد تقابلا وتعارضا ووجب التوقف على دليل خارج لعدم أولوية أحدهما كما قاله القاضي أبو بكر .

والجواب قد بينا أن الصحابة أجمعوا على تخصيص العمومات بأخبار الآحاد حيث إنهم أضافوا التخصيص إليها من غير نكير فكان إجماعا .

وما ذكروه من الخبر ، فإنما يمنع من تخصيص عموم القرآن بالخبر أن لو كان الخبر المخصص مخالفا للقرآن ، وهو غير مسلم ، بل هو مبين للمراد منه فكان مقررا لا مخالفا ، ويجب اعتقاد ذلك حتى لا يفضي إلى تخصيص >[10] ما ذكروه من الخبر بالخبر المتواتر من السنة ، فإنه مخصص للقرآن من غير خلاف .

قولهم : إن صح إجماع الصحابة فالتخصيص بإجماعهم لا بالخبر ليس كذلك ، فإن إجماعهم لم يكن على تخصيص تلك العمومات مطلقا ، بل على تخصيصها بأخبار الآحاد ، ومهما كان التخصيص بأخبار الآحاد مجمعا عليه فهو المطلوب .

وأما ما ذكروه من تكذيب عمر لفاطمة بنت قيس فلم يكن ذلك لأن خبر الواحد في تخصيص العموم مردود عنده ، بل لتردده في صدقها ولهذا قال : كيف نترك كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ؟ ولو كان خبر الواحد في ذلك مردودا مطلقا لما احتاج إلى هذا التعليل .

قولهم : لم يكن إجماعهم على ذلك لمجرد خبر الواحد .

قلنا : ونحن لا نقول بأن مجرد خبر الواحد يكون مقبولا ، بل إنما يقبل إذا كان مغلبا على الظن صدقه ، ومع ذلك فالأصل عدم اعتبار ما سواه في القبول .

قولهم : إن سند الخبر ظني مسلم ، ولكن لا نسلم أن دلالة العموم على الآحاد الداخلة فيه قطعية ، لاحتماله للتخصيص بالنسبة إلى أي واحد منها قدر ، وسواء كان قد خص أو لم يكن على ما سبق بيانه .

[ ص: 327 ] وأما النسخ فلا نسلم امتناعه بخبر الواحد ، وبتقدير التسليم فلأن النسخ رفع للحكم بعد إثباته بخلاف التخصيص ؛ لأنه بيان لا رفع فلا يلزم مع ذلك من امتناع النسخ به امتناع التخصيص .

وما ذكروه من السؤال الأخير في جهة التعارض ، فجوابه أن احتمال الضعف في خبر الواحد من جهة كذبه ، وفي العام من جهة جواز تخصيصه ، ولا يخفى أن احتمال الكذب في حق من ظهرت عدالته أبعد من احتمال التخصيص العام .

ولهذا كانت أكثر العمومات مخصصة ، وليس أكثر أخبار العدول كاذبة فكان العمل بالخبر أولى ، ولأنه لو عمل بعموم العام لزم إبطال العمل بالخبر مطلقا ، ولو عمل بالخبر لم يلزم منه إبطال العمل بالعام مطلقا لإمكان العمل به فيما سوى صورة التخصيص ، والجمع بين الدليلين ولو من وجه أولى من تعطيل أحدهما ، ولأن العمل بالعام إبطال للخاص ، والعمل بالخاص بيان للعام لا إبطال له .

ولا يخفى أن البيان أولى من الإبطال .

التالي السابق


الخدمات العلمية