الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 57 ] المسألة الثانية

اختلفوا في الأسماء اللغوية : هل ثبتت قياسا أم لا ؟ فأثبته القاضي أبو بكر وابن سريج من أصحابنا وكثير من الفقهاء وأهل العربية ، وأنكره معظم أصحابنا والحنفية وجماعة من أهل الأدب مع اتفاقهم على امتناع جريان القياس في أسماء الأعلام وأسماء الصفات .

أما أسماء الأعلام ؛ فلكونها غير موضوعة لمعان موجبة لها ، والقياس لا بد فيه من معنى جامع : إما معرف وإما داع ، وإذا قيل في حق الأشخاص في زماننا : هذا سيبويه وهذا جالينوس ، فليس بطريق القياس في التسمية ، بل معناه : هذا حافظ كتاب سيبويه وعلم جالينوس بطريق التجوز ، كما يقال : قرأت سيبويه والمراد به كتابه .

وأما أسماء الصفات الموضوعة للفرق بين الصفات كالعالم وكالقادر ، فلأنها واجبة الاطراد ; نظرا إلى تحقق معنى الاسم ، فإن مسمى العالم من قام به العلم ، وهو متحقق في حق كل من قام به العلم ، فكان إطلاق اسم العالم عليه بالوضع لا بالقياس ; إذ ليس قياس أحد المسميين >[1] المتماثلين في المسمى على الآخر أولى من العكس ، وإنما الخلاف في الأسماء الموضوعة على مسمياتها مستلزمة لمعان في محالها وجودا وعدما ، وذلك كإطلاق اسم الخمر على النبيذ بواسطة مشاركته للمعتصر من العنب في الشدة المطربة المخمرة على العقل ، وكإطلاق اسم السارق على النباش بواسطة مشاركته للسارقين من الأحياء في أخذ المال على سبيل الخفية ، وكإطلاق اسم الزاني على اللائط بواسطة مشاركته للزاني في إيلاج الفرج المحرم . والمختار أنه لا قياس ; وذلك لأنه إما أن ينقل عن العرب أنهم وضعوا اسم الخمر لكل مسكر ، أو للمعتصر من العنب خاصة ، أو لم ينقل شيء من ذلك .

فإن كان الأول ، فاسم الخمر ثابت للنبيذ بالتوقيف لا بالقياس . وإن كان الثاني ، فالتعدية تكون على خلاف المنقول عنهم ولا يكون ذلك من لغتهم .

[ ص: 58 ] وإن كان الثالث ، فيحتمل أن يكون الوصف الجامع الذي به التعدية دليلا على التعدية ، ويحتمل أن لا يكون دليلا بدليل ما صرح بذلك ، وإذا احتمل ، واحتمل فليس أحد الأمرين أولى من الآخر . فالتعدية تكون ممتنعة .

فإن قيل : الوصف الجامع وإن احتمل أن لا يكون دليلا ، غير أن احتمال كونه دليلا أظهر ، وبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن الاسم دار مع الوصف في الأصل وجودا وعدما ، والدوران دليل كون وجود الوصف أمارة على الاسم فيلزم من وجوده في الفرع وجود الاسم .

الثاني : أن العرب إنما سمت باسم الفرس ، والإنسان الذي كان في زمانهم ، وكذلك وصفوا الفاعل في زمانهم بأنه رفع والمفعول نصب ، وإنما وصفوا بعض الفاعلين والمفعولين ، ومع ذلك فالاسم مطرد في زماننا بإجماع أهل اللغة في كل إنسان وفرس وفاعل ومفعول ، وليس ذلك إلا بطريق القياس .

الثالث : قوله تعالى : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) وهو عام في كل قياس ، ثم ما ذكرتموه باطل بالقياس الشرعي ، فإن كل ما ذكرتموه من الأقسام بعينه متحقق فيه ، ومع ذلك فالقياس صحيح متبع ، وهو أيضا على خلاف مذهب الشافعي فإنه سمى النبيذ خمرا وأوجب الحد بشربه وأوجب الحد على اللائط قياسا على الزنى ، وأوجب الكفارة في يمين الغموس قياسا على اليمين في المستقبل وتأول حديث ( الشفعة للجار ) بحمله على الشريك في الممر ، وقال : العرب تسمي الزوجة جارا فالشريك أولى .

قلنا : جواب الأول : أن دوران الاسم مع الوصف في الأصل وجودا وعدما لا يدل على كونه علة للاسم بمعنى كونه داعيا إليه وباعثا ، بل إن كان ولا بد فبمعنى كونه أمارة ، وكما دار مع اسم الخمر مع الشدة المطربة دار مع خصوص شدة المعتصر من العنب ، وذلك غير موجود في النبيذ فلا قياس ، [ ص: 59 ] ثم ما ذكروه منتقض بتسمية العرب للرجل الطويل نخلة ، والفرس الأسود أدهم والملون بالبياض والسواد أبلق ، والاسم فيه دائر مع الوصف في الأصل وجودا وعدما ، ومع ذلك لم يسموا الفرس والجمل لطوله نخلة ، ولا الإنسان المسود أدهم ، ولا المتلون من باقي الحيوانات بالسواد والبياض أبلق ، وكل ما هو جوابهم في هذه الصور جوابنا في موضع النزاع .

وجواب الثاني : أن ما وقع الاستشهاد به لم يكن مستند التسمية فيه على الإطلاق القياس ، بل العرب وضعت تلك الأسماء للأجناس المذكورة بطريق العموم لا أنها وضعتها للمعين ثم طرد القياس في الباقي .

وجواب الثالث : بمنع العموم في كل اعتبار ، وإن كان عاما في المعتبر >[2] ، فلا يدخل فيه القياس في اللغة ، وأما النقض بالقياس الشرعي فغير متجه من جهة أن اجتماع الأمة من السلف عندنا أوجب الإلحاق عند ظن الاشتراك في علة حكم الأصل ، حتى إنه لو لم يكن إجماع لم يكن قياس ، ولا إجماع فيما نحن فيه من الأمة السابقة على الإلحاق ، فلا قياس .

وأما تسمية الشافعي رضي الله عنه النبيذ خمرا ، فلم يكن في ذلك مستندا إلى القياس ، بل إلى قوله عليه السلام : ( إن من التمر خمرا ) >[3] ، وهو توقيف لا قياس ، وإيجابه للحد في اللواط وفي النبش ، لم يكن لكون اللواط زنى ولا لكون النبش سرقة ، بل لمساواة اللواط للزنى والنبش للسرقة في المفسدة المناسبة للحد المعتبر في الشرع .

وأما يمين الغموس ، فإنما سميت يمينا لا بالقياس بل بقوله صلى الله عليه وسلم : ( اليمن الغموس تدع الديار بلاقع ) >[4] فكان ذلك بالتوقيف .

[ ص: 60 ] وأما تسمية الشافعي للشريك جارا ، إنما كان بالتوقيف لا بالقياس على الزوجة ، وإنما ذكر الزوجة لقطع الاستبعاد في تسمية الشريك جارا لزيادة قربه بالنسبة إلى الجار الملاصق ، فقال : الزوجة أقرب من الشريك وهي جار ، فلا يستبعد ذلك فيما هو أبعد منها ، وبتقدير أن يكون قائلا بالقياس في اللغة إلا أن غيره مخالف له ، والحق من قوليهما أحق أن يتبع .

التالي السابق


الخدمات العلمية