الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 3 ] الصنف السادس في المطلق >[1] والمقيد .

أما المطلق فعبارة عن النكرة في سياق الإثبات .

فقولنا : ( نكرة ) احتراز عن أسماء المعارف وما مدلوله واحد معين أو عام مستغرق .

وقولنا : ( في سياق الإثبات ) احتراز عن النكرة في سياق النفي ، فإنها تعم جميع ما هو من جنسها ، وتخرج بذلك عن التنكير لدلالة اللفظ على الاستغراق ، وذلك كقولك في معرض الأمر " أعتق رقبة " أو مصدر الأمر كقوله ( فتحرير رقبة ) أو الإخبار عن المستقبل كقوله : " سأعتق رقبة " ولا يتصور الإطلاق في معرض الخبر المتعلق بالماضي ، كقوله : " رأيت رجلا " ضرورة تعينه من إسناد الرؤية إليه .

>[2] وإن شئت قلت : هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه .

>[3] فقولنا : ( لفظ ) كالجنس للمطلق وغيره .

وقولنا : ( دال ) احتراز عن الألفاظ المهملة .

وقولنا : ( على مدلول ) ليعم الوجود والعدم .

[ ص: 4 ] وقولنا : ( شائع في جنسه ) احتراز عن أسماء الأعلام ، وما مدلوله معين أو مستغرق .

وأما المقيد فإنه يطلق باعتبارين .

الأول : ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين ، كزيد وعمرو ، وهذا الرجل ونحوه .

الثاني : ما كان من الألفاظ دالا على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة عليه كقولك : " دينار مصري ، ودرهم مكي " .

وهذا النوع من المقيد ، وإن كان مطلقا في جنسه من حيث هو دينار مصري ودرهم مكي ، غير أنه مقيد بالنسبة إلى مطلق الدينار والدرهم ، فهو مطلق من وجه ، ومقيد من وجه .

وإذا عرف معنى المطلق والمقيد ، فكل ما ذكرناه في مخصصات العموم من المتفق عليه ، والمختلف فيه ، والمزيف ، والمختار ; فهو بعينه جار في تقييد المطلق ، فعليك باعتباره ونقله إلى هاهنا .

ونزيد مسألة أخرى ، وهي أنه إذا ورد مطلق ومقيد ، فلا يخلو .

إما أن يختلف حكمهما ، أو لا يختلف : فإن اختلف حكمهما . فلا خلاف في امتناع حمل أحدهما على الآخر ، وسواء كانا مأمورين أو منهيين ، أو أحدهما مأمورا والآخر منهيا ، وسواء اتحد سببهما أو اختلف ؛ لعدم المنافاة في الجمع بينهما إلا في صورة واحدة ، وهي ما إذا قال مثلا في كفارة الظهار " أعتقوا رقبة " ثم قال " لا تعتقوا رقبة كافرة " فإنه لا خلاف في مثل هذه الصورة أن المقيد يوجب تقييد الرقبة المطلقة بالرقبة المسلمة .

وعليك باعتبار أمثلة هذه الأقسام ، فإنها سهلة .

وأما إن لم يختلف حكمهما ، فلا يخلو إما أن يتحد سببهما ، أو لا يتحد : فإن اتحد سببهما ، فإما أن يكون اللفظ دالا على إثباتهما أو نفيهما ، فإن كان الأول كما لو قال في الظهار : " أعتقوا رقبة " ، ثم قال : " أعتقوا رقبة مسلمة " فلا نعرف خلافا في حمل المطلق على المقيد هاهنا ، وإنما كان كذلك ؛ لأن من عمل بالمقيد فقد وفى بالعمل بدلالة المطلق ، ومن عمل بالمطلق لم يف بالعمل بدلالة المقيد ، فكان الجمع هو الواجب والأولى .

[ ص: 5 ] فإن قيل بطريق الشبهة إذا كان حكم المطلق إمكان الخروج عن عهدته ، بما شاء المكلف من ذلك الجنس فالعمل بالمقيد مما ينافي مقتضى المطلق ، وليس مخالفة المطلق ، وإجراء المقيد على ظاهره أولى من تأويل المقيد بحمله على الندب وإجراء المطلق على إطلاقه .

قلنا : بل التقييد أولى من التأويل لثلاثة أوجه .

الأول : أنه يلزم منه الخروج عن العهدة بيقين ، ولا كذلك في التأويل .

الثاني : أن المطلق إذا حمل على المقيد ، فالعمل به فيه لا يخرج عن كونه موفيا للعمل باللفظ المطلق في حقيقته ، ولهذا لو أداه قبل ورود التقييد ، كان قد عمل باللفظ في حقيقته ، ولا كذلك في تأويل المقيد وصرفه عن جهة حقيقته إلى مجازه .

الثالث : أن الخروج عن العهدة بفعل أي واحد كان من الآحاد الداخلة تحت اللفظ المطلق لم يكن اللفظ دلالة عليه بوضعه لغة ، بخلاف عما دل عليه المقيد من صفة التقييد .

ولا يخفى أن المحذور في صرف اللفظ عما دل عليه اللفظ لغة أعظم من صرفه عما لم يدل عليه بلفظه لغة .

وأما إن كان دالا على نفيهما أو نهي عنهما ، كما لو قال مثلا في كفارة الظهار : " لا تعتق مكاتبا كافرا " فهذا أيضا مما لا خلاف في العمل بمدلولهما ، والجمع بينهما في النفي ؛ إذ لا تعذر فيه .

وأما إن كان سببهما مختلفا كقوله تعالى في كفارة الظهار ( والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة ) وقوله تعالى في القتل الخطأ ( ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ) فهذا مما اختلف فيه .

فنقل عن الشافعي - رضي الله عنه - تنزيل المطلق على المقيد في هذه الصورة ، لكن اختلف الأصحاب في تأويله .

فمنهم من حمله على التقييد مطلقا من غير حاجة إلى دليل آخر .

ومنهم من حمله على ما إذا وجد بينهما علة جامعة مقتضية للإلحاق ، وهو الأظهر من مذهبه .

وأما أصحاب أبي حنيفة فإنهم منعوا من ذلك مطلقا .

[ ص: 6 ] ولنذكر حجة كل فريق ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .

أما حجة من قال بالتقييد من غير دليل ، فهي أن كلام الله تعالى متحد في ذاته لا تعدد فيه فإذا نص على اشتراط الإيمان في كفارة القتل ، كان ذلك تنصيصا على اشتراطه في كفارة الظهار ، ولهذا حمل قوله تعالى ( والذاكرات ) على قوله في أول الآية ( والذاكرين الله كثيرا ) من غير دليل خارج .

وهذا مما لا اتجاه له ، فإن كلام الله تعالى إما أن يراد به المعنى بالنفس ، أو العبارات الدالة عليه .

والأول ، وإن كان واحدا لا تعدد فيه ، غير أن تعلقه بالمتعلقات مختلف باختلاف المتعلق ، ولا يلزم من تعلقه بأحد المختلفين بالإطلاق والتقييد ، أو العموم والخصوص ، أو غير ذلك ، أن يكون متعلقا بالآخر وإلا كان أمره ونهيه ببعض المختلفات أمرا ونهيا بباقي المختلفات ، وهو محال متناقض ، بل وكان يلزم من تعلقه بالصوم المقيد في الحج بالتفريق ، حيث قال تعالى ( فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ) وبالتتابع في الظهار حيث قال ( فصيام شهرين متتابعين ) أن يتقيد الصوم المطلق في اليمين ، إما بالتتابع أو التفريق ، وهو محال ، أو بأحدهما دون الآخر ولا أولوية .

كيف وإنه يلزم من تقييده بأحدهما دون الآخر ، إبطال ما ذكروه من أن التنصيص على أحد المختلفين يكون تنصيصا على الآخر .

وإن أريد به العبارة الدالة ، فهي متعددة غير متحدة ، ولا يلزم من دلالة بعضها على بعض الأشياء المختلفة ، دلالته على غيره ، وإلا لزم من ذلك المحال الذي قدمنا لزومه في الكلام النفساني .

>[4] وأما ما ذكروه من حمل الذاكرات على الذاكرين الله كثيرا ، فلا نسلم أن ذلك من غير دليل .

ودليله أن قوله تعالى ( والذاكرات ) معطوف على قوله ( والذاكرين الله كثيرا [ ص: 7 ] ) ولا استقلال له بنفسه ، فوجب رده إلى ما هو معطوف عليه ومشارك له في حكمه .

وأما حجة أصحاب أبي حنيفة ، فإنهم قالوا : إذا امتنع التقييد من غير دليل لما سبق . فلا بد من دليل ولا نص من كتاب أو سنة يدل على ذلك ، والقياس يلزم منه رفع ما اقتضاه المطلق من الخروج عن العهدة بأي شيء كان ، مما هو داخل تحت اللفظ المطلق ، كما سبق تقريره ، فيكون نسخا ، ونسخ النص لا يكون بالقياس .

ولقائل أن يقول : لا نسلم أنه يلزم من القياس نسخ النص المطلق ، بل تقييده ببعض مسمياته ، وذلك لا يزيد على تخصيص العام بالقياس عندكم ، فكذلك التقييد .

كيف وإن لفظ ( الرقبة ) مطلق بالنسبة إلى السليمة والمعيبة ، وقد كان مقتضى ذلك أيضا الخروج عن العهدة بالمعيبة ، وقد شرطتم صفة السلامة ، ولم يدل عليه نص من كتاب أو سنة .

وإن كان بالقياس ، فإما أن يكون نسخا ، أو لا يكون نسخا ، فإن كان الأول فقد بطل قولكم : إن النسخ لا يكون بالقياس ، وإن لم يكن نسخا ، فقد بطل قولكم : إن رفع حكم المطلق بالقياس يكون نسخا .

وأما حجة من قال بالتقييد ، بناء على القياس فالوجه في ضعفه ما سبق في تخصيص العام بالقياس فعليك بنقله إلى هاهنا .

والمختار أنه إن كان الوصف الجامع بين المطلق والمقيد مؤثرا أي بنص أو إجماع ، وجب القضاء بالتقييد ، بناء عليه ، وإن كان مستنبطا من الحكم المقيد فلا ، كما ذكرناه في تخصيص العموم .

التالي السابق


الخدمات العلمية