الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
المسألة الثانية

إذا ورد بعد اللفظ المجمل قول وفعل ، وكل واحد منهما صالح للبيان ، فالبيان بماذا منهما ؟ والحق في ذلك أنه لا يخلو إما أن يتوافقا في البيان أو يختلفا ، فإن توافقا ، فإن علم تقدم أحدهما فهو البيان لحصول المقصود به ، والثاني يكون تأكيدا إلا إذا كان دون الأول في الدلالة ، لاستحالة تأكيد الشيء بما هو دونه في الدلالة .

وإن جهل ذلك ، فلا يخلو إما أن يكونا متساويين في الدلالة ، أو أحدهما أرجح من الآخر على حسب اختلاف الوقائع والأقوال والأفعال ، فإن كان الأول : فأحدهما هو البيان ، والآخر مؤكد من غير تعيين ، وإن كان الثاني فالأشبه أن المرجوح هو المتقدم لأنا فرضنا تأخر المرجوح ، امتنع أن يكون مؤكدا للراجح ، إذ الشيء لا يؤكد بما هو دونه في الدلالة ، والبيان حاصل دونه ، فكان الإتيان به غير مفيد ، ومنصب الشارع منزه عن الإتيان بما لا يفيد ، ولا كذلك فيما إذا جعلنا المرجوح مقدما ، فإن الإتيان بالراجح بعده يكون مفيدا للتأكيد ، ولا يكون معطلا .

وأما إن لم يتوافقا في البيان ، كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه بعد آية الحج قال : " من قرن حجا إلى عمرة فليطف طوافا واحدا ، ويسعى سعيا واحدا " . >[1] [ ص: 29 ] وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قرن فطاف طوافين ، وسعى سعيين >[2] فلا يخلو : إما أن يعرف تقدم أحدهما أو يجهل ، فإن علم التقدم قال أبو الحسين : المتقدم هو البيان .

فإن تقدم الفعل كان الطواف الثاني واجبا .

وإن تقدم القول كان الطواف الثاني غير واجب ، وليس بحق ، بل الحق أن يقال : إن كان القول متقدما فالطواف الثاني غير واجب ، وفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - له يجب أن يحمل على كونه مندوبا ، وإلا فلو كان فعله له دليل الوجوب ، كان ناسخا لما دل عليه القول .

ولا يخفى أن الجمع أولى من التعطيل ، وفعله للطواف الأول يكون تأكيدا للقول ، وإن كان الفعل متقدما ، فهو وإن دل على وجوب الطواف الثاني إلا أن القول بعده يدل على عدم وجوبه ، والقول بإهمال دلالة القول ممتنع ، فلم يبق إلا أن يكون ناسخا لوجوب الطواف الثاني الذي دل عليه الفعل ، أو أن يحمل فعله على بيان وجوب الطواف الثاني في حقه دون أمته ، وأن يحمل قوله على بيان وجوب الأول دون الثاني في حق أمته دونه ، والأشبه إنما هو الثاني دون الأول ، لما فيه من الجمع بين البيانين من غير نسخ ولا تعطيل .

>[3] وأما إن جهل المتقدم منهما ، فالأولى إنما هو تقدير تقدم القول وجعله بيانا لوجهين [ ص: 30 ] الأول : أنه مستقل بنفسه في الدلالة بخلاف الفعل ، فإنه لا يتم كونه بيانا دون اقتران العلم الضروري بقصد النبي - صلى الله عليه وسلم - البيان به أو قول منه يدل على ذلك ، وذلك مما لا ضرورة تدعو إليه .

>[4] الثاني : أنا إذا قدرنا تقدم القول أمكن حمل الفعل بعده على ندبية الطواف الثاني كما تقدم تعريفه .

ولو قدرنا تقدم الفعل يلزم منه إما إهمال دلالة القول ، أو كونه ناسخا لحكم الفعل ، أو أن يكون الفعل بيانا لوجوب الطواف الثاني في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - دون أمته ، والقول دليل عدم وجوبه في حق أمته دونه ، والإهمال والنسخ على خلاف الأصل ، والافتراق بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والأمة في وجوب الطواف الثاني مرجوح بالنظر إلى ما ذكرناه من التشريك ، لكون التشريك هو الغالب دون الافتراق .

>[5]

التالي السابق


الخدمات العلمية