المسألة الرابعة  
في جواز  
تأخير البيان     : إما عن وقت الحاجة ، فقد اتفق الكل على امتناعه سوى القائلين بجواز التكليف بما لا يطاق ، ومدار الكلام من الجانبين فقد عرف فيما تقدم .  
وأما  
تأخيره عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة  ففيه مذاهب .  
فذهب أكثر أصحابنا وجماعة من أصحاب  
أبي حنيفة  إلى جوازه ، وذهب بعض أصحابنا :  
كأبي إسحاق المروزي  ،  
وأبي بكر الصيرفي  ، وبعض أصحاب  
أبي حنيفة  والظاهرية إلى امتناعه ، وذهب  
الكرخي  وجماعة من الفقهاء إلى جواز تأخير بيان المجمل دون غيره ، وذهب بعضهم إلى جواز  
تأخير بيان الأمر  دون الخبر  
>[1] وذهب  
الجبائي  وابنه  
 nindex.php?page=showalam&ids=14959والقاضي عبد الجبار  إلى جواز  
تأخير بيان النسخ  دون غيره ، وذهب  
أبو الحسين البصري  إلى جواز  
تأخير بيان ما ليس له ظاهر  كالمجمل ، وإما له ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره ، كالعام والمطلق والمنسوخ ونحوه ، فقال يجوز تأخير بيانه التفصيلي لا يجوز تأخير بيانه الإجمالي ، وهو أن يقول وقت الخطاب : هذا العموم مخصوص ، وهذا المطلق مقيد ، وهذا الحكم سينسخ .   
[ ص: 33 ] >[2] وإذا عرف تفصيل المذاهب فقد احتج أصحابنا القائلون بجواز التأخير مطلقا بحجج نقلية ، وعقلية .  
أما النقلية ، فالحجة الأولى منها قوله تعالى (  
إن علينا جمعه وقرآنه     .  
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه     .  
ثم إن علينا بيانه     ) ووجه الاحتجاج به أنه قال (  
فإذا قرأناه     ) معناه أنزلناه ، ويدل على ذلك قوله تعالى (  
فاتبع قرآنه     ) أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاتباع بفاء التعقيب ، لقوله (  
فإذا قرأناه     ) ولا يتصور ذلك قبل الإنزال لعدم معرفته به ، وإنما يكون بعد الإنزال .  
وإذا كان المراد بقوله (  
قرأناه     ) الإنزال ، فقوله (  
ثم إن علينا بيانه     ) يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال ، لأن ( ثم ) للمهلة والتراخي على ما سبق تقريره .  
>[3] ولقائل أن يقول : وإن كان المراد من قوله تعالى : (  
فإذا قرأناه     ) الإنزال ، ولكن لا نسلم أن المراد من قوله (  
ثم إن علينا بيانه     ) بيان مجمله وخصوصه وتقييده ومنسوخه ، بل المراد منه إظهاره وإشهاره ، وهو على وفق الظاهر ؛ لأن البيان هو الإظهار في اللغة ، ومنه يقال " بان لنا الكوكب الفلاني ، وبان لنا سور المدينة " إذا ظهر ، ويقال " بين فلان الأمر الفلاني " إذا أظهره وعند ذلك ، فليس حمله على ما ذكر من بيان المراد من المجمل والعام والمطلق أولى مما ذكرناه .  
>[4] كيف وإن الترجيح لهذا المعنى من جهة أن المراد من قوله تعالى (  
إن علينا جمعه وقرآنه     ) إنما هو جميع القرآن فإنه ليس اختصاص بعضه بذلك أولى من بعض .      
[ ص: 34 ] وأيضا فإنه أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالاتباع بقوله (  
فإذا قرأناه فاتبع قرآنه     ) والأمر بذلك غير خاص ببعض القرآن دون البعض إجماعا ، ولأنه لا أولوية للبعض دون البعض ؛ ولأنه لو حمل ذلك على البعض دون البعض مع كونه غير معين في اللفظ ، كان مجملا وتكليفا له بما ليس بمعلوم له ، وهو خلاف الأصل .  
وإذا ثبت أن المراد من قوله من أول الآية إنما هو جميع القرآن فالظاهر أن يكون الضمير في قوله تعالى (  
ثم إن علينا بيانه     ) عائدا إلى جميع المذكور السابق ، وهو جملة القرآن لا إلى بعضه ، لعدم الأولوية .  
وإنما يمكن ذلك بحمل البيان على ما ذكرناه لا على ما ذكروه لاستحالة افتقار كل القرآن إلى البيان بالمعنى الذي ذكروه ، فإنه ليس كل القرآن مجملا ولا ظاهرا في معنى ، وقد استعمل في غيره ، فكان ما ذكرناه أولى .  
وهذا إشكال مشكل ، وفي تحريره وتقريره على هذا الوجه يتبين للناظر المتبحر فيه إبطال كل ما يخبط به بعض المخبطين .  
>[5] وإن سلمنا أن المراد به إنما هو بيان المراد من الظاهر الذي استعمل في غير ما هو الظاهر منه ، لكن ما المانع أن يكون المراد به البيان التفصيلي ، كما قاله  
أبو الحسين البصري  ؟      
[ ص: 35 ] فإن قيل : لا يمكن ذلك لأن لفظ البيان مطلق  
>[6] فحمله على البيان التفصيلي يكون تقييدا له ، وتقييد المطلق من غير دليل ممتنع .  
قلنا : وإذا كان مطلقا ، فالمطلق لا يمكن حمله على جميع صوره ، وإلا كان عاما لا مطلقا ، بل غايته أنه إذا عمل به في صورة ، فقد وفى بالعمل بدلالته .  
وعند ذلك ، فلا يخفى أن تنزيل البيان في الآية على الإجمالي دون التفصيلي يكون تقييدا للمطلق ، وهو ممتنع من غير دليل .  
وإن لم يقل بتنزيله عليه ، فلا حجة فيه .  
وإن سلمنا أن المراد به البيان الإجمالي والتفصيلي ، غير أنه قد تعذر العمل بظاهر ( ثم ) من حيث إنها تدل على وجوب تأخير بيان كل القرآن ضرورة عود الضمير إلى الكل  
>[7] على ما سبق .  
وذلك خلاف الإجماع .  
وإذا تعذر العمل بظاهرها وجب العمل بها في مجازها وهو حملها على معنى ( الواو ) كما في قوله تعالى : (  
فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون     ) فإن ( ثم ) هاهنا بمعنى ( الواو ) ولاستحالة كون الرب شاهدا ، بعد أن لم يكن شاهدا .  
الحجة الثانية : قوله تعالى (  
الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت     ) و ( ثم ) للتأخير .  
ولقائل أن يقول : لا نسلم أن المراد من التفصيل بيان المراد من المجمل والظاهر والمستعمل في غير ما هو ظاهر فيه ، بل المراد من قوله " أحكمت " أي في اللوح المحفوظ وفصلت في الإنزال .  
الحجة الثالثة : قوله تعالى (  
ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه     ) وأراد به : بيانه للناس .   
[ ص: 36 ] ولقائل أن يقول : ظاهر ذلك للمنع من تعجيل نفس القرآن ، لا بيان ما هو المراد منه ، لما فيه من الإضمار المخالف للأصل ، وإنما منعه من تعجيل القرآن أي من تعجيل أدائه عقيب سماعه ، حتى لا يختلط عليه السماع بالأداء ، وإلا فلو أراد به البيان لما منعه عنه بالنهي للاتفاق على أن تعجيل البيان بعد الأداء غير منهي عنه .  
الحجة الرابعة : أنه تعالى أمر  
بني إسرائيل   بذبح بقرة معينة غير منكرة بقوله تعالى (  
إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة     ) ولم يعينها إلا بعد سؤالهم .  
ودليل كون المأمور به معينا أمران : الأول : أنهم سألوا تعيينها بقولهم له : "  
ادع لنا ربك يبين لنا ما هي  و (  
ما لونها     ) ولو كانت منكرة لما احتيج إلى ذلك للخروج عن العهدة بأي بقرة كانت .  
الثاني : أن قوله تعالى (  
إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر     ) و (  
إنها بقرة صفراء     ) و (  
إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث     ) والضمير في هذه جميع الكنايات  
>[8] يجب صرفه إلى ما أمروا به أولا .  
وبيانه من وجهين : الأول : أنه لو لم يكن كذلك لكان تكليفا بأمور مجددة غير ما أمروا به أولا ، ولو كان كذلك لكان الواجب من تلك الصفات المذكورة آخرا دون ما ذكر أولا ، وهو خلاف الإجماع على أن المأمور به كان متصفا بجميع الصفات المذكورة .  
الثاني : أنه لو لم يكن كذلك للزم منه أن لا يكون الجواب مطابقا للسؤال ، وهو خلاف الأصل .  
ولقائل أن يقول : لا نسلم أن البقرة المأمور بها كانت معينة في نفس الأمر بل منكرة مطلقا ، فلا تكون محتاجة إلى البيان لإمكان الخروج عن العهدة بذبح أي بقرة اتفقت ، ولا يكون ذلك من صور النزاع .  
قولهم إنهم سألوا عن تعيينها ، ولو أمروا بمنكر لما سألوا عن تعيينه .   
[ ص: 37 ] قلنا ظاهر الأمر يدل على التنكير حيث قال (  
إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة     ) .  
والقول بالتعيين مخالف للتنكير المفهوم من اللفظ ، وليس الحمل على التعيين ضرورة تصحيح سؤالهم ومخالفة ظاهر النص أولى من العكس ، بل موافقة ظاهر النص أولى .  
قولكم في الوجه الثاني : إن الضمير في جميع الكنايات عائد إلى المأمور به أولا ، لا نسلم ذلك .  
قولهم : لو لم يكن كذلك لكان ذلك تكليفا بأمور مجددة مسلم ، وما المانع منه ؟ قولكم : لو كان كذلك ، لكان الواجب من المذكورة آخرا دون ما ذكر أولا ، لا نسلم ذلك .  
وما المانع أن يكون قد أوجب عليهم بعد السؤال الأول ذبح بقرة متصفة بالصفات المذكورة أولا ، ثم أوجب بعد ذلك المذكورة ثانيا ، ولا منافاة بين الحالتين .  
قولكم : لو كان كذلك ، لما كان الجواب مطابقا للسؤال ، وهو خلاف الأصل فهو معارض بما روي  عن  
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس     - رضي الله عنهما - ، أنه قال لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجزأتهم ، لكنهم شددوا على أنفسهم ، فشدد الله عليهم     .  
>[9] وهذا يدل على أن ذلك كان ابتداء إيجاب لا بيانا ، لأن البيان ليس بتشديد بل تعيين ما هو الواجب .  
ولا يخفى أن موافقة ظاهر النص الدال على تنكير البقرة وظاهر قول  
 nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس  أولى من موافقة ما ذكروه من لزوم مطابقة الجواب للسؤال ، لما فيه من موافقة الأصلين ، ومخالفة أصل واحد ، وما ذكروه بالعكس .  
ثم وإن سلمنا أن المأمور به كان بقرة معينة في نفس الأمر ، غير أنهم سألوا البيان الإجمالي أو التفصيلي ؟  
الأول : ممنوع والثاني مسلم ، ولا يلزم من جواز  
تأخير البيان التفصيلي  ،  
تأخير البيان الإجمالي  ، كما هو مذهب  
أبي الحسين البصري     .  
وليس تقييد سؤالهم بطلب البيان مع إطلاقه بالإجمالي أولى من التفصيلي ، ولا محيص عنه .  
وربما أورد على هذا الاحتجاج ما لا اتجاه له ، كقولهم : ما المانع أن يكون البيان مقارنا للمبين ؟ غير أنهم لم يتبينوا أن الأمر بالذبح كان ناجزا ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة ممتنع .   
[ ص: 38 ] أما أولا : فلأنه لو كان البيان حاصلا ، لفهموه ظاهرا ، ولما سألوا عنه ، وأما ثانيا : فلأن الأمر بالذبح كان مطلقا ، والأمر المطلق على التراخي عند صاحب هذه الحجة على ما سبق تقريره .  
ولو كان على الفور فتأخير بيانه عنه أيضا غير ممتنع على أصله ، لكونه قائلا بجواز التكليف بما لا يطاق ، كما سبق تحقيقه .  
الحجة الخامسة : أنه لما نزل قوله تعالى (  
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون     ) قال  
عبد الله بن الزبعرى     " فقد عبدت الملائكة والمسيح أفتراهم يعذبون " والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه ، بل سكت إلى حين ما نزل عليه ذلك بعد حين ، وهو قوله (  
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون     ) وذلك يدل على جواز التأخير .  
ولقائل أن يقول : لا نسلم أن الآية لم تكن بينة حتى أنها تحتاج إلى بيان ، فإن الملائكة والمسيح إنما يمكن القول بدخولهم في عموم الآية إذ لو كانت ( ما ) تتناول من يعلم ويعقل وهو غير مسلم ، وإذا لم تكن متناولة لهم ، فلا حاجة إلى إخراج ما لا دخول له في الآية عنها .  
فإن قيل : دليل تناول ( ما ) لمن يعلم ويعقل النص والإطلاق والمعنى .  
أما النص : فقوله تعالى (  
وما خلق الذكر والأنثى     ) وقوله تعالى : (  
والسماء وما بناها     ) وقوله تعالى : (  
ولا أنتم عابدون ما أعبد     ) .  
وأما الإطلاق فمن وجهين : الأول : أن ( ما ) قد تطلق بمعنى ( الذي ) باتفاق أهل اللغة ، و ( الذي ) يصح إطلاقها على من يعقل بدليل قولهم : الذي جاء زيد ، فما كذلك .  
الثاني : أنه يصح أن يقال - ما في داري من العبيد أحرار .  
وأما المعنى فمن وجهين : الأول : هو أن  
ابن الزبعرى  كان من فصحاء العرب ، وقد فهم تناول ( ما ) لمن يعقل ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليه ذلك . 
[ ص: 39 ] الثاني : أن ( ما ) لو كانت مختصة بمن لا يعلم ، لما احتيج إلى قوله ( من دون الله ) وحيث كانت بعمومها متناولة لله تعالى احتاج إلى التقييد بقوله : " من دون الله " .  
قلنا : أما ما ذكروه من النصوص والإطلاقات فغايتها جواز إطلاق ( ما ) على من يعقل ويعلم ، ولا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه ، بل هي ظاهرة فيمن لا يعقل .  
ودليل ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -  
لابن الزبعرى  لما ذكر ما ذكر  
>[10] رادا عليه بقوله : "  
ما أجهلك بلغة قومك أما علمت أن ( ما ) لما لا يعقل و ( من ) لمن يعقل     .  
ولا يخفى أن الجمع بين الأمرين والتوفيق بين الأدلة أولى من تعطيل قول النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمل بما ذكروه .  
وإذا كانت ( ما ) ظاهرة في من لا يعقل دون من يعقل ، وجب تنزيلها على ما هي ظاهرة فيه .  
وما ذكروه من الوجه الأول في المعنى فهو باطل بما ذكرناه من إنكار النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يخفى أن اتباع قول النبي أولى من اتباع ما ظنه  
ابن الزبعرى     .  
وما ذكروه في الوجه الثاني من عدم الاحتياج إلى قوله (  
من دون الله     ) إنما يصح أن لو لم يكن فيه فائدة ، وفائدته التأكيد ، وحمل الكلام على فائدة التأسيس ، وإن كان هو الأصل ، غير أنه يلزم من حمله على فائدة التأسيس مخالفة ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - والجمع أولى من التعطيل .  
وإن سلمنا أن ( ما ) حقيقة فيمن يعقل ، غير أنا لا نسلم أن بيان التخصيص لم يكن مقارنا للآية .  
وبيان المقارنة أن دليل العقل صالح للتخصيص على ما سبق .  
والعقل قد دل على امتناع تعذيب أحد بجرم صادر من غيره ، اللهم إلا أن يكون راضيا بجرم ذلك الغير ، واحد من العقلاء لم يخطر بباله رضا الملائكة والمسيح بعبادة من عبدهم و ( ما ) مثل هذا الدليل العقلي ، فلا نسلم عدم مقارنته للآية .  
وأما نزول قوله تعالى (  
إن الذين سبقت لهم منا الحسنى     ) الآية ، فإنما ورد تأكيدا بضم الدليل الشرعي إلى الدليل العقلي ، مع الاستغناء عن أصله ، أما أن يكون هو المستقل بالبيان فلا .  
الحجة السادسة : قول الملائكة  
لإبراهيم      (  
إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين     ) ولم يبينوا إخراج  
لوط   ومن معه من المؤمنين عن الهلاك بقولهم (  
نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله     ) إلا بعد سؤال  
إبراهيم   وقوله (  
إن فيها لوطا     ) .   
[ ص: 40 ] ولقائل أن يقول : لا نسلم تأخر البيان عن هذه الآية ، بل هو مقترن بها .  
ودليله قول الملائكة في تعليل الهلاك : "  
إن أهلها كانوا ظالمين     " وذلك لا يدخل فيها إلا من كان ظالما .  
كيف وإنه لم يتخلل بين قول الملائكة غير سؤال  
إبراهيم   وهو قوله (  
إن فيها لوطا     ) وما مثل هذا لا يعد تأخيرا للبيان ، فإن مثل ذلك قد يجري إما بسبب انقطاع نفسه أو سعال فيما بين البيان والمبين ، ولا يعد ذلك من المبين تأخيرا .  
ومبادرة  
إبراهيم   إلى السؤال ومنعهم  
>[11] من اقتران البيان بالمبين نازل منزلة انقطاع النفس والسعال ، حتى إنه لو لم يبادر بالسؤال لبادروا بالبيان .  
الحجة السابعة :  
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنفذ  معاذا  إلى  اليمن   ليعلمهم الزكاة وغيرها ، فسألوه عن الوقص ، فقال : " ما سمعت فيه شيئا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حتى أرجع إليه فأسأله     "  
 >[12] وذلك دليل على أن بيانه لم يتقدم .  
ولقائل أن يقول كون  
معاذ  لم يسمع البيان ولم يعرفه لا يدل على عدم  
مقارنة البيان للمبين     .  
كيف ويمكن أن يقال الأصل عدم وجوب الزكاة في الأوقاص وغيرها ، غير أن الشارع أوجب فيما أوجب ، وبقي الباقي على حكم العقل ، وذلك صالح للبيان والتخصيص ، هذا ما يتعلق بالمنقول ، وأما الحجج العقلية :  
فأولها : أنه لو كان تأخير البيان ممتنعا ، فإما أن يكون امتناعه لذاته أو لغيره ، وذلك إما أن يعرف بضرورة العقل أو نظره ، وكل واحد من الأمرين منتف ، فلا امتناع .  
ولقائل أن يقول : ولو كان جائزا ، فإما أن يعرف بضرورة العقل أو نظره ، وكل واحد من الأمرين منتف فلا جواز ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر وكل ما هو جواب له هاهنا فهو جوابه فيما ذكر .  
الحجة الثانية : أنه لو امتنع تأخير البيان لامتنع تأخيره في الزمن القصير وامتنع عطف الجمل المتعددة إذا كان بيان الأولى متأخرا عن الجمل المعطوف عليها ، ولما جاز البيان بالكلام الطويل ، واللازم ممتنع .   
[ ص: 41 ] ولقائل أن يقول : إنما يجوز  
تأخير البيان في الزمان القصير  إذا كان مع قصره لا يعد المتكلم معرضا عن كلامه الأول ، فإن كلامه الثاني مع الأول معدود كالجملة الواحدة ، وذلك لا يعد تأخيرا للبيان .  
وهذا بخلاف ما إذا تطاول الزمان تطاولا يعد به المتكلم بالكلام الأول معرضا عن كلامه ، ولهذا فإنه يجوز لغة وعرفا أن يتكلم الإنسان بكلام يقصر فهم السامع عنه ، ويبينه بعد الزمان القصير من غير استهجان بخلاف ما إذا بينه بعد الزمان المتطاول ، فلا يلزم من التأخير ثم التأخير هاهنا .  
وأما الجمل المعطوفة فنازلة منزلة الجملة الواحدة ، فالبيان المتعقب للجمل المعطوفة ينزله منزلة تعقبه للجملة الواحدة .  
وأما  
البيان بالكلام الطويل  فإنما يجوزه الخصم إذا لم يكن  
>[13] حصول البيان إلا به ، أو كانت المصلحة فيه أتم من الكلام القصير وإلا فلا .  
الحجة الثالثة : أنه لو قبح تأخير البيان ، لكان ذلك لعدم تبين المكلف ، وذلك مقتضى قبح الخطاب إذا بين له ، ولم يتبين ، فإنه لا فرق في ذلك بين ما امتنع بأمر يرجع إلى نفسه أو إلى غيره .  
ولهذا يسقط تكليف الإنسان إذا مات ، سواء قتل هو نفسه ، أو قتله غيره واللازم ممتنع .  
ولقائل أن يقول : نسلم أن قبح تأخير البيان لما فيه من فقد التبين المنسوب إلى المخاطب ، ولا يلزم من ذلك قبحه عند عدم تبين المكلف إذا بين له ؛ لكونه منسوبا إلى تقصير المكلف ، لا إلى المخاطب ، وسقوط التكليف عن الميت إنما كان لعدم تمكنه المشروط في التكليف ، وذلك لا يفترق بأن يكون قد فات بفعله أو بفعل غيره .  
والمختار في ذلك : أما من جهة النقل فقوله تعالى (  
واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه     ) إلى قوله (  
ولذي القربى     ) ثم بين بعد ذلك أن السلب للقاتل ، وأن المراد بذوي القربى  
بنو هاشم   وبنو المطلب   دون  
بني أمية   وبني نوفل   بمنعه لهم من ذلك حتى أنه لما سئل عن ذلك قال :  
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355290إنا  وبنو هاشم   والمطلب   لم نفترق في      [ ص: 42 ] جاهلية ولا إسلام ، ولم نزل هكذا ، وشبك بين أصابعه     .  
>[14] فإن قيل : المتأخر إنما هو البيان المفصل ، ونحن لا نمنع من ذلك ، وإنما نمنع من تأخير البيان المجمل  
>[15] ، ولا دلالة لما ذكرتموه على تأخيره .  
قلنا : إذا سلم عدم اقتران البيان التفصيلي بهذه الآية ، فهو حجة على من نازع فيه ، وهي حجة على من نازع في تأخير البيان الإجمالي ، حيث إنها ظاهرة في العموم لكل ذوي القربى ولم ينقل أحد من أهل النقل وأرباب الأخبار ما يشير إلى البيان الإجمالي أيضا ، مع أن الأصل عدمه ، ولو كان لما أهمل نقله غالبا .  
وأيضا ، ما روي  
nindex.php?page=hadith&LINKID=10355291أن  جبريل      - عليه السلام - قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : " اقرأ ، قال : وما أقرأ ؟ كرر عليه ذلك ثلاث مرات " ثم قال له (  اقرأ باسم ربك الذي خلق     )  >[16] أخر بيان ما أمره به أولا من إجماله إلى ما بعد ثلاث مرات من أمر  
جبريل   ، وسؤال النبي ، مع إمكان بيانه أولا .  
وذلك دليل جواز التأخير .  
فإن قيل : أمره له بالقراءة مطلق ، وذلك إما أن يكون مقتضاه الوجوب على الفور ، أو التراخي ، فإن كان الأول ، فقد أخر البيان عن وقت الحاجة ، وإن كان الثاني ، فلا شك في إفادته جواز الفعل في الزمن الثاني من وقت الأمر ، وتأخير البيان عنه تأخير له عن وقت الحاجة ، وذلك ممتنع بالإجماع .  
فترك الظاهر لازم لنا ولكم ، والخلاف إنما وقع في تأخير البيان إلى وقت الحاجة ، وليس فيما ذكرتموه دلالة عليه .  
قلنا : أما إن الأمر ليس مقتضاه الوجوب على الفور فقد تقدم ، وإذا كان على التراخي ، فلا نسلم لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة .  
قولكم إنه يفيد جواز الفعل في الزمان الثاني من وقت الأمر .   
[ ص: 43 ] قلنا متى ، إذا كان الفعل المأمور به مبينا ، أو إذا لم يكن مبينا ؟ الأول مسلم ، والثاني ممنوع .  
وإن سلمنا ذلك ، لكن لا نسلم أن الحاجة داعية إلى معرفته مع قطع النظر عن وجوبه وعدم المؤاخذة بتركه ، بدليل ما قبل الأمر .  
وأيضا فإنه لما نزل قوله تعالى (  
أقيموا الصلاة     ) مع أنه لم يرد بها مطلق الدعاء إجماعا لم يقترن بها البيان ، بل أخر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها إلى أن بين ذلك  
جبريل   للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك ، وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك لغيره بعد بيان  
جبريل   له .  
وكذلك نزل قوله تعالى (  
وآتوا الزكاة     ) مطلقا ، ثم بين النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك مقدار الواجب وصفته في النقود والمواشي وغيرها من أموال الزكاة شيئا فشيئا .  
وكذلك نزل قوله تعالى (  
والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما     ) ثم بين بعد ذلك ما يجب القطع بسرقته في مقداره وصفته على التدريج .  
وكذلك نزل قوله تعالى (  
وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم     ) ثم نزل تخصيصه بقوله تعالى (  
ليس على الضعفاء ولا على المرضى     ) إلى غير ذلك من الأوامر العامة التي لم تبين تفاصيلها إلا بعد مدد .  
فإن قيل : المؤخر في جميع هذه الأوامر إنما هو البيان التفصيلي ، وليس فيها ما يدل على  
تأخير البيان الإجمالي     .  
كيف وإن الأمر إما أن يكون على الفور ، أو التراخي ، وتمام الإشكال ما سبق .  
قلنا : وجواب الإشكالين أيضا ما سبق .  
وأيضا ، فإن العمومات الواردة في البيع والنكاح والإرث وردت مطلقة ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين بعد ذلك على التدريج ما يصح بيعه وما لا يصح ، ومن يحل نكاحها ومن لا يحل ، وصفات العقود وشروطها ، ومن يرث ومن لا يرث ، ومقادير المواريث شيئا فشيئا .  
ومن نظر في جميع عمومات القرآن والسنة وجدها كذلك .  
وأيضا ، فإنه لما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة ، وشكى  
الأنصار   إليه بعد ذلك رخص لهم في العرايا ، وهي نوع من المزابنة ، مع أنه لم ينقل أنه اقترن بنهيه عن ذلك بيان مجمل ولا مفصل ، وهو لا يخلو إما أن يكون ذلك نسخا أو تخصيصا وعلى كلا التقديرين فهو حجة على المخالف فيه .   
[ ص: 44 ] وأما من جهة المعقول : فهو أنه لو امتنع تأخير البيان لم يخل ، إما أن يكون ذلك ممتنعا لذاته أو لأمر من خارج .  
لا جائز أن يكون لذاته ، فإنا لو فرضناه واقعا لا يلزم عنه المحال لذاته ، وإن كان لأمر خارج ، فلا يخفى أنه لا فارق بين حالة وجود البيان وعدمه سوى علم المكلف بالمراد من الكلام ، حالة وجود البيان ، وجهله به حالة عدمه .  
فلو امتنع تأخير البيان ، لكان لما قارنه من جهل المكلف بالمراد ولو كان كذلك لامتنع تأخير بيان النسخ ، لما فيه من الجهل بمراد الكلام الدال بوضعه على تكرر الفعل على الدوام ، واللازم ممتنع فالملزوم ممتنع .  
وهذه الطريقة لازمة على كل من منع من تأخير بيان المجمل والعام والمقيد وكل ما أريد به غير ما هو ظاهر فيه .  
وجوزه في النسخ ،  
كالجبائي  وأبي هاشم   nindex.php?page=showalam&ids=14959والقاضي عبد الجبار  وغيرهم .  
اعترض  
 nindex.php?page=showalam&ids=14959القاضي عبد الجبار  ، وقال  
الفرق بين تأخير بيان النسخ وتأخير بيان المجمل  هو أن تأخير بيان النسخ مما لا يخل بالتمكن من الفعل في وقته ، بخلاف بيان صفة العبادة ، فإنه لا يتأتى معه فعل العبادة في وقتها للجهل بصفتها .  
والفرق بين تأخير تخصيص بيان العموم وتأخير بيان النسخ  من وجهين .  
الأول : أن الخطاب المطلق الذي أريد نسخه معلوم أن حكمه مرتفع لعلمه بانقطاع التكليف ، ولا كذلك المخصوص .  
الثاني : أن تأخير بيان تخصيص العموم ، مع تجويز إخراج بعض الأشخاص منه من غير تعيين مما يوجب الشك في كل واحد من أشخاص المكلفين ، هل هو مراد بالخطاب أم لا ، ولا كذلك في تأخير بيان النسخ .  
وجواب الفرق بين الإجمال والنسخ أن وقت العبادة إنما هو وقت دعو الحاجة إليها ، لا قبل ذلك ، ووقت الحاجة إليها فالبيان لا يكون متأخرا عنه ، فلا يلزم من تأخير بيان صفة العبادة عنها في غير وقتها ووجوده في وقتها تعذر الإتيان بالعبادة في وقتها .  
وجواب الفرق الأول بين العموم والنسخ هو أن حكم الخطاب المطلق ، وإن علم ارتفاعه بانقطاع التكليف ، فذلك مما يعم التخصيص والنسخ ، لعلمنا بانقطاع      
[ ص: 45 ] التكليف بالموت في الحالتين .  
وإنما الخلاف فيما قبل حالة الموت مع وجود الدليل الظاهر المتناول لكل الأشخاص واللفظ الظاهر المتناول لجميع أوقات الحياة .  
وعند ذلك ، إذا جاز رفع حكم الخطاب الظاهر المتناول لجميع الأوقات ، مع فرض الحياة والتمكن منه غير دليل مبين في الحال جاز تخصيص بعض من تناوله اللفظ بظهوره مع التمكن من غير دليل مبين في الحال أيضا ؛ لتعذر الفرق بين الحالتين .  
وجواب الفرق الثاني أن  
تأخير بيان التخصيص  ، وإن أوجب التردد في كل واحد من أشخاص المكلفين أنه داخل تحت الخطاب أم لا ، فتأخير بيان النسخ عندما إذا أمر بعبادة متكررة في كل يوم مما يوجب التردد في أن العبادة في كل يوم عدا اليوم الأول . هل هي داخلة تحت الخطاب العام لجميع الأيام أم لا .  
وإذا جاز ذلك في أحد الطرفين ، جاز في الطرف الآخر ضرورة تعذر الفرق ، وكذلك أيضا فإنه إذا أمر بعبادة في وقت مستقبل أمرا عاما فإن ما من شخص إلا ويحتمل اخترامه قبل دخول ذلك الوقت ، ويخرج بذلك عن دخوله تحت الخطاب العام .  
وذلك مما يوجب التردد في كل واحد واحد من الأشخاص هل هو داخل تحت ذلك الخطاب إذا لم يرد البيان به ، ومع ذلك فإنه غير ممتنع إجماعا .  
شبه المخالفين منها ما يختص  
بتأخير بيان المجمل  ، ومنها ما يختص بتأخير بيان ما له ظاهر أريد به غير ما هو ظاهر فيه .  
أما الشبه الخاصة بالمجمل فشبهتان : الأولى : أنه  
لا فرق بين الخطاب باللفظ المجمل الذي لا يعرف له مدلول من غير بيان ، وبين الخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان     .  
وعند ذلك ، فإما أن يقال بحسن المخاطبة بهما ، أو بأحدهما دون الآخر أو لا بواحد منهما : الأول : يلزم منه حسن المخاطبة بما وضعه مع نفسه من غير بيان ، وهو في غاية الجهالة ، والثاني أيضا ممتنع لعدم الأولوية ، والثالث : هو المطلوب .  
الشبهة الثانية : أن المقصود من الخطاب إنما هو التفاهم ،  
والمجمل الذي لا يعرف مدلوله  من غير بيان له في الحال لا يحصل منه التفاهم ، فلا يكون مفيدا ، وما لا فائدة فيه لا تحسن المخاطبة به ؛ لكونه لغوا ، وهو قبيح من الشارع كما لو خاطب بكلمات مهملة لم توضع في لغة من اللغات لمعنى على أن يبين المراد منها بعد ذلك .   
[ ص: 46 ] وأما الشبهة الخاصة بما استعمل من الظواهر في غير ما هو ظاهر فيه فثلاث شبه ، الأولى : إنه إن جاز الخطاب بمثل ذلك من غير بيان له في الحال ، فإما أن يقال : بجواز تأخير بيانه إلى مدة معينة ، فهو تحكم لم يقل به قائل .  
وإن كان ذلك إلى غير نهاية فيلزم منه بقاء المكلف عاملا أبدا بعموم قد أريد به الخصوص ، وهو في غاية التجهيل .  
الثانية : أنه إذا خاطب الشارع بما يريد به غير ظاهره ، فإما أن لا يكون مخاطبا لنا في الحال أو يكون مخاطبا لنا به حالا : الأول خلاف الإجماع ، وإن كان الثاني ، فلا بد وأن يكون قاصدا لتفهيمنا بخطابه حالا ، وإلا خرج عن كونه مخاطبا لنا حالا ، وهو خلاف الفرض . وبيان لزوم ذلك أن المعقول من قول القائل " خاطب فلان فلانا " أنه قصد تفهيم كلامه له .  
وإذا كان قاصدا للتفهيم في الحال ، فإن قصد تفهيم ما هو الظاهر من كلامه فقد قصد تجهيلنا ، وهو قبيح ، وإن قصد تفهيم ما هو المراد منه فقد قصد ما لا سبيل لنا إليه دون البيان ، وهو أيضا قبيح .  
الثالثة : أنه لو جاز أن يخاطبنا بالعموم ويريد به الخصوص من غير بيان له في الحال لتعذر معرفة المراد من كلامه مطلقا ، وذلك لأن ما من لفظ يبين به المراد إلا ويجوز أن يكون قد أراد به غير ( ما هو ) الظاهر منه ولم يبينه لنا ، وذلك مما يخل بمقصود الخطاب مطلقا ، وهو ممتنع .  
والجواب عن الشبهة الأولى بالفرق وهو أن اللفظ المجمل ، وإن لم يعلم منه المراد بعينه ، فقد علم المكلف أنه مخاطب بأحد مدلولاته المعينة المفهومة له ، وبذلك يتحقق اعتقاده للوجوب والعزم على الفعل بتقدير البيان والتعيين ، فكان مفيدا بخلاف الخطاب ، بما لا يفهم منه شيء أصلا ، كما فرضوه .  
وبهذا يكون جواب الشبهة الثانية .  
وعن الشبهة الثالثة : أن تأخير البيان إنما يجوز إلى الوقت الذي تدعو الحاجة فيه إلى البيان ، وذلك لا يكون إلا معينا في علم الله تعالى ، ويجوز أن يكون معلوما للرسول بإعلام الله تعالى ( له ) .  
وعند ذلك فأي وقت وجب على المكلف العمل      
[ ص: 47 ] بمدلول اللفظ فيه ، فذلك هو وقت الحاجة إلى البيان ، والبيان لا يكون إذ ذاك متأخرا لما فيه من تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وقبل وقت الوجوب ، فلا عمل للمكلف ، حتى يقال بأنه عامل بعموم أريد به الخصوص ، بل غايته أنه يعتقد ذلك ولا امتناع فيه كما لو أمر بعبادة متكررة كل يوم ، فإنه لا يمتنع اعتقاده لعموم ذلك في جميع الأيام ، مع جواز نسخها في المستقبل وإن لم يرد بذلك بيان ، وكل ما يعتذر به في النسخ فهو عذر لنا هاهنا .  
وعن الشبهة الرابعة من وجهين : الأول : أنه وإن لزم من كونه مخاطبا لنا أن يكون قاصدا لتفهيمنا في الحال ، لكن لا لنفس ما هو الظاهر من كلامه فقط ، بل يفهم ما هو الظاهر من كلامه مع تجويز تخصيصه ، وليس في ذلك تجهيل ولا إحالة ، وذلك مما لا يمنع ورود المخصص بعد ذلك ، وإلا لما كان مجوز التخصيص ، وهو خلاف الفرض .  
الثاني : أنه يلزم على ما ذكروه الخطاب بما علم الله أنه سينسخه ، فإن جميع ما ذكر من الأقسام بعينها متحققة فيه ، ومع ذلك جاز الخطاب به مع تأخير بيانه .  
وعن الخامسة من وجهين :  
الأول : أنه لا يمتنع أن يكون البيان ، إما بدليل قاطع لا يسوغ فيه احتمال التأويل ، أو ظني اقترن به من القرائن ما أوجب العلم بمدلول كلامه .  
الثاني : أنه يلزم على ما ذكروه الخطاب الوارد الذي علم الله نسخ حكمه مع تأخير البيان عنه ، والجواب يكون متحدا .