الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
القسم الثالث : ما يكون حرفا وفعلا كحاشا وخلا وعدا ، فإنها تخفض ما بعدها بالحرفية وقد تنصبه بالفعلية .

ومنها الحرف المضارع للفعل ، وهو ينصب الاسم ويرفع الخبر مثل : إن ، وأن ، ولكن ، وكأن ، وليت ، ولعل .

ومنها حروف العطف وهي عشرة منها أربعة تشترك في جمع المعطوف والمعطوف عليه في حكم غير أنها تختلف في أمور أخرى .

وهذه هي : ( الواو ، والفاء ، وثم ، وحتى ) .

أما " الواو " فقد اتفق جماهير أهل الأدب على أنها للجمع غير مقتضية ترتيبا ولا معية ، ونقل عن بعضهم أنها للترتيب مطلقا ، ونقل عن الفراء أنها للترتيب حيث يستحيل الجمع كقوله : ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا ) .

وقيل : إنها ترد بمعنى " أو " كقوله تعالى : ( أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع ) قيل : أراد مثنى أو ثلاث أو رباع ، وقد ترد للاستئناف كالواو في قوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) تقديره : والراسخون يقولون آمنا به ، وقد ترد بمعنى " مع " في باب المفعول معه ، تقول : جاء البرد والطيالسة ، وقد ترد بمعنى " إذ " قال الله تعالى : ( ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا ) إلى قوله : ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم ) أي إذ طائفة قد أهمتهم أنفسهم .

[ ص: 64 ] احتج القائلون بالجمع المطلق من تسعة أوجه :

الأول : أنه لو كانت " الواو " في قول القائل ( رأيت زيدا وعمرا ) للترتيب لما صح قوله تعالى : ( وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) في آية ، وفي آية أخرى : ( وقولوا حطة وادخلوا الباب سجدا ) مع اتحاد القضية ; لما فيه من جعل المتقدم متأخرا والمتأخر متقدما .

الثاني : أنه لو كانت للترتيب لما حسن قول القائل " تقاتل زيد وعمرو " إذ لا ترتيب فيه .

الثالث : أنه كان يلزم أن يكون قول القائل " جاء زيد وعمرو " كاذبا ثم مجيئهما معا أو تقدم المتأخر ، وليس كذلك .

الرابع : أنه كان يلزم أن يكون قوله " رأيت زيدا وعمرا بعده " تكريرا و " قبله " تناقضا .

الخامس : أنها لو كانت للترتيب لما حسن الاستفسار عن تقدم أحدهما وتأخر الآخر ; لكونه مفهوما من ظاهر العطف .

السادس : أنه كان يجب على العبد الترتيب عند قول سيده له : إيت بزيد وعمرو .

السابع : هو أن واو العطف في الأسماء المختلفة جارية مجرى واو الجمع وفي الأسماء المتماثلة مجرى ياء التثنية ، وهما لا يقتضيان الترتيب فكذلك ما هو جار مجراهما .

الثامن : أن الجمع المطلق معقول ، فلا بد له من حرف يفيده ، وليس ثم من الحروف سوى ( الواو ) بالإجماع فتعين أن يكون هو ( الواو ) .

التاسع : أنها لو أفادت الترتيب لدخلت في جواب الشرط كالفاء ، ولا يحسن أن يقال : ( إذا دخل زيد الدار وأعطه درهما ) كما يحسن أن يقال ( فأعطه درهما ) .

ولقائل أن يقول : على الوجه الأول إذا كان من أصل المخالف أن " الواو " ظاهرة في الترتيب فلا يمنع ذلك من حملها على غير الترتيب تجوزا ، وعلى هذا فحيث تعذر حملها على الترتيب في الآيتين المذكورتين لا يمنع من استعمالها في غير الترتيب بجهة التجوز .

[ ص: 65 ] وكذلك الكلام في قولهم ( تقاتل زيد وعمرو ) ولا يلزم من التجوز بالواو في غير الترتيب أن يتجوز عنه بالفاء وثم ; إذ هو غير لازم مع اختلاف الحروف .

وعلى الوجه الثالث : أنه لا يلزم أن يكون كاذبا بتقدير المعية أو تقدم المتأخر في اللفظ لإمكان التجوز بها عن الجمع المطلق ، كما لو قال : ( رأيت أسدا ) وكان قد رأى إنسانا شجاعا .

وعلى الرابع : أنه إذا قال : " رأيت زيدا وعمرا بعده " لا يكون تكريرا ; لأنه يكون مفيدا لامتناع حمله على الجمع المطلق لاحتمال توهمه بجهة التجوز ، وإذا قال : ( رأيت زيدا وعمرا قبله ) لا يكون تناقضا لكونه مفيدا لإرادة جهة التجوز .

وعلى الخامس : أنه إنما حسن الاستفسار لاحتمال اللفظ له تجوزا .

وعلى السادس : أنه إنما لم يجب على العبد الترتيب نظرا إلى قرينة الحال المقتضية لإرادة جهة التجوز حتى إنه لو فرض عدم القرينة لقد كان ذلك موجبا للترتيب .

فإن قيل : لو كانت " الواو " حقيقة في الترتيب فإفادتها للجمع المطلق عند تفسيرها به ، إن كان مجازا فهو خلاف الأصل ، وإن كان حقيقة فيلزم منه الاشتراك وهو أيضا على خلاف الأصل .

قلنا : ولو كانت حقيقة في الجمع المطلق فإفادتها للترتيب عند تفسيرها به ، وإن كان مجازا فهو خلاف الأصل ، وإن كان حقيقة كان مشتركا وهو خلاف الأصل ، وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .

فإن قيل : بل ما ذكرناه أولى ; لأنها إذا كانت حقيقة في الترتيب خلا الجمع المطلق عن حرف يخصه ويدل عليه ، وإذا كانت حقيقة في الجمع المطلق لم يخل الترتيب عن حرف يدل عليه لدلالة ( الفاء ) و ( ثم ) عليه .

قلنا : إنما نجعلها حقيقة في الترتيب المطلق المشترك بين ( الفاء ) و ( ثم ) وذلك مما لا تدل عليه ( الفاء ) و ( ثم ) دلالة مطابقة ، بل إما بجهة التضمن أو [ ص: 66 ] الالتزام ، وكما أنها تدل على الترتيب المشترك بدلالة التضمن أو الالتزام فتدل على الجمع المطلق هذه الدلالة ، وعند ذلك فليس إخلاء الترتيب المشترك عن لفظ يطابقه أولى من إخلاء الجمع المطلق .

وعلى السابع : أن ما ذكروه إنما يلزم أن لو كانت ( الواو ) جارية مجرى ( واو ) الجمع و ( ياء ) التثنية مطلقا وليس كذلك ; لأنه لا مانع من كونها جارية مجراهما في مطلق الجمع مع كونها مختصة بالترتيب ، كما في ( الفاء ) و ( ثم ) .

وعلى الثامن : أنه كما أن الجمع المطلق معقول ولا بد له من حرف يدل عليه ، فالترتيب المطلق أيضا معقول ولا بد له من حرف يدل عليه ، وليس ما يفيده بالإجماع سوى ( الواو ) فتعين ، كيف وإن الجمع المطلق حاصل بقوله : ( رأيت زيدا ، رأيت عمرا ) .

وعلى التاسع : أن ما ذكروه منتقض بثم وبعد .

التالي السابق


الخدمات العلمية