الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 115 ] المسألة الأولى في إثبات النسخ على منكريه

وقد اتفق أهل الشرائع على جواز النسخ عقلا ، وعلى وقوعه شرعا ، ولم يخالف في ذلك من المسلمين سوى أبي مسلم الأصفهاني >[1] فإنه منع من ذلك شرعا ، وجوزه عقلا ، ومن أرباب الشرائع سوى اليهود ، فإنهم انقسموا ثلاث فرق :

فذهبت الشمعنية إلى امتناعه عقلا وسمعا .

وذهبت العنانية منهم إلى امتناعه سمعا لا عقلا .

وذهبت العيسوية إلى جوازه عقلا ، ووقوعه سمعا ، واعترفوا بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - لكن إلى العرب خاصة لا إلى الأمم كافة .

والدليل على الجواز العقلي العقل والسمع .

>[2] أما العقل : فهو أن المخالف لا يخلو إما أن يكون ممن يوافق على أن الله تعالى له أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير نظر إلى حكمة وغرض ، وإما أن يكون ممن يعتبر الحكمة والغرض في أفعاله تعالى ، فإن كان الأول ، فلا يمتنع عليه تعالى أن يأمر بالفعل في وقت ، وينهى عنه في وقت ، كما أمر بالصيام في نهار رمضان ، ونهى عنه في يوم العيد ، وإن كان الثاني ، فمع بطلانه >[3] على ما عرفناه في كتب الكلام ، فلا يمتنع أن يعلم الله استلزام الأمر بالفعل في وقت معين للمصلحة ، واستلزام [ ص: 116 ] النهي عنه للمصلحة في وقت آخر ، فإن المصالح مما يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال حتى إن مصلحة بعض الأشخاص في الغنى أو الصحة أو التكليف ، ومصلحة الآخر في نقيضه ، فكذلك جاز أن تختلف المصلحة باختلاف الأزمان حتى إن مصلحة بعض أهل الأزمان في المداراة والمساهلة ، ومصلحة أهل زمان آخر في الشدة والغلظة عليهم ، إلى غير ذلك من الأحوال .

وإذا عرف جواز اختلاف المصلحة باختلاف الأزمان ، فلا يمتنع أن يأمر الله تعالى المكلف بالفعل في زمان لعلمه بمصلحته فيه ، وينهاه عنه في زمن آخر لعلمه بمصلحته فيه ، كما يفعل الطبيب بالمريض ، حيث يأمره باستعمال دواء خاص في بعض الأزمنة ، وينهاه عنه في زمن آخر بسبب اختلاف مصلحته عند اختلاف مزاجه ، وكما يفعل الوالد بولده من التأديب له وضربه في زمان ، واللين له والرفق به في زمان آخر على حسب ما يتراءى له من المصلحة .

ولهذا خص الشارع كل زمان بعبادة غير عبادة الزمن الآخر ، كأوقات الصلوات والحج والصيام ، ولولا اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لما كان كذلك .

ومع جواز اختلاف المصالح باختلاف الأزمنة لا يكون النسخ ممتنعا .

هذا ما يدل على الجواز العقلي من جهة العقل .

وأما من جهة السمع فقوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير ) فهذه الآية تدل على جواز النسخ على الله تعالى شرعا .

أما بالنسبة إلى من خالف في ذلك من المسلمين فظاهر لموافقته على أن الآية من كلام الله تعالى ، وأن كلامه صدق .

وأما بالنسبة إلى اليهود فلأنه إذا ثبت أن محمدا رسول الله بما أثبتناه من الأدلة القاطعة في علم الكلام ، وأنه صادق فيما يدعيه من الوحي إليه من الله تعالى ، فقد ادعى كون هذه الآية من كلام الله ، فكان صادقا في ذلك ، وكانت الآية حجة على جواز النسخ .

[ ص: 117 ] وأما ما يدل على وقوع النسخ في الشرع .

أما بالنسبة إلى من خالف من المسلمين في ذلك فهو أن الصحابة والسلف أجمعوا على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لجميع الشرائع السالفة ، وأجمعوا على نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة ، وعلى نسخ الوصية للوالدين والأقربين بآية المواريث ، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان ، ونسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ووجوب التربص حولا كاملا عن المتوفى عنها زوجها ، ووجوب ثبات الواحد للعشرة المستفاد من قوله تعالى : ( إن يكن منكم عشرون صابرون ) الآية ، بقوله ( الآن خفف الله عنكم ) الآية ، إلى غير ذلك من الأحكام المتعددة .

>[4] وأما بالنسبة إلى منكر ذلك من اليهود فيدل عليه أنه ورد في التورية أن الله تعالى أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه ، وقد حرم ذلك في شريعة من بعده .

وأيضا ، فإن الله تعالى قال لنوح عند خروجه من الفلك إني جعلت لك كل دابة مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ، ما خلا الدم فلا تأكلوه ، وقد حرم كثيرا من الدواب على من بعده من أرباب الشرائع وهو عين النسخ .

>[5] فإن قيل : يحتمل أن أمر آدم ، والإباحة لنوح وذريته كان مقيدا بظهور شريعة من بعده ، فتحريم ذلك على من بعده لا يكون نسخا لانتهاء مدة الحكم الأول لكونه كان مقيدا بظهور شريعة من بعده .

قلنا : الأمر لآدم ، والإباحة لنوح كان مطلقا ، والأصل عدم التقييد .

وإن قيل : إنه كان ذلك مقيدا في علم الله تعالى بظهور شريعة أخرى .

قلنا : فهذا هو عين النسخ ، فإن الله تعالى إذا أمر بالفعل مطلقا فهو عالم بأنه سينسخه ويعلم وقت نسخه ، فتقييده في علمه لا يخرجه عن حقيقة النسخ .

[ ص: 118 ] وقد احتج عليهم بإلزامات أخر ، منها : أن العمل كان مباحا في يوم السبت ، ثم حرم على موسى وقومه .

ومنها : أن الختان كان في شرع إبراهيم جائزا بعد الكبر ، وقد أوجبه موسى يوم ولادة الطفل .

ومنها : أن الجمع بين الأختين كان مباحا في شريعة يعقوب ، وقد حرم ذلك في شريعة من بعده .

ولقائل أن يقول : العمل في يوم السبت ، وكذلك الختان في حالة الكبر ، وكذلك الجمع بين الأختين كان مباحا بحكم الأصل ، ورفع ما كان بحكم الأصل العقلي لا يكون نسخا كما علم فيما تقدم .

فإن قيل : لو كان النسخ جائزا عقلا ، لم يخل نسخ ما أمر به إما أن يكون لحكمة ظهرت لم تكن ظاهرة حالة الأمر ، أو لا يكون كذلك ، فإن لم يكن لحكمة ظهرت له كان عابثا ، والعبث على الحكيم محال ، وإن كان الأول : فقد بدا له ما لم يكن والبداء على الله تعالى محال .

وأيضا ، فإنه لو جاز نسخ الأحكام الشرعية لكون التكليف بها مصلحة في وقت ومفسدة في وقت لجاز نسخ ما وجب من الاعتقادات في التوحيد وما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز وهو محال .

وأيضا : فإن الخطاب المنسوخ حكمه ، إما أن يكون مؤقتا بوقت ، أو هو دال على التأبيد ، فإن كان الأول فهو غير قابل للنسخ لانتهائه بانتهاء ذلك الوقت ، وإن كان الثاني فهو محال من أربعة أوجه .

الأول أنه من ذلك اعتقاد المكلف دوام الحكم وتأبيده ، وهو جهل قبيح ، وما لزم منه القبيح فهو قبيح .

الثاني : أنه يلزم منه أن لا يبقى لنا طريق إلى معرفة التأبيد بتقدير إرادة التأبيد ، وذلك مما يوجب إعجاز الرب تعالى عن إعلامنا بالتأبيد ، وهو محال .

[ ص: 119 ] الثالث : أنه لو جاز النسخ مع أن اللفظ للتأبيد لما بقي لنا وثوق بوعد الله تعالى ووعيده ، ولا بشيء من الظواهر اللفظية ، ولا يخفى ما في ذلك من اختلاف الشرائع واتجاه قول الباطنية .

الرابع : أنه يلزمكم على هذا جواز نسخ شريعتكم ، ولم تقولوا به ، وأيضا ، فإنه لو جاز رفع الحكم بعد وقوعه ، فإما أن يكون رفعه قبل وجوده أو بعد عدمه ، أو في حال وجوده :

الأول : محال لأن رفع ما لم يوجد غير متصور .

والثاني محال لأن رفع المعدوم ممتنع .

والثالث : يلزم منه أن يكون الشيء حالة وجوده مرتفعا ، وذلك أيضا ممتنع .

وأيضا ، فإن الفعل المأمور به إما أن يكون حسنا أو قبيحا ، فإن كان الأول فقد نهى عن الحسن ، وإن كان الثاني فقد أمر بالقبيح .

وأيضا ، فإنه إما أن يكون طاعة أو معصية ، فإن كان طاعة فقد نهى عن الطاعة ، وإن كان معصية فقد أمر بالمعصية .

وأيضا ، فإما أن يكون مرادا أو مكروها ، فإن كان مرادا فقد صار بالنهي مكروها ، وإن كان مكروها فقد صار بالأمر مرادا .

وأما ما ذكرتموه من الدليل السمعي على الجواز العقلي ، فلا وجه له .

أما قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها ) فالمراد بالنسخ الإزالة ، ونسخ الآية بإزالتها عن اللوح المحفوظ .

وأما ما ذكرتموه على الوقوع الشرعي فلا نسلم أن شريعة محمد ناسخة لشرائع من تقدم على ما يأتي تقريره .

وأما وجوب استقبال بيت المقدس فإنه لم يزل بالكلية لجواز التوجه إليه عند الإشكال ومع العذر ، فكان ذلك تخصيصا لا نسخا .

وأما تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنما زالت لزوال سببها ، وهو امتياز المنافقين من حيث إنهم لا يتصدقون على المؤمنين .

[ ص: 120 ] ووجوب التربص حولا كاملا لم يزل بالكلية لبقائه عندما إذا كانت مدة حملها سنة فكان ذلك أيضا من باب التخصيص لا من باب النسخ .

سلمنا الجواز العقلي ، ولكن لا نسلم الجواز الشرعي ، وبيانه من وجهين .

الأول : قوله تعالى في صفة القرآن : ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ) فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل ، وهذه حجة من منع جواز نسخ القرآن مطلقا .

الثاني : أن موسى الكليم كان نبيا حقا بالإجماع منا ومنكم وبالدلائل الدالة على صدقه في رسالته ، وقد نقل عنه نقلا متواترا أنه قال : ( هذه الشريعة مؤبدة عليكم ما دامت السماوات والأرض ) .

وروي عنه أنه قال : ( الزموا يوم السبت أبدا ) فقد كذب بذلك من ادعى نسخ شريعته ، فلو قيل بجواز نسخ شريعته لزم منه أن يكون كاذبا ، وهو محال .

والجواب عن الإشكال الأول أن النسخ لم يكن لحكمة ظهرت له بعد أن لم تكن ظاهرة بل ( إن قلنا برعاية الحكمة ) لحكمة ، كان عالما بها على ما سبق في الفرق بين النسخ والبداء .

وعن الإشكال الثاني أن اعتقاد التوحيد وكل ما مستند معرفته دليل العقل ، لا يخلو : إما أن يقال بأن وجوبه >[6] ثابت بالعقل ، كما قاله المعتزلة ، أو بالشرع كما نقوله نحن :

فإن كان الأول : فلا يخفى إحالة نسخ ما ثبت وجوبه عقلا ، لأن الشارع لا يأتي بما يخالف العقل .

وإن كان الثاني فالعقل يجوز أن لا يرد الشرع بوجوبه ابتداء فضلا عن نسخه بعد وجوبه .

وعن الثالث : قولهم إن الخطاب إن كان مؤقتا ، فلا يكون قابلا للنسخ ، لا نسلم ذلك ، فإنه لو قال في رمضان حجوا في هذه السنة ، ثم قال قبل يوم عرفة لا تحجوا ، فإنه يكون جائزا عندنا ، على ما يأتي في جواز نسخ الأمر قبل التمكن من الامتثال .

قولهم : وإن كان دالا على التأبيد فهو محال ، لا نسلم ذلك .

[ ص: 121 ] قولهم في الوجه الأول : إنه يلزم منه جهل المكلف باعتقاد التأبيد فقد أجاب عنه أبو الحسين البصري بأنه إلى ذلك أن لو لم يكن قد اقترن بالخطاب المنسوخ ما يشعر بنسخه ، وليس كذلك ، وقد بينا إبطال ما ذهب إليه في تأخير البيان إلى وقت الحاجة .

>[7] والوجه في الجواب أن نقول : دلالة الخطاب على التأبيد لا يلزمها التأبيد مع القول بجواز النسخ ، فإذا اعتقد المكلف التأبيد فالجهل إنما جاءه من قبل نفسه لا من قبل ما اقتضاه الخطاب ، بل الواجب أن يعتقد التأبيد بشرط عدم الناسخ ثم وإن أفضى ذلك إلى الجهل في حق العبد ، فالقول بقبح ذلك من الله تعالى مبني على التحسين والتقبيح العقلي ، وقد أبطلناه فيما تقدم .

>[8] ثم متى يكون ذلك قبيحا إذا استلزم مصلحة تربو على مفسدة جهله ، أو إذا لم يكن كذلك ، الأول ممنوع ، والثاني مسلم .

وبيان لزوم المصلحة الزائدة هنا ما فيه من زيادة الثواب باعتقاده دوام ما أمر به ، والعزم على فعله ، والانقياد لقضاء الله وحكمه في الأمر والنهي :

كيف وإن ما ذكروه منتقض بما يحدثه الله تعالى للعبد من الغنى والصحة ، فإن ذلك مما يوجب اعتقاد دوامه له مع جواز إزالته بالفقر والمرض .

قولهم في الوجه الثاني : إلى تعجيز الرب تعالى عن إعلامنا بالتأبيد ، ليس كذلك ، لجواز أن يخلق لنا العلم الضروري بذلك .

وما ذكروه في الوجه الثالث فمندفع ، فإنه إن كان اللفظ الوارد في الخطاب مما لا يحتمل التأويل ، فالوثوق به حاصل لا محالة ، وإن كان مما يحتمل التأويل فيجب أن يكون الوثوق به على حسب ما اقتضاه الظاهر لا قطعا ، وذلك غير مستحيل .

وما ذكروه في الوجه الرابع فغير صحيح ، فإنا لا نمنع من جواز نسخ شرعنا [ ص: 122 ] عقلا ، وإنما نمنع منه شرعا لورود خبر الصادق بذلك عندنا ، وهو قوله تعالى : ( وخاتم النبيين ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : " إلا أنه لا نبي بعدي " >[9] والخلف في خبر الصادق محال .

ومع ذلك فإنا لا نحيل عقلا أن يكون ذلك الخبر مشروطا بقيد .

قولهم : لو جاز رفع الحكم ، ينظر الأصل أن يكون قبل وقوعه ، فمندفع .

فإنا وإن أطلقنا لفظة الرفع في النسخ إنما نريد به امتناع استمرار المنسوخ ، وأنه لولا الخطاب الدال على الانقطاع لاستمر ، وذلك لا يلزم عليه شيء مما قيل .

>[10] قولهم : الفعل المأمور به إما أن يكون حسنا أو قبيحا فهو مبني على التحسين والتقبيح العقلي ، وقد أبطلناه .

قولهم : إما أن يكون طاعة أو معصية ، قلنا : هو طاعة حالة كونه مأمورا ، ومعصية حالة كونه منهيا ، فالطاعة والمعصية ليست من صفات الأفعال ، بل تابعة للأمر والنهي .

قولهم : إما أن يكون مرادا أو مكروها ، لا نسلم الحصر لجواز أن لا يكون مرادا ولا مكروها إذ الإرادة والكراهة عندنا غير لازمة للأمر والنهي .

>[11] [ ص: 123 ] وبتقدير أن يكون ما أمر به مرادا ، جاز أن يكون مرادا حالة الأمر دون حالة النهي .

قولهم : المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ ليس كذلك ، فإنه قال تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) والقرآن خير كله من غير تفاوت فيه ، فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ وكتابة أخرى بدلها ، لما تحقق هذا الوصف ، وإنما يتحقق الخيرية بالنسبة إلينا فيما يرجع إلى أحكام الآيات المرفوعة عنا والموضوعة علينا ، من حيث إن البعض قد يكون أخف من البعض فيما يرجع إلى تحمل المشقة ، أو أن ثواب البعض أجزل من ثواب البعض على اختلاف المذاهب ، فوجب حمل النسخ على نسخ أحكام الآيات لا على ما ذكروه .

>[12] وأما منع كون شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لشرع من تقدم فمخالف لإجماع السلف قاطبة .

والكلام في هذا المقام إنما هو مع منكر النسخ من الإسلاميين ، وما يذكرونه في تقدير ذلك فسيأتي الجواب عنه أيضا ، وأما ما ذكروه على باقي صور النسخ فهو أيضا خلاف إجماع السلف .

كيف وإن ما ذكروه من التخريج لا وجه له .

قولهم : إن التوجه إلى بيت المقدس لم يزل بالكلية .

قلنا : لا خلاف أنه كان يجب التوجه إليه حالة عدم الإشكال والعذر ، وقد زال ذلك بالكلية فكان نسخا .

قولهم : إن وجوب تقديم الصدقة إنما زال لزوال سببه .

قلنا : الأصل بقاء السبب ، وما ذكروه من السبب يلزم منه أن كل من لم يتصدق من الصحابة أن يكون منافقا ، ولم يتصدق أحد منهم سوى علي - عليه السلام - على ما نقله الرواة ، وذلك ممتنع .

[ ص: 124 ] قولهم : إن وجوب التربص لم يزل بالكلية .

قلنا : لا خلاف بين أهل الملة في أنه كان التربص حولا كاملا واجبا ، سواء كانت مدة الحمل سنة أو لم تكن ، وذلك مما رفع بالكلية .

وما ذكروه من امتناع نسخ القرآن بقوله : ( لا يأتيه الباطل ) الآية ، فليس فيه ما يدل على امتناع النسخ إلا أن يكون النسخ إبطالا له ، وليس كذلك .

وبيانه أن النسخ لا معنى له سوى قطع الحكم الذي دل عليه اللفظ مع كون المخاطب مريدا لقطعه على ما سبق ، وذلك لا يكون إبطالا له بل تحقيقا لمقصوده .

وما ذكروه من قول موسى فمختلق لم تثبت صحته عن موسى - عليه السلام .

وقد قيل : إن أول من وضع ذلك لهم ابن الراوندي >[13] ليعارض به دعوى الرسالة من محمد - صلى الله عليه وسلم - لما ظهر من تسمحه في الدين .

ويدل على ذلك أن أحبارهم ككعب الأحبار وابن سلام ووهب بن منبه >[14] وغيرهم كانوا أعرف من غيرهم بما في التورية ، وقد أسلموا ولم يذكروا شيئا من ذلك : ولو كان ذلك صحيحا لكان من أقوى ما يتمسك به اليهود في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في معارضته ، ولم ينقل عنهم شيء من ذلك ، ثم إنهم مختلفون في نفس متن الحديث ، فإن منهم من قال الحديث : " إن أطعتموني لما أمرتكم به ونهيتكم عنه ثبت ملككم كما ثبتت السماوات والأرض " وليس في ذلك ما يدل على إحالة النسخ .

وإن سلمنا صحة ما نقلوه ، فيحتمل أنه أراد بالشريعة التوحيد ، ويحتمل أنه أراد بقوله : " مؤبدة " ما لم تنسخ بشريعة نبي آخر .

[ ص: 125 ] ومع احتمال هذه التأويلات فلا يعارض قوله ما ظهر على يد النبي - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات القاطعة الدالة على صدقه في دعواه ونسخ شريعة من تقدم .

كيف وإن لفظ التأبيد قد ورد في التورية ، ولم يرد به الدوام كقوله : " إن العبد يستخدم ست سنين ، ثم يعتق في السابعة ، فإن أبى العتق فلتثقب أذنه ويستخدم أبدا " ، وكقوله في البقرة التي أمروا بذبحها : " هذه سنة لكم أبدا " ، وكقوله : " قربوا كل يوم خروفين قربانا دائما " .

وأما العيسوية ، فيمتنع عليهم بعد التسليم بصحة رسالته وصدقه في دعواه بما اقترن بها من المعجزة القاطعة تكذيبه فيما ورد به التواتر القاطع عنه بدعوى البعثة إلى الأمم كافة ونزول القرآن بذلك ، وهو قوله تعالى : ( يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا ) ، وقوله تعالى ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) ، وقال في وصف ما أنزل عليه : ( هذا هدى للناس ) ، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - : " بعثت إلى الأحمر والأسود " ، وقوله : " بعثت إلى الناس كافة " >[15] ، وقوله : " لو كان أخي موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي " .

ويدل على ذلك ما اشتهر عنه ، وتواتر من دعائه لطوائف الجبابرة والأكاسرة ، وتنفيذه إلى أقاصي البلاد ، وطلب الدخول في ملته ، والقتال لمن جاحده من العرب ، وغيرهم في نبوته ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية