الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 141 ] المسألة السادسة

اتفق العلماء على جواز نسخ التلاوة دون الحكم ، وبالعكس ، ونسخهما معا خلافا لطائفة شاذة من المعتزلة ، ويدل على ذلك العقل والنقل .

أما العقل : فهو أن جواز تلاوة الآية حكم ، ولهذا يثاب عليها بالإجماع .

وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " من قرأ القرآن فأعربه ، فله بكل حرف منه عشر حسنات " >[1] وما يترتب عليها من الوجوب والتحريم وغير ذلك حكم ، وإذا كانا حكمين جاز أن يكون إثباتهما مصلحة في وقت ، ومفسدة في وقت وأن لا يكون إثبات أحدهما مصلحة مطلقا ، وإثبات أحدهما مصلحة في وقت دون وقت ، وإذا كان كذلك جاز رفعهما معا ، ورفع أحدهما دون الآخر كما سبق تقريره .

وأما النقل ، إما نسخ التلاوة والحكم فيدل عليه ما روت عائشة أنها قالت : " كان فيما أنزل عشر رضعات محرمات ، فنسخت بخمس >[2] وليس في المصحف عشر رضعات محرمات ، ولا حكمها ، فهما منسوخان .

وأما نسخ الحكم دون التلاوة ، فكنسخ حكم آية الاعتداد بالحول >[3] ونسخ حكم آية الوصية للوالدين .

[ ص: 142 ] وأما نسخ التلاوة دون الحكم : فما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال كان فيما أنزل : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله ورسوله " فإنه منسوخ التلاوة دون الحكم .

وهل يجوز بعد نسخ تلاوة الآية أن يمسها المحدث ويتلوها الجنب .

فذلك مما تردد الأصوليون فيه ، والأشبه المنع من ذلك .

فإن قيل : الحكم مع التلاوة ينزل منزلة العلم مع العالمية ، والحركة مع المتحركية ، والمنطوق مع المفهوم ، وكما لا يمكن الانفكاك بين العلم والعالمية والمنطوق مع المفهوم ، فكذلك التلاوة مع حكمها .

وأما ما يخص نسخ الحكم دون التلاوة ، فهو أن الحكم إذا نسخ وبقيت التلاوة كانت موهمة بقاء الحكم ، وذلك مما يعرض المكلف إلى اعتقاد الجهل ، والحكيم يقبح منه ذلك .

وأيضا إذا بقيت التلاوة دون حكمها ، تبقى عرية عن الفائدة ، ويمتنع خلو القرآن عن الفائدة .

وأما ما يخص نسخ التلاوة دون الحكم ، فوجهان :

الأول : أن الآية ذريعة إلى معرفة الحكم ، فإذا نسخت الآية دون الحكم أشعر ذلك بارتفاع الحكم ، وفيه تعريض المكلف لاعتقاد الجهل ، وهو قبيح من الشارع .

الثاني : أن نسخ التلاوة دون حكمها يكون عريا عن الفائدة ، حيث إنه لم يلزم من ذلك إثبات حكم ولا رفعه ، وما عري من التصرفات كان عبثا ، والعبث على الله محال .

والجواب عن الأول : لا نسلم أولا أن العالمية مغايرة لقيام العلم بالذات ولا المتحركية مغايرة لقيام الحركة بالذات ، ولا الملازمة بين المنطوق والمفهوم ليصح التمثيل .

وإن سلمنا جميع ذلك ، ولكن لا نسلم أن التلاوة مع الحكم نازلة منزلة ما ذكروه بل هي نازلة منزلة الأمارة والعلامة على الحكم في ابتداء ثبوته دون حالة دوامه .

[ ص: 143 ] وعلى هذا فلا يلزم من انتفاء الأمارة في طرف الدوام انتفاء ما دلت عليه .

وكذلك لا يلزم من انتفاء الحكم لدليل انتفاء الأمارة الدالة عليه .

وعن قولهم : إن التلاوة إذا ثبتت بعد نسخ الحكم عرضت المكلف لاعتقاد الجهل متى إذا نصب الله تعالى دليلا على نسخ الحكم ، أو إذا لم ينصب ؟ الأول ممنوع ، والثاني مسلم .

وذلك لأن الناظر إذا كان مجتهدا عرف دليل النسخ ، وإن كان مقلدا فغرضه تقليد المجتهد العارف بدليل النسخ .

ثم وإن كان كما ذكروه فلا نسلم أن ذلك ممتنع في حق الله تعالى إلا على فاسد أصل من يقول بالتحسين والتقبيح العقلي وقد أبطلناه .

>[4] وعن قولهم : إنه ليس في بقاء التلاوة فائدة بعد نسخ الحكم أن ذلك مبني على رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى ، وهو غير مسلم .

>[5] . وإن سلمنا ذلك ، فلا يمتنع أن يكون الباري تعالى قد علم في ذلك حكمة استأثر بها ، ونحن لا نشعر بذلك .

وعن قولهم : إن الآية إذا نسخت عرضت المكلف لاعتقاد الجهل ، إنما يلزم ذلك أن لو كان يلزم من انتفاء الدلالة على الحكم في الدوام انتفاء الحكم ، وهو غير مسلم ، ولا يلزم من الدليل الدال على نسخ التلاوة أن يكون دالا على نسخ الحكم .

وعن قولهم : إنه لا فائدة في نسخ التلاوة مع بقاء الحكم ما سبق في قولهم إن بقاء التلاوة غير مفيد مع نسخ الحكم .

التالي السابق


الخدمات العلمية