الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 194 ] القسم الأول : في شرائط حكم الأصل وهي ثمانية .

الشرط الأول : أن يكون حكما شرعيا ; لأن الغرض من القياس الشرعي إنما هو تعريف الحكم الشرعي في الفرع نفيا وإثباتا ، فإذا لم يكن الحكم في الأصل شرعيا بأن كان قضية لغوية أو عقلية ، فالحكم المتعدي إلى الفرع لا يكون شرعيا فلا يكون الغرض من القياس الشرعي حاصلا ، كيف وإنه إذا كان قضية لغوية فقد بينا امتناع جريان القياس فيه في اللغات .

الشرط الثاني : يكون ثابتا غير منسوخ ، حتى يمكن بناء الفرع عليه ، وإلا فبتقدير أن لا يكون فلا ينتفع به ناظر ولا مناظر ; لأنه إنما تعدى الحكم من الأصل إلى الفرع بناء على الوصف الجامع ، وذلك متوقف على اعتبار الشارع له ، فإذا لم يكن الحكم المرتب على وصفه في الشرع فلا يكون معتبرا .

الشرط الثالث : أن يكون دليل ثبوته شرعيا ; لأن ما لا يكون دليله شرعيا لا يكون حكما شرعيا .

الشرط الرابع : ألا يكون حكم الأصل متفرعا عن أصل آخر ، وهذا ما ذهب إليه أكثر أصحابنا والكرخي خلافا للحنابلة >[1] وأبي عبد الله البصري ، وذلك لأن العلة الجامعة بينه وبين أصله إما أن تكون هي العلة الجامعة بينه وبين فرعه ، أو هي غيرها .

فإن كان الأول : فالأصل الذي به الشهادة بالاعتبار إنما هو الأصل الأخير لا الأصل الأول ، فليقع الرد إليه وإلا فهو تطويل من غير فائدة ; وذلك كما لو قال [ ص: 195 ] الشافعي مثلا في السفرجل مطعوم ، فجرى فيه الربا قياسا على التفاح ، ثم قاس التفاح في تحريم الربا على البر بواسطة الطعم أيضا .

وإن كان الثاني : وهو أن تكون العلة في القياسين مختلفة ، فلا تخلو إما أن تكون العلة التي عدي بها الحكم من الأصل الممنوع حكمه إلى فرعه - مؤثرة ، أي : ثابتة بنص أو إجماع ، أو مستنبطة منه ، فإن كان الأول فقد أمكن إثبات الحكم في الفرع الأول بالعلة المؤثرة ، ولم يبق للقياس على الأصل الممنوع حكمه ، وقياسه على الأصل الأخير - حاجة ، بل هو تطويل غير مفيد . وإن كان الثاني : وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة فسخ النكاح بالجذام : عيب يثبت به الفسخ في البيع فيثبت به الفسخ في النكاح ، قياسا على الرتق والقرن ثم قاس الرتق والقرن عند توجه منعه على الجب والعنة بواسطة فوات غرض الاستمتاع به ، فلا يصح القياس فيه ، وذلك لأن الحكم في الفرع المتنازع فيه أولا إنما يثبت بما ثبت به حكم أصله ، فإذا كان حكم أصله ثابتا بعلة أخرى وهي ما استنبطت من الأصل الآخر ، فيمتنع تعدية الحكم بغيرها ; لأن غيرها لم يثبت اعتبار الشارع له ضرورة أن الحكم الثابت معه ثابت بغيره بالاتفاق ، فلو ثبت الحكم به في الفرع الأول مع عدم اعتباره كان ذلك إثباتا للحكم بالمعنى المرسل الخلي عن الاعتبار وذلك ممتنع .

وعلى هذا فإن قلنا بجواز تعليل الحكم الواحد بعلتين مع كونه ممتنعا كما يأتي تقريره >[2] ، فهو ممتنع هاهنا حيث إنا قطعنا بأن العلة المستنبطة من الأصل الممنوع مما لم يلتفت إليها الشارع في إثبات الحكم في أصلها للاتفاق على ثبوته بغيرها ، والجمع بين العلل إنما يكون حيث يمكن الظن باعتبار الشارع لها من إثبات الحكم على وفقها .

هذا كله إن كان حكم الأصل مقولا به من جهة المستدل ممنوعا من جهة المعترض ، وأما إن كان مقولا به من جهة المعترض ممنوعا من جهة المستدل ، وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة تعيين النية عندما إذا نوى النفل أتى بما أمر به ، فوجب أن يصح كما إذا كان عليه فريضة الحج ونوى النفل ، فإن الحكم [ ص: 196 ] في الأصل مما لا يقول به الحنفي بل الشافعي ، فلا يصح من المستدل بناء الفرع عليه ;‌‌‌‌‌‌‌لأنه إما أن يذكر ذلك في معرض التقرير لمأخذ من هو منتم إليه أو في معرض الإلزام للخصم .

فإن كان الأول فهو ممتنع لأنه إنما يعرف كون الوصف الجامع مأخذا لإمامه ؛ بإثباته للحكم على وفقه ، وبالقياس على الأصل الذي لا يقول به إمامه لا يعرف ذلك .

وإن كان الثاني : وذلك بأن يقول : هذا هو عندك علة الحكم في الأصل المقيس عليه ، وهو موجود في محل النزاع ، فيلزمك الاعتراف بحكمه وإلا فيلزم منه إبطال المعنى وانتقاضه لتخلف الحكم عنه من غير معارض ، ويلزم من إبطال التعليل به امتناع إثبات الحكم به في الأصل ، فهو أيضا ممتنع لوجهين :

الأول : أن للمعترض أن يقول : الحكم في الأصل لم يكن عندي ثابتا بناء على هذا الوصف بل بناء على غيره ، ويجب تصديقه فيه لكونه عدلا ، والظاهر من حاله الصدق وهو أعرف بمأخذ مذهبه . الثاني : أنه وإن كان الحكم في الأصل معللا بالوصف المذكور غير أن حاصل الإلزام يرجع إلى إلزام المعترض بالتخطئة في الفرع بإثبات خلاف حكمه ، ضرورة تصويبه في اعتقاد كون الوصف الجامع علة للحكم في الأصل المقيس عليه ، وهو غير لازم ; إذ ليس تخطئته في الفرع ضرورة تصويبه في حكم الأصل بالوصف المذكور - أولى من تخطئته في تعليل حكم الأصل بالوصف المذكور ، وتصويبه في حكم الفرع .

الشرط الخامس : ألا يكون حكم الأصل معدولا به عن سنن القياس ، والمعدول به عن سنن القياس على قسمين :

الأول : ما لا يعقل معناه ، وهو على ضربين : إما مستثنى من قاعدة عامة أو مبتدأ به ، فالأول كقبول شهادة خزيمة وحده ، فإنه مع كونه غير معقول المعنى - مستثنى من قاعدة الشهادة .

والثاني : كأعداد الركعات وتقدير نصب الزكوات ومقادير الحدود [ ص: 197 ] والكفارات ، فإنه مع كونه غير معقول المعنى غير مستثنى من قاعدة سابقة عامة ، وعلى كلا التقديرين يمتنع فيه القياس .

القسم الثاني : ما شرع ابتداء ولا نظير له ، ولا يجري فيه القياس لعدم النظير ، وسواء كان معقول المعنى كرخص السفر والمسح على الخفين لعلة دفع المشقة ، أو هو غير معقول المعنى ، كاليمين في الدية على العاقلة ونحوه .

الشرط السادس : إذا كان حكم الأصل متفقا عليه ، فقد اختلفوا في كيفية الإنفاق :

فمنهم من قال بأنه يكفي أن يكون ذلك متفقا عليه بين الفريقين لا غير .

ومنهم من قال : لا يكفي ذلك ، بل لا بد وأن يكون متفقا عليه بين الأمة ، وإلا فإن كان متفقا عليه بين الفريقين فقط ، فلا يصح القياس عليه وسموه قياسا مركبا .

وقبل النظر في مأخذ الحجاج فلا بد من النظر في معنى القياس المركب وأقسامه .

أما القياس المركب فهو أن يكون الحكم في الأصل غير منصوص عليه ولا مجمع عليه من الأمة >[3] وهو قسمان :

الأول مركب الأصل ، والثاني مركب الوصف .

أما التركيب في الأصل : فهو أن يعين المستدل علة في الأصل المذكور ، ويجمع بها بينه وبين فرعه فيعين المعترض فيه علة أخرى ويقول : الحكم عندي ثابت بهذه العلة ، وذلك كما إذا قال في مسألة الحر بالعبد مثلا : عبد فلا يقتل به الحر كالمكاتب ، فإن المكاتب غير منصوص عليه ولا مجمع عليه بين الأمة ; لاختلاف الناس في وجوب القصاص على قاتله ، وإنما هو متفق عليه بين الشافعي وأبي حنيفة .

وعند ذلك فللحنفي أن يقول : العلة في المكاتب >[4] المتفق عليه المانعة من جريان القصاص فيه عندي إنما هو جهالة >[5] المستحق من السيد أو الورثة ، فإن سلم ذلك امتنعت التعدية إلى الفرع لخلو الفرع عن العلة ، وإن أبطل التعليل بها فأنا أمنع الحكم في الأصل ; لأنه إنما ثبت عندي بهذه العلة ، وهي مدرك إثباته ولا محذور في نفي الحكم [ ص: 198 ] لانتفاء مدركه ; إذ لم يلزم منه مخالفة نص ولا إجماع ، وعلى كلا التقديرين فالقياس يكون ممتنعا إما لمنع حكم الأصل وإما لعدم علة الأصل في الفرع .

قال بعض الأصوليين : وإنما سمي هذا النوع قياسا مركبا ; لاختلاف الخصمين في علة الأصل وليس بحق ، وإلا كان كل قياس اختلف في علة أصله وإن كان منصوصا أو متفقا عليه بين الأمة مركبا وليس كذلك .

والأشبه أنه إنما سمي بذلك لاختلاف الخصمين في تركيب الحكم على العلة في الأصل ، فإن المستدل يزعم أن العلة الجامعة مستنبطة من حكم الأصل وهي فرع له ، والمعترض يزعم أن الحكم في الأصل فرع على العلة وهي المثبتة له ، وأنه لا طريق إلى إثباته سواها ، وأنها غير مستنبطة منه ولا هي فرع عليه ، ولذلك منع ثبوت الحكم عند إبطالها ، وإنما سمي مركب الأصل لأنه نظير في علة حكم الأصل .

>[6] وأما مركب الوصف فهو ما وقع الاختلاف فيه في وصف المستدل ، هل له وجود في الأصل أو لا ؟

وذلك كما لو قال المستدل في مسألة تعليق الطلاق بالنكاح : تعليق ، فلا يصح قبل النكاح كما لو قال : زينب التي أتزوجها طالق ، فللخصم أن يقول : لا نسلم وجود التعليق في الأصل بل هو تنجيز ، فإن ثبت أنه تعليق فأنا أمنع الحكم وأقول بصحته كما في الفرع ، ولا يلزمني من المنع محذور لعدم النص عليه وإجماع الأمة ، وإنما سمي مركب الوصف لأنه خلاف في تعيين الوصف الجامع .

وإذ أتينا على بيان معنى القياس المركب وأقسامه .

فنقول : لا يخلو إما أن ينظر في ذلك إلى الناظر المجتهد أو المناظر ، فإن كان الأول ، فإن كان له مدرك في ثبوت حكم الأصل سوى النص والإجماع فالقياس صحيح ; لأنه إذا غلب على ظنه صحة القياس فلا يكابر نفسه فيما أوجبه ظنه ، وإن [ ص: 199 ] لم يكن له مدرك سوى النص والإجماع ، فالقياس متعذر لتعذر إثبات حكم الأصل .

وإن كان الثاني ، فالمختار بعد إبطال ما يعارض به الخصم في القسم الأول من التركيب ، وتحقيق وجود ما يدعيه في الأصل في القسم الثاني منه - إنما هو التفصيل ، وهو أن الخصم إما أن يكون مجتهدا أو مقلدا .

فإن كان مجتهدا وظهر في نظره إبطال المدرك الذي بنى عليه حكم الأصل ، فله منع حكم الأصل ، وعند ذلك فالقياس لا يكون منتفعا به بالنسبة إلى الخصم .

وإن كان مقلدا فليس له منع الحكم في الأصل وتخطئة إمامه فيه بناء على عجزه هو عن تمشية الكلام مع المستدل ، وذلك لاحتمال أن لا يكون ما عينه المعترض هو المأخذ في نظر إمامه ، وبتقدير أن يكون هو المأخذ في نظر إمامه فلا يلزم من عجز المقلد عن تقريره عجز إمامه عنه لكونه أكمل حالا منه وأعرف بوجه ما ذهب إليه وتقريره .

وقد قيل : إنه وإن كان لا بد من تخطئة إمام المعترض إما في حكم الأصل أو الفرع ، فليس للخصم تخطئة إمامه في حكم الأصل دون الفرع ، وليس بحق فإنه كما أنه ليس للخصم تخطئة إمامه في حكم الأصل دون الفرع فليس للمستدل تخطئة إمام المعترض في الفرع دون الأصل ، ولا أولوية .

فإن قيل : بل تخطئته في الفرع أولى لوقوع الخلاف فيه بين إمام المستدل وإمام المعترض بخلاف حكم الأصل فيقال : كما أن الخلاف واقع في الفرع بين الإمامين فالخلاف في الأصل أيضا واقع بين الأئمة ; إذ هو مجمع عليه ، وليس موافقة إمام المستدل في الفرع أولى من موافقة المخالف في الأصل .

الشرط السابع : أن لا يكون الدليل الدال على إثبات حكم الأصل دالا على إثبات حكم الفرع ، وإلا فليس جعل أحدهما أصلا للآخر أولى من العكس .

الشرط الثامن : اختلف الأصوليون في اشتراط قيام الدليل على تعليل حكم الأصل وجواز القياس عليه نفيا وإثباتا .

والمختار أنه إن أريد بالدليل الدال على ذلك - أن يكون دليلا خاصا بذلك الأصل من كتاب أو سنة أو إجماع فهو باطل .

[ ص: 200 ] وإن أريد به أنه لا بد من قيام دليل على ذلك بجهة العموم والشمول فهو حق ، وذلك لأنا سنبين أن كل أصل أمكن تعليل حكمه فإنه يجب تعليله ، وأنه يجوز القياس عليه ، وذلك لأن مدرك كون القياس حجة إنما هو إجماع الصحابة على ما يأتي .

>[7] وقد علمنا من تتبع أحوالهم في مجاري اجتهاداتهم أنهم كانوا يقيسون الفرع على الأصل عند وجود ما يظن كونه علة لحكم الأصل في الأصل ، فظن وجوده في الفرع ، وإن لم يقم دليل خاص على وجوب تعليل حكم ذلك الأصل وجواز القياس عليه حتى قال عمر لأبي موسى الأشعري : ( اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك ) >[8] ولم يفصل .

وكذلك اختلفوا في قوله : ( أنت علي حرام ) حتى قاسه بعضهم على الطلاق ، وبعضهم على الظهار ، وبعضهم على اليمين ، ولم ينقل نص خاص ولا إجماع على القياس على تلك الأصول ولا على جواز تعليلها .

التالي السابق


الخدمات العلمية