الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 299 ] المسلك السابع : إثبات العلة بالطرد والعكس .

وقد اختلف فيه : فذهب جماعة من الأصوليين إلى أنه يدل على كون الوصف علة .

لكن اختلف هؤلاء فمنهم من قال : إنه يدل على العلية قطعا كبعض المعتزلة ، ومنهم من قال : يدل عليها ظنا كالقاضي أبي بكر وبعض الأصوليين ، وهو مذهب أكثر أبناء زماننا .

والذي عليه المحققون من أصحابنا وغيرهم أنه لا يفيد العلية لا قطعا ولا ظنا وهو المختار .

وصورته ما إذا قيل في مسألة النبيذ مثلا : ( مسكر ) فكان حراما كالخمر ، وأثبت كون المسكر علة للتحريم بدورانه مع التحريم وجودا وعدما في الخمر ، فإنه إذا صار مسكرا حرم ، وإن زال الإسكار عنه بأن صار خلا فإنه لا يحرم .

وقد احتج القائلون إنه ليس بحجة بأمرين :

الأول : ما ذكره الغزالي وهو أن قال : حاصل الاطراد يرجع إلى سلامة العلة عن النقض ، وسلامة العلة عن مفسد واحد لا يوجب سلامتها عن كل مفسد ، وعلى تقدير السلامة عن كل مفسد فصحة الشيء لا تكون بسلامته عن المفسدات بل لوجود المصحح ، والعكس ليس شرطا في العلل فلا يؤثر ، وهذه الحجة ضعيفة ، فإنه وإن سلم أن كل واحد من الأمرين على انفراده لا دلالة له على العلية فلا يلزم منه عدم التأثير بتقدير الاجتماع ، ودليله أجزاء العلة فإن كل واحد منها لا يستقل بإثبات الحكم ، ولم يلزم من ذلك عدم استقلال المجموع .

الحجة الثانية لبعض أصحابنا قال : إن الصور التي دار الحكم فيها مع الوصف وجودا وعدما لا بد أن تكون متمايزة بصفات خاصة بها ، وإلا كانت متحدة لا متعددة .

وعند ذلك فللخصم أن يأخذ الوصف الخاص بكل صورة من صور الطرد والعكس في العلة في تلك الصورة ، ويجعل العلة في كل صورة مجموع الوصفين ، وهما : الوصف المشترك والوصف الخاص بها ، وهي من النمط الأول ; إذ لقائل أن يقول : الترجيح للتعليل بالوصف المشترك لكونه مطردا في جميع مجاري الحكم ، فيكون أغلب على الظن بخلاف التعليل بالمركب من الوصف الخاص والمشترك .

[ ص: 300 ] فإن قيل : بل التعليل بالمركب أولى لما فيه من تعدد مدارك الحكم فإنه أولى من اتحاده لكونه أقرب إلى تحصيل مقصود الشارع من الحكم ، فهو مقابل بأن التعليل بالوصف المشترك يكون منعكسا بخلاف التعليل بالمركب من الوصفين في كل صورة .

ولا يخفى أن التعليل بالمطرد المنعكس أولى من التعليل بالمطرد الذي لا ينعكس للاتفاق عليه ، ولأن التعليل بالوصف المشترك يكون متعديا بخلاف التعليل بالمركب من الوصفين في كل صورة فإنه يكون قاصرا ، والتعليل بالمتعدية أولى للاتفاق عليها والاختلاف في القاصرة .

والحق في ذلك أن يقال : مجرد الدوران لا يدل على التعليل بالوصف لوجهين :

الأول : أنه يجوز أن يكون الوصف وصفا ملازما للعلة وليس هو العلة ، وذلك كالرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة ، ولا سبيل إلى دفع ذلك إلا بالتعرض لانتفاء وصف غيره بدلالة البحث والسبر أو بأن الأصل عدمه ، ويلزم من ذلك الانتقال من طريقة الدوران إلى طريقة السبر والتقسيم ، وهو كاف في الاستدلال على العلية .

الثاني : أن الدوران قد وجد فيما لا دلالة له على العلية ، كدوران أحد المتلازمين المتعاكسين كالمتضايفين وليس أحدهما علة للآخر ، وكذلك فإن الدوران كما وجد في جانب الحكم مع الوصف فقد وجد في جانب الوصف مع الحكم ، وليس الحكم علة للوصف .

فإن قيل : نحن لا ندعي أن مطلق الدوران دليل على علية الوصف ليلزم ما قيل ، بل بقيود ثلاثة وهي : أن يكون حدوث ذلك الأثر مرتبا على وجود ذلك الوصف ترتبا عقليا بحيث يصدق قول القائل : وجد هذا الشيء فحدث ذلك الأثر ، وأن لا يقطع بخروج هذا الوصف عن أن يكون علة وموجبا لحدوث ذلك الأثر ، وأن لا يقطع بوجود علة أخرى لهذا الحكم سوى هذا الوصف . ومهما وجد الدوران على هذه القيود كان دليلا على العلية ، وذلك كما إذا دعي الإنسان باسم فغضب منه وإذا لم يدع به لم يغضب ، ورأينا ذلك منه مرارا مرة بعد مرة وجودا وعدما ، فإنه يغلب على الظن أن ذلك الاسم هو سبب الغضب حتى أن الصبيان يعلمون ذلك منه ويتبعونه في الدروب داعين له بذلك الاسم المغضب له .

[ ص: 301 ] والدوران بهذه القيود متحقق في السكر مع التحريم ، فكان دليلا على كونه علة وخرج عليه ما ذكر من الرائحة الفائحة حيث قطعنا أنها ليست علة ، وكذلك الحكم في كل واحد من المتضايفين بالنسبة إلى الآخر ، ولأنه يمتنع ترتيب كل واحد على الآخر في الوجود بالتفسير المذكور ، وكذلك الكلام في نسبة الحكم إلى الوصف ، وخرج عليه أيضا ما إذا ظهر ثم علة مغايرة للمدار .

قلنا : إذا كان من جملة قيود صحة دلالة الدوران أن يكون حدوث ذلك الأمر مرتبا على وجود ذلك الوصف بالتفسير المذكور : فإما أن يراد به أن وجود الحكم يتعقب وجود الوصف ، أو أنه أمارة عليه أو باعث عليه ، أو معنى آخر . والأول ممتنع ; إذ الكلام إنما هو في شرعية الحكم ، ولا يخفى أن شرعيته تكون سابقة في الوجود على وجود سببها ، والثاني أيضا ممتنع ; إذ الكلام إنما هو في العلة المستنبطة من حكم الأصل وهي فلا تكون إلا بمعنى الباعث على ما سبق تقريره ، وعند ذلك : فإما أن يظهر فيه معنى يقتضي كونه باعثا على الحكم من مناسبة أو شبه ، أو لا يظهر ذلك ، فإن كان الأول فلا يكون باعثا ، وإن كان الثاني فالمناسبة مع قران الحكم بها كاف في التعليل ولا حاجة إلى الدوران ، وإن كان بمعنى آخر فلا بد من تصويره والدلالة عليه ، وقد ترد عليه أسئلة .

قلنا : ما ذكروه من دوران غضب الإنسان مع دعائه ببعض الأسماء بالقيود المذكورة لا نسلم غلبة الظن بكون ذلك الاسم علة ، بل به أو بملازمه ، وإنما يظهر كونه علة مع ظهور انتفاء الملازم ، والطريق في ذلك إنما هو التمسك بالعدم الأصلي أو بعدم الاطلاع عليه بعد البحث والسبر والتقسيم ، ويلزم منه الانتقال من طريقة الدوران إلى طريقة السبر والتقسيم ، وهي كافية في التعليل .

وقد ترد عليه أسئلة أخرى مشهورة الجواب آثرنا الإعراض عن ذكرها اكتفاء في إبطال الدوران بما ذكرناه ، فإنه في غاية القوة والدقة .

وإذا عرف أن الطرد والعكس لا يصلح دليلا على العلية ، فالاطراد بانفراده أولى أن لا يكون دليلا ; نظرا إلى أن الاطراد عبارة عن السلامة عن النقد المفسد ، والسلامة عن مفسد واحد غير موجبة للتصحيح .

التالي السابق


الخدمات العلمية