الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 24 ] المسألة الثانية

الذين اتفقوا على جواز التعبد بالقياس عقلا اختلفوا :

فمنهم من قال : لم يرد التعبد الشرعي به ، بل ورد بحظره كداود بن علي الأصفهاني وابنه القاشاني والنهرواني >[1] ، ولم يقضوا بوقوع ذلك إلا فيما كانت علته منصوصة أو مومأ إليها .

وذهب الباقون إلى أن التعبد الشرعي به واقع بدليل السمع ، واختلفوا في وقوعه بدليل العقل كما بيناه في وأومأنا إلى إبطاله .

ثم الدليل السمعي هل هو قاطع أو ظني ؟ اختلفوا فيه ، فقال الكل : إنه قطعي سوى أبي الحسين البصري ، فإنه قال إنه ظني وهو المختار .

وقد احتج على ذلك بحجج ضعيفة لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ضعفها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار ، فمنها كتابية وإجماعية ومعنوية :

أما الكتابية فقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) .

ووجه الاحتجاج به أنه أمر بطاعة الله والرسول ، والمراد من ذلك إنما هو امتثال أمرهما ونهيهما ، فقوله ثانيا : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) والظاهر من الرد هو القياس ، ولأنه لو أراد به اتباع أوامرهما ونواهيهما ، لكان ذلك تكرارا فلم يبق إلا أن يكون المراد به الرد إلى ما استنبط من الأمر والنهي .

ولقائل أن يقول لا نسلم أن المراد من قوله تعالى : ( فردوه ) القياس على ما أمر الله ورسوله ، بل يمكن أن يكون المراد البحث عن كون المتنازع فيه مأمورا أو منهيا ، حتى يدخل تحت قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) ، فالأمر الأول بالطاعة للأمر والنهي ، والثاني بالبحث عن المتنازع فيه هل هو مأمور أو منهي أو لا فلا تكرار .

[ ص: 25 ] وإنما يمكن >[2] حمل الرد على القياس مع كونه مختلفا في الاحتجاج به ، أن لو تعذر حمل لفظ الرد على غيره وليس بمتعذر .

وإن سلمنا امتناع حمله على البحث عن كون المتنازع فيه مأمورا أو منهيا ، أمكن أن يكون المراد بقوله : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " فيما أمركم به ونهاكم عنه ، والمراد من قوله : " فإن تنازعتم في شيء " أي : فيما لم يسبق فيه أمر ولا نهي " فردوه إلى الله والرسول " بالسؤال للرسول لينبئكم عن مقتضى ذلك في كتاب الله وسنة رسوله .

فإن قيل : هذا يوجب اختصاص الآية بمن وجد في زمن النبي عليه السلام لتعذر ذلك بالنسبة إلى من بعدهم ، والإجماع منعقد على تعميم وجوب الطاعة والرد إلى الله والرسول في كل زمان ، فلو كان معنى الرد السؤال للرسول لما تصور ذلك في حق من وجد بعد النبي عليه السلام .

قلنا : وإن سلمنا أن الطاعة واجبة بالنسبة إلى كل زمان ، ولكن لا نسلم أن وجوب الرد ثابت في كل زمان ; لأنه إن حمل الرد على القياس فهو محل النزاع ، وإن حمل على السؤال للنبي عليه السلام فظاهر أنه غير واجب على من لم يره >[3] .

فإن قيل : الضمير في المخاطب بالرد عائد إلى المخاطب بالطاعة ، فإذا كان الخطاب بالطاعة عاما ، فكذلك الخطاب بالرد وإذا تعذر حمل الرد على السؤال في حق الكل ، تعين أن يكون المراد به القياس .

قلنا : وإن سلمنا أن الطاعة واجبة بالنسبة إلى كل زمان ، ولكن لا نسلم أنها واجبة بقوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) لأنها مشافهة على ما سبق [ ص: 26 ] تقريره في الأوامر >[4] .

وإن سلمنا عموم خطاب الأمر بالطاعة ، فغايته أن يكون الضمير في قوله : " فردوه إلى الله والرسول " ظاهرا في العود إلى كل من أمر بالطاعة ، فعوده إلى البعض وهو من كان في زمن النبي - عليه السلام - لضرورة حمل الرد على السؤال للنبي - عليه السلام ، غايته أن يكون تخصيصا للعموم وهو مقابل بمثله في حمل الرد على القياس ، وذلك لأن الآية عامة في حق كل مجتهد وعامي ، ويلزم من حمل لفظ الرد على القياس تخصيص الآية بالمجتهدين دون غيرهم ، وليس مخالفة أحد العمومين والتمسك بالآخر أولى من العكس >[5] .

وأيضا قوله تعالى : ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) والاستنباط هو القياس وهو ضعيف أيضا .

وذلك لأنه إنما يجب حمل الاستنباط في الآية على القياس أن لو تعذر حمله على غيره ، وليس كذلك إذ أمكن أن يراد به استخراج الحكم من دليله ، وهو أعم من القياس ، ولهذا يصح أن يقال لمستخرج الحكم من دلالة النص إنه مستنبط .

كيف وإن المذكور في صدر الآية إنما هو الأمن والخوف بقوله تعالى : ( وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف ) ، فيجب أن يكون الضمير في قوله ( أذاعوا به ) وفي قوله ( ولو ردوه ) وفي قوله ( لعلمه ) وفي قوله ( يستنبطونه ) عائدا إليه ; لأنه المذكور لا إلى غيره مذكور . ، وليس ذلك من القياس في شيء .

وأيضا قوله تعالى : ( إن أنتم إلا بشر مثلنا ) ووجه الاحتجاج به أنهم أوردوا ذلك في معرض صدهم عما كان يعبد أباؤهم لما بينهم من المشابهة في البشرية ، ولم ينكر عليهم ذلك وهو عين القياس فكان حجة ، وهو ضعيف أيضا لوجهين :

[ ص: 27 ] الأول : لا نسلم عدم النكير عليهم ، فإن الآية إنما خرجت مخرج الإنكار لقولهم ذلك ، ولذلك قال تعالى : ( إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ) .

الثاني : أنه وإن كان قياسا وتشبيها في الأمور الحقيقية ، فلا يلزم مثله في الأحكام الشرعية إلا بطريق القياس أيضا ، وهو محل النزاع .

وأما الإجماعية : فمنها أنهم قالوا : الأمة قد عقلت من قوله تعالى : ( فلا تقل لهما أف ) تحريم الشتم والضرب بطريق القياس ، وهو غير صحيح لإمكان قول الخصم إن ذلك إنما عقل من دلالة اللفظ وفحوى الخطاب على ما سبق .

وإن كان ذلك بطريق القياس ، غير أن العلة فيه معلومة بدلالة النص ، وهي كف الأذى عن الوالدين ، ولا يلزم مثله فيما كانت العلة فيه مستنبطة مظنونة كما قاله النظام .

ومنها : أن الأمة مجمعة على رجم الزاني المحصن قياسا على رجم النبي - صلى الله عليه وسلم ( لماعز ) ، وهو ضعيف وأيضا لإمكان أن يقال : بل إنما حكموا بذلك بناء على قوله - صلى الله عليه وسلم : " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " >[6] .

ومنها أن الأمة مجمعة على أن الله تعالى تعبدنا بالاستدلال بالأمارات على جهة القبلة عند اشتباهها ، وذلك أيضا مما لا يمكن التمسك به ; لأن الخصم لا يمنع من التمسك بالأمارات مطلقا ، بل يجوز ذلك في القبلة وفي تقويم أروش الجنايات وقيم المتلفات وتقدير النفقات ، وفيما كانت الأمارات فيه خفية ، ولا يلزم مثله في الأمارات الشرعية والأقيسة .

كيف وإن من الخصوم من يمنع من صحة الاجتهاد ثم اشتباه القبلة ويوجب التوجه إلى الجهات الأربع حتى يخرج عن العهدة بيقين ؟ !

وأما الحجة المعنوية : فهي أن النص والإجماع مما يقل في الحوادث ويندر ، فلو لم يكن القياس حجة أفضى ذلك إلى خلو أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية وهو خلاف المقصود من بعثة الرسل ، وذلك ممتنع وهي ضعيفة أيضا .

[ ص: 28 ] وذلك لأن الوقائع التي خلت عن النصوص والإجماع ، إنما يلزم خلوها عن الأحكام الشرعية أن لو لم يكن نفي الحكم الشرعي بعد ورود الشرع حكما شرعيا .

وأما إذا كان حكما شرعيا ، وكان مدركه شرعيا وهو استصحاب الحال وانتفاء المدارك الشرعية المقتضية للأحكام الإثباتية فلا >[7] .

وإن سلمنا أن انتفاء الحكم عند انتفاء النص والإجماع ليس حكما شرعيا >[8] ، ولكن إنما يمتنع ذلك أن لو كنا مكلفين بإثبات الأحكام الشرعية في كل قضية ، وهو غير مسلم .

وذلك لأن الشارع كما يورد إثبات الأحكام في بعض الوقائع قد يورد نفيها >[9] في بعض آخر على حسب اختلاف المصالح .

ثم يلزم على ما ذكروه أن تكون المصالح المرسلة الخلية عن الاعتبار حججا في الشريعة وهو محال ، وذلك لأنه ليس كل واقعة يمكن وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها ، فلو لم تكن المصلحة المرسلة حجة أفضى ذلك أيضا إلى خلو الوقائع عن الأحكام الشرعية لعدم وجود النص أو الإجماع أو القياس فيها ، والعذر إذ ذاك يكون مشتركا >[10] .

[ ص: 29 ] والمعتمد في المسألة الكتاب والسنة والإجماع .

أما الكتاب فقوله تعالى : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) أمر بالاعتبار ، والاعتبار هو الانتقال من الشيء إلى غيره ، وذلك متحقق في القياس حيث إن فيه نقل الحكم من الأصل إلى الفرع ، ولهذا قال ابن عباس في الأسنان : اعتبر حكمها بالأصابع في أن ديتها متساوية ، أطلق الاعتبار وأراد به نقل حكم الأصابع إلى الأسنان ، والأصل في الإطلاق الحقيقة .

وإذا ثبت أن القياس مأمور به ، فالأمر إما أن يكون للوجوب أو للندب على ما سبق في الأوامر ، وعلى كلا التقديرين فالعمل بالقياس يكون مشروعا .

فإن قيل : لا نسلم أنه أمر بالاعتبار وصيغة افعلوا مترددة بين الأمر وغيره كما سبق في الأوامر ، وليس جعلها ظاهرة في البعض أولى من البعض .

سلمنا أنها للأمر ، ولكن لا نسلم أن الاعتبار ما ذكرتموه بل هو عبارة عن الاتعاظ ويدل عليه أمران : الأول قوله تعالى : ( إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) ، وقوله : ( وإن لكم في الأنعام لعبرة ) ، والمراد به الاتعاظ إذ هو المتبادر إلى الفهم من إطلاق هذا اللفظ .

الثاني : أن القائس في الفروع إذا أقدم على المعاصي ولم يتفكر في أمر آخرته ; يقال إنه غير معتبر ولو كان القياس هو الاعتبار لما صح سلب ذلك عنه .

سلمنا أن الاعتبار ظاهر في القياس لكنه قد وجد في الآية ما يمنع من الحمل عليه ويصرفه إلى الاعتبار بمعنى الاتعاظ ، وذلك قوله تعالى : ( يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ) ، ولو كان الاعتبار بمعنى القياس لما حسن ترتيبه على ذلك ، وإنما يحسن ذلك عند إرادة الاتعاظ .

سلمنا أن المراد به القياس ، غير أنه ليس في الآية صيغة عموم تقتضي العمل بكل قياس ، فكانت الآية مطلقة ، والمطلق إذا عمل به في صورة أو صور لا يبقى حجة فيما عداها ، ضرورة الوفاء ومعناه بدلالته ، وقد عملنا بذلك في القياس العقلي [ ص: 30 ] والقياس الذي علته منصوصة أو مومأ إليها وبقياس الفروع على الأصول في امتناع إثباتها بالقياس .

سلمنا العموم لكنه قد خص بما كلفنا فيه باليقين وبما كان منصوصا عليه وبما لم نعلم له أصلا ولا وصفا جامعا ، فإن القياس غير مأمور به في ذلك كله .

وكذلك إذا قال لوكيله : " أعتق غانما لسواده " فإنه لا يجوز تعدية ذلك إلى سالم وإن كان مسودا .

والعام بعد التخصيص لا يبقى حجة ، وإن بقي حجة ففي أقل ما يتناوله الاسم العام على ما سبق في العموم .

وإن سلمنا أنه يبقى حجة فيما عدا محل التخصيص ، غير أن الآية خطاب مع الموجودين ، فيختص ذلك بمن كان موجودا في وقت نزول الوحي بالآية ، وإن عم جميع الأزمان ولكنه أمر مطلق ، فلا يكون مفيدا للفور ولا للتكرار ، وإن كان مفيدا لذلك لكن بطريق ظني لا قطعي ، والمسألة قطعية لا ظنية .

والجواب عن السؤال الأول أنا قد بينا أن صيغة ( افعل ) ظاهرة في الطلب ، وأن الطلب لا يخرج عن اقتضاء الوجوب أو الندب في الأوامر وأي الأمرين قدر كان دليلا على شرع القياس .

قولهم : لا نسلم أن الاعتبار عبارة عما ذكرتموه .

قلنا : دليله ما ذكرناه >[11] .

قولهم : يطلق بمعنى الاتعاظ .

قلنا : عنه جوابان :

الأول : المنع ، ويدل عليه قولهم : اعتبر فلان فاتعظ ، ولو كان الاعتبار هو الاتعاظ لما حسن هذا الكلام والترتيب ، ولأن ترتيب الشيء على نفسه ممتنع .

الثاني : أن الاعتبار بمعنى الانتقال من الشيء إلى >[12] ( غيره مشترك بين القياس والاتعاظ أما أن الانتقال متحقق في القياس فقد سبق بيانه ، وأما أنه متحقق في الاتعاظ ) فذلك لأن المتعظ بغيره منتقل من العلم بحال ذلك الغير إلى العلم بحال نفسه >[13] ( ويجب أن يكون لفظ الاعتبار حقيقة فيما وقع فيه الاشتراك نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ ، وإذا كان كذلك فالأمر بالاعتبار أمر بالقدر المشترك بين القياس والاتعاظ ، [ ص: 31 ] وهو إما أن يكون متناولا لواحد من الاعتبارات على سبيل الشيوع أو لكل اعتبار على جهة العموم .

فإن كان الأول فتعلق الأمر به إنما كان لما يتعلق به من المصلحة وتلك المصلحة فكما تحصل من الواحد الفرد تحصل من كل واحد من الأفراد ضرورة الاشتراك في ملزومها ، فاللفظ وإن لم يكن عاما بلفظه فيكون عاما بمعناه .

وإن كان الثاني فهو المطلوب ) فكان مأمورا به من جهة ما فيه من الانتقال وذلك هو القياس ، وعلى هذا فقد خرج الجواب عن الآيتين .

قولهم : القائس إذا كان معرضا عن أمر آخرته يقال إنه غير معتبر .

قلنا : لا يصح إلى كونه قائسا ، وإنما صح إلى أمر الآخرة ، وإنما أطلق النفي بطريق المجاز نظرا إلى إخلاله بأعظم المقاصد وهو أمر المعاد .

( وعن الثالث >[14] أنه إذا كان الانتقال متحققا في الاتعاظ على ما قدمناه - وذلك هو القياس - فلا نسلم امتناع ترتيب القياس على ما ذكروه .

وعن الرابع : أن اللفظ إن كان عاما فهو المطلوب ، وإن كان مطلقا فيجب حمله على القياس الشرعي >[15] نظرا إلى أن الغالب من الشارع أنه إنما يخاطبنا بالأمور الشرعية دون غيرها ، وهو إما أن تكون العلة فيه منصوصة أو مستنبطة ، والأول ليس بقياس على ما حققناه قبل .

وإن كانت مستنبطة فقد سلم صحة الاحتجاج ببعض الأقيسة المختلف فيها ، ويلزم من ذلك تسليم الباقي ضرورة أن لا قائل بالفرق ) .

وعن الخامس : أن العام بعد التخصيص يكون حجة فيما وراء صور التخصيص على ما سبق في العموم .

وعن قولهم : إنه خطاب مع الموجودين في زمن النبي عليه السلام ، فلا يعم .

قلنا : لا نسلم أنه لا يعم بتقدير الوجود والفهم ، وإن سلمنا أنه لا يعم بلفظه ، فهو عام بمعناه ، نظرا إلى انعقاد الإجماع على أن أحكام الخطاب الثابث في زمن النبي عليه السلام عامة في حق من بعد النبي - صلى الله عليه وسلم ، فإذا لم يكن الخطاب عاما بلفظه [ ص: 32 ] وجب أن يكون عاما بمعناه ضرورة انعقاد الإجماع على ذلك >[16] .

وبتقدير أن لا يكون عاما لا بلفظه ، فهو حجة على الخصوم في بعض صور النزاع ، ويلزم من ذلك الحكم في الباقي ، ضرورة أن لا قائل بالتفصيل .

وبهذا الجواب يكون الجواب عن قولهم : إن الأمر المطلق لا يقتضي الفور ولا التكرار .

وعن السؤال الأخير أن المسألة ظنية غير قطعية >[17] .

وأما من جهة السنة ، فما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيا : " بم تحكم ؟ قال : بكتاب الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : فبسنة رسول الله ، قال : فإن لم تجد ؟ قال : أجتهد رأيي " والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقره على ذلك ، وقال : " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله " >[18] واجتهاد الرأي لا بد وأن يكون مردودا إلى أصل وإلا كان مرسلا ، والرأي المرسل غير معتبر ، وذلك هو القياس .

[ ص: 33 ] وأيضا ما روي عنه عليه السلام ، أنه قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري وقد أنفذهما إلى اليمن : " بم تقضيان ؟ فقالا : إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا السنة قسنا الأمر بالأمر ، فما كان أقرب إلى الحق عملنا به " صرحوا بالعمل بالقياس ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقرهما عليه ، فكان حجة .

وأيضا : ما روي عنه عليه السلام أنه قال لابن مسعود : " اقض بالكتاب والسنة إذا وجدتهما ، فإذا لم تجد الحكم فيهما اجتهد رأيك " ، ووجه الاحتجاج به كما تقدم في الخبر الأول .

وأيضا : ما روي عنه عليه السلام أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت : " يا رسول الله إن أبي أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع أن يحج ، إن حججت عنه أينفعه ذلك ؟ فقال لها : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته ، أكان ينفعه ذلك ؟ قالت : نعم ، قال : فدين الله أحق بالقضاء " >[19] ووجه الاحتجاج به أنه ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ونفعه ، وهو عين القياس .

وما مثل هذا >[20] يسميه الأصوليون التنبيه على أصل القياس كما سبق تحقيقه .

[ ص: 34 ] وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال لأم سلمة ، وقد سئلت عن قبلة الصائم : " هل أخبرته أني أقبل وأنا صائم " >[21] وإنما ذكر ذلك تنبيها على قياس غيره عليه .

وأيضا : ما روي عنه أنه أمر سعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة برأيه ، وأمرهم بالنزول على حكمه فأمر بقتلهم وسبي نسائهم ، فقال عليه السلام : " لقد وافق حكمه حكم الله " .

وأيضا : ما روي عنه عليه السلام أنه قال : " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " حكم بتحريم ثمنها باعتبار تحريم أكلها .

وأيضا : ما روي عنه عليه السلام ، أنه علل كثيرا من الأحكام ، والتعليل موجب لاتباع العلة أين كانت ، وذلك هو نفس القياس .

فمن ذلك قوله عليه السلام : " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة ، فادخروها " .

وقوله : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة " .

ومنها قوله لما سئل عن بيع الرطب بالتمر : " أينقص الرطب إذا يبس ؟ فقالوا : نعم ، فقال : فلا إذا " .

ومنها قوله : ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم ) ومنها قوله في حق محرم وقصت به ناقته : " لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا " .

ومنها قوله في حق شهداء أحد : " زملوهم بكلومهم ودمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة ، وأوداجهم تشخب دما ، اللون لون الدم والريح ريح المسك " .

[ ص: 35 ] ومنها قوله في الهرة : " إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات " >[22] .

وقوله : " إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل ، فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ، فإنه لا يدري أين باتت يده " .

وقوله في الصيد : " فإن وقع في الماء فلا تأكل منه لعل الماء أعان على قتله " >[23] .

وأيضا قوله : " أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي " >[24] والرأي إنما هو تشبيه شيء بشيء ، وذلك هو القياس إلى غير ذلك من الأخبار المختلف لفظها المتحد معناها النازل جملتها منزلة التواتر ، وإن كانت آحادها آحادا .

فإن قيل : أما حديث معاذ فإنه مرسل ، وخبر واحد ورد في إثبات كون القياس حجة ، وهو مما تعم به البلوى ، والمرسل ليس بحجة عند الشافعي ، وخبر الواحد فيما تعم به البلوى ليس بحجة عند أبي حنيفة فالإجماع من الفريقين على أنه ليس بحجة .

والذي يدل على ضعفه أن النبي عليه السلام كان قد ولاه القضاء ، وذلك لا يكون إلا بعد معرفة اشتمالمعاذ على معرفة ما به يقضي ، فالسؤال عما علم لا معنى له .

وأيضا فإنه وقف العمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة ، ووقف العمل بالسنة على عدم وجدان الكتاب .

والأول على خلاف قوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، وعلى خلاف قوله : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) ( الأنعام 59 ) ، والثاني على خلاف الدليل الدال على جواز نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة .

[ ص: 36 ] سلمنا صحته وأنه حجة ، غير أن اجتهاد الرأي أعم من القياس ، وذلك لأن اجتهاد الرأي كما يكون بالقياس قد يكون بالاجتهاد في الاستدلال بخفي النصوص من الكتاب والسنة وطلب الحكم فيهما ، وعلى التمسك بالبراءة الأصلية ، ولفظه غير عام في كل رأي ، فلا يكون حمله على اجتهاد الرأي بالقياس أولى من غيره .

سلمنا أن المراد به اجتهاد الرأي بالقياس ، غير أن القياس ينقسم إلى ما علته منصوصة أو مومأ إليها ، وإلى ما علته مستنبطة بالرأي ، واللفظ أيضا مطلق ، وقد عملنا به في القياس الذي علته منصوصة على ما قاله النظام .

سلمنا أنه حجة مطلقا في كل قياس ، ولكن قبل إكمال الدين أو بعده ؟ على ما قال تعالى : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) .

الأول مسلم ، والثاني ممنوع ، وذلك أن إكمال الدين إنما يكون باشتمال الكتاب والسنة على تعريف كل ما لا بد من معرفته ، وعلى هذا فالقياس لا حاجة إليه بعد ذلك ، وبتقدير كونه حجة مطلقا لكن فيما تعبدنا في إثباته بالظن لا باليقين ، والقياس ليس من هذا الباب ، وبهذا يكون الاعتراض على حديث ابن مسعود أيضا .

وأما حديث الجارية الخثعمية ، فالوارد عليه من جملة الأسئلة الواردة على حديث معاذ أنه خبر واحد فيما تعم به البلوى ، وأنه ظني فلا يتمسك به في مسائل الأصول وهما عامان في جميع ما ذكر من الأخبار ، ويخصه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر دين الآدمي بطريق التقريب إلى فهم الجارية في حصول نفع القضاء ، أما أن يكون ذلك بطريق القياس ، فلا .

وأما حديث أم سلمة فيدل على أن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - حجة متبعة ، أما أن يكون ذلك بطريق القياس على فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا .

وأما حديث سعد بن معاذ ، فليس فيه أيضا ما يدل على صحة القياس ، فإن أمره له بأن يحكم في بني قريظة برأيه لا يخص القياس لما تقدم من أن اجتهاد الرأي أعم من القياس ، فلعله أمره أن يحكم باجتهاد رأيه في الاستدلال بخفي النصوص [ ص: 37 ] من الكتاب والسنة ، ولذلك قال عليه السلام : " لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله " .

وأما خبر تحريم الشحوم على اليهود ، فليس فيه ما يدل على تحريم البيع بالقياس على تحريم الأكل ، فإن تحريم الشيء أعم من تحريم أكله ، فإن تحريم الشيء تحريم للتصرف فيه مطلقا ، وبتقدير أن يكون تحريم الأكل مصرحا به ، فالمراد به تحريم التصرف مطلقا ، بدليل قوله تعالى : ( ولا تأكلوا أموالكم ) ، وقوله : ( ولا تأكلوا مال اليتيم ) .

وقوله : ( ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) ، والمراد به المنع من التصرف في ذلك بغير حق .

وأما الأخبار الدالة على تعليل الأحكام ، فليس يلزم من الحكم المنصوص عليه بعلة إلحاق غير المنصوص به لاشتراكهما في تلك العلة ، إذ هو محل النزاع ، وليس في الأخبار ما يدل على الإلحاق ، بل التعليل إنما كان لتعريف الباعث على الحكم ليكون أقرب إلى الانقياد وأدعى إلى القبول ، ولهذا أمكن التنصيص على العلة القاصرة ولا قياس عنها .

وبتقدير دلالتها على الإلحاق ، فالعلل فيها منصوصة ومومأ إليها .

ونحن نقول بهذا النوع من القياس كما قاله النظام ، وقوله عليه السلام : " إني أحكم بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي " فهو على خلاف قوله تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) ، وبتقدير أن يكون حكمه بالرأي فلا يلزم أن يكون ذلك بالقياس لما تقدم .

وبتقدير أن يكون بالقياس ، فلا يلزم من جواز التمسك بالقياس للنبي - عليه السلام - مع كونه معصوما عن الخطأ مسددا في أحكامه جواز ذلك لغيره .

والجواب عن السؤال الأول على خبر معاذ أنا قد بينا أن المرسل وخبر الواحد فيما تعم به البلوى حجة .

وأما سؤال معاذ عما به يقضي ; فإنما كان قبل توليه القضاء ليعلم صلاحيته لذلك ، وإن كان ذلك بعد توليه القضاء فإنما كان ذلك بطريق التأكيد أو بإعلام الغير بأهليته للقضاء [ ص: 38 ] وأما توقيفه للعمل بالرأي على عدم وجدان الكتاب والسنة فغير مخالف لقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) إذ المراد منه إنما هو عدم التفريط فيما ورد من الكتاب ، لا أن المراد به بيان كل شيء ، فإنا نعلم عدم اشتماله على بيان العلوم العقلية من الهندسية والحسابية وكثير من الأحكام الشرعية .

وبتقدير أن يكون المراد به بيان كل شيء لكن لا بطريق الصريح ، بل بمعنى أنه أصل لبيان كل شيء ، فإنه أصل لبيان صدق الرسول في قوله ، وقوله بيان للقياس وغيره ، وبه يخرج الجواب عن الآية الأخرى .

وأما توقيفه العمل بالسنة على عدم الكتاب ، فالمراد به الكتاب الذي لا معارض له ولا ناسخ ، ويجب تنزيله على ذلك ; ضرورة الجمع بين تقرير النبي - عليه السلام - له على ذلك وبين الدليل الدال على نسخ الكتاب وتخصيصه بالسنة .

وعن السؤال الثاني أنه يمتنع حمل اجتهاد الرأي على الاجتهاد في الاستدلال بخفي نصوص الكتاب والسنة ; لأن قوله ( فإن لم تجد ) عام في الجلي والخفي >[25] بدليل صحة الاستثناء وورود الاستفهام ، فتخصيص ذلك بالجلي دون الخفي من غير دليل ممتنع ، والتمسك بالبراءة الأصلية في نفي الأحكام الشرعية ، ليس بحجة على ما يأتي ، فلا يكون اجتهاد الرأي فيه مستندا للحكم >[26] .

وبتقدير أن يكون حجة فذلك معلوم لكل عاقل ، فلا يكون مفتقرا إلى اجتهاد الرأي .

وعن السؤال الثالث : أنا لا نسلم أن ما كانت علته منصوصة يكون قياسا على ما سيأتي >[27] .

وإن سلمنا أنه قياس فما ذكرناه وإن لم يكن حجة على النظام ، فهو حجة على غيره .

وعن الرابع : أن إكمال الدين إنما يكون ببيان كل شيء ، إما بلا واسطة أو [ ص: 39 ] بواسطة على ما بيناه ، وعلى هذا فلا يمتنع العمل بالقياس بعد إكمال الدين لكونه من جملة الوسائط .

وعن الخامس : ما سبق من أن المسألة ظنية غير قطعية >[28] وعلى هذا فلا يخفى الجواب عما يعترض به على خبر ابن مسعود .

وكذلك جواب كل ما يعترض به من هذه الأسئلة على باقي الأخبار .

وما ذكروه على خبر الجارية الخثعمية فبعيد أيضا ، فإنه لو لم يكن مدرك الحكم فيما سألت عنه القياس على دين الآدمي ; لما كان التعرض لذكره مفيدا ، بل كان يجب الاقتصار على قوله نعم .

وما ذكروه على حديث أم سلمة فغير صحيح ، وذلك لأنه لو لم يكن اتباعنا له في فعله بطريق التأسي به لما كان حكم فعله ثابتا في حقنا ، ولا معنى للقياس سوى ذلك .

وما ذكروه على حديث سعد بن معاذ باطل أيضا ; لأن حكمه لو كان مستندا إلى الكتاب أو السنة لما كان ذلك برأيه ، وقد قال : " احكم فيهم برأيك " 8 >[29] ، وقوله عليه السلام : " لقد وافق حكمه حكم الله ورسوله " لا منافاة بينه وبين الحكم بالقياس ، فإنه إذا كان القياس من طرق الشرع ; فالحكم المستند إليه يكون حكما لله ولرسوله .

وما ذكروه على خبر الشحوم مندفع من حيث إن الظاهر من إضافة التحريم إلى المأكول إنما هو تحريم الأكل .

وكذلك التحريم المضاف إلى النساء إنما هو تحريم الوطء ، وإلى الدابة تحريم الركوب ، وإلى الدار تحريم السكنى .

وكذلك في كل شيء على حسبه ، وهو المتبادر إلى الفهم عند إطلاقه ، فتحريم [ ص: 40 ] البيع لا يكون مأخوذا من مطلق التحريم المضاف إلى أكل الشحوم ، فلم يبق إلا أن يكون بطريق الإلحاق به وهو معنى القياس >[30] .

وما ذكروه على الأخبار الدالة على التعليل بالعلل المذكورة من أن ذلك لا يدل على التعدية فحق ، غير أن ما ذكروه بتقدير تسليم التعدية على مذهب النظام فقد سبق جوابه >[31] .

وأما الإجماع - وهو أقوى الحجج في هذه المسألة - >[32] فهو أن الصحابة اتفقوا على استعمال القياس في الوقائع التي لا نص فيها من غير نكير من أحد منهم ; >[33] فمن ذلك >[34] رجوع الصحابة إلى اجتهاد أبي بكر - رضي الله عنه - في أخذ الزكاة من بني حنيفة ، وقتالهم على ذلك [ ص: 41 ] وقياس خليفة رسول الله على الرسول في ذلك بوساطة أخذ الزكاة للفقراء وأرباب المصارف >[35] .

ومن ذلك قول أبي بكر لما سئل عن الكلالة : " أقول في الكلالة برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان " الكلالة ما عدا الوالد والولد >[36] .

ومن ذلك أن أبا بكر ورث أم الأم دون أم الأب ، فقال له بعض الأنصار : " لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها ، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركت " ، فرجع إلى التشريك بينهما في السدس >[37] .

ومن ذلك حكم أبي بكر بالرأي في التسوية في العطاء حتى قال له عمر : " كيف تجعل من ترك دياره وأمواله وهاجر إلى رسول الله كمن دخل في الإسلام كرها ، فقال أبو بكر : إنما أسلموا لله وأجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ " ، وحيث انتهت [ ص: 42 ] النوبة إلى عمر فرق بينهم >[38] .

ومن ذلك قياس أبي بكر تعيين الإمام بالعهد على تعيينه بعقد البيعة ، حتى إنه عهد إلى عمر بالخلافة ووافقه على ذلك الصحابة >[39] .

ومن ذلك ما روي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري : " اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك " .

ومن ذلك قول عمر : " أقضي في الجد برأيي ، وأقول فيه برأيي " ، وقضى فيه بآراء مختلفة >[40] .

ومن ذلك قوله لما سمع حديث الجنين : " لولا هذا لقضينا فيه برأينا " .

[ ص: 43 ] ومن ذلك أنه لما قيل له في مسألة المشركة " هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة " فشرك بينهم >[41] .

ومن ذلك أنه لما قيل لعمر : إن سمرة قد أخذ الخمر من تجار اليهود في العشور وخللها وباعها ، قال : " قاتل الله سمرة ، أما علم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها " ، قاس الخمر على الشحم وأن تحريمها تحريم لثمنها .

ومن ذلك أنه جلد أبا بكرة حيث لم يكمل نصاب الشهادة بالقياس على القاذف وإن كان شاهدا لا قاذفا .

ومن ذلك قول عثمان لعمر في واقعة : " إن تتبع رأيك فرأيك أسد وإن تتبع رأي من قبلك فنعم ذلك الرأي كان " ولو كان فيه دليل قاطع على أحدهما لم يجز تصويبهما .

ومن ذلك أنه ورث المبتوتة بالرأي >[42] .

ومن ذلك قول علي - عليه السلام - في حد شارب الخمر : " إنه إذا شرب سكر وإذا سكر هذى وإذا هذى افترى ، فحدوه حد المفترين " >[43] قاس حد الشارب على القاذف .

ومن ذلك أن عمر كان يشك في قود القتيل الذي اشترك في قتله سبعة ، فقال له علي يا أمير المؤمنين : أرأيت لو أن نفرا اشتركوا في سرقة ; أكنت تقطعهم ؟ قال : نعم ، قال : فكذلك وهو قياس للقتل على السرقة .

ومن ذلك ما روي عن علي أنه قال في أمهات الأولاد ( اتفق رأيي ورأي عمر على أن لا يبعن ، وقد رأيت الآن بيعهن ) حتى قال له عبيدة السلماني : ( رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك ) >[44] .

[ ص: 44 ] ومن ذلك قول علي في المرأة التي أجهضت بفزعها بإرسال عمر إليها : أما المأثم فأرجو أن يكون منحطا عنك وأرى عليك الدية ، فقال له : عزمت عليك أن لا تبرح حتى تضربها على بني عدي - يعني قومه - وألحقه عثمان وعبد الرحمن بن عوف بالمؤدب ، وقالا : إنما أنت مؤدب ، ولا شيء عليك

>[45] .

ومن ذلك قول ابن عباس ; لما ورث زيد ثلث ما بقي في مسألة زوج وأبوين أين : ( وجدت في كتاب الله ثلث ما بقي ؟ ) فقال له زيد : أقول برأيي وتقول برأيك >[46] .

ومن ذلك قوله في مسألة الجد ( ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبا الأب أبا ) .

ومن ذلك قول ابن مسعود في المفوضة برأيه بعد أن استمهل شهرا ، وأنه كان يوصي من يلي القضاء بالرأي ويقول : ( لا ضير في القضاء بالكتاب والسنة وقضايا الصالحين ، فإن لم تجد شيئا من ذلك فاجتهد رأيك ) .

ومن ذلك اختلاف الصحابة في الجد حتى ألحقه بعضهم بالأب في إسقاط الأخوة وألحقه بعضهم بالأخوة .

[ ص: 45 ] ومن ذلك اختلافهم في قول الرجل لزوجته : " أنت علي حرام " ، حتى قال أبو بكر وعمر : هو يمين .

وقال علي وزيد : هو طلاق ثلاث .

وقال ابن مسعود : هو طلقة واحدة .

وقال ابن عباس : هو ظهار ، إلى غير ذلك من الوقائع التي لا تحصى ، وذلك يدل على أن الصحابة مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها ، وأنه ما من واحد من أهل النظر والاجتهاد منهم إلا وقد قال بالرأي والقياس .

ومن لم يوجد منه الحكم بذلك فلم يوجد منه في ذلك إنكار ، فكان إجماعا سكوتيا وهو حجة مغلبة على الظن لما سبق تقريره في مسائل الإجماع .

وإنما قلنا إنهم قالوا بالرأي والقياس في جميع هذه الصور ، وذلك لا بد لهم فيها من مستند وإلا كانت أحكامهم بمحض التشهي والتحكم في دين الله من غير دليل ، وهو ممتنع وذلك المستند يمتنع أن يكون نصا ، وإلا لأظهر كل واحد ما اعتمد عليه من النص ; إقامة لعذره وردا لغيره عن الخطأ بمخالفته على ما اقتضته العادة الجارية بين النظار ، ولأن العادة تحيل على الجمع الكثير كتمان نص دعت الحاجة إلى إظهاره في محل الخلاف .

وهذا بخلاف ما إذا أجمعوا على حكم في واقعة بناء على نص ، فإنه لا يمتنع اتفاقهم على عدم نقله بناء على الاكتفاء في ذلك الحكم بإجماعهم ، ولو أظهروا تلك النصوص واحتجوا بها ; لكانت العادة تحيل عدم نقلها ، فحيث لم تنقل دل على عدمها ، وإذا لم يكن نصا تعين أن يكون قياسا واستنباطا .

فإن قيل : لا نسلم أن أحدا من الصحابة عمل بالقياس ، وما نقل عنهم من الاجتهاد في الوقائع المذكورة والعمل بالرأي ، فلعلهم إنما استندوا فيه إلى الاجتهاد في دلالات النصوص الخفية من الكتاب والسنة ، كحمل المطلق على المقيد والعام على الخاص ، وترجيح أحد النصين على الآخر ، والنظر في تقرير النفي الأصلي ودلالة الاقتضاء والإشارة والتنبيه والإيماء وأدلة الخطاب وتحقيق المناط وغير ذلك من الاجتهادات المتعلقة بالأدلة النصية .

[ ص: 46 ] قولكم : لو كان ثم نص لظهر ، ولو كانوا قائسين لتلك الصور على غيرها ; لأظهروا العلل الجامعة فيها وصرحوا بها كما في النصوص ، ولو أظهروها واحتجوا بها لنقلت أيضا ، فعدم نقلها يدل على عدمها ، وإذا لم يكن قياس واستنباط تعين أن يكون المستند إنما هو النص وليس أحد الأمرين أولى من الآخر .

وما نقل عن الصحابة من التصريح ومعناه بالرأي في الوقائع المذكورة لا يلزم أن يكون قياسا ، فإن اجتهاد الرأي أعم من اجتهاد الرأي بالقياس على ما تقرر ، ولا يلزم من وجود الأعم وجود الأخص .

سلمنا أنهم عملوا بالقياس ، غير أنا لا نسلم عمل الكل به ، فإنه لم ينقل ذلك إلا عن جماعة يسيرة لا تقوم الحجة بقولهم .

قولكم : إنه لم يوجد من غيرهم نكير عليهم لا نسلم ذلك .

وبيان وجود الإنكار >[47] ما روي عن أبي بكر أنه لما سئل عن الكلالة قال : " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني ، إذا قلت في كتاب الله برأيي " .

وأيضا ما روي عن عمر أنه قال : " إياكم وأصحاب الرأي ، فإنهم أعداء الدين أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا " . وقال : " إياكم والمكايلة " فسئل عن ذلك ، فقال : " المقايسة " ، وروي عن شريح أنه قال كتب إلي عمر : ( اقض بما في كتاب الله ، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فاقض بما في سنة رسول الله ، فإن جاءك ما ليس في سنة رسول الله فاقض بما أجمع عليه أهل العلم ، فإن لم تجد فلا عليك أن لا تقضي ) .

وأيضا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال لعمر في مسألة الجنين : ( إن اجتهدوا فقد أخطئوا وإن لم يجتهدوا فقد غشوك ) .

[ ص: 47 ] وروي عن عثمان وعلي أنهما قالا : ( لو كان الدين بالقياس ; لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره ) .

وروي عن ابن عباس أنه قال : إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ، ولم يقل بما رأيت ، ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لرسول الله ، وقال : إياكم والمقاييس ، فإنما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس ، وقال : ( إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه ) .

وروي عن ابن عمر أنه قال : ( السنة ما سنه رسول الله ، لا تجعلوا الرأي سنة ) ، وقال أيضا : ( إن قوما يفتون بآرائهم لو نزل القرآن لنزل بخلاف ما يفتون ) ، وقال أيضا : ( اتهموا الرأي على الدين ، فإنه منا تكلف وظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) .

وروي عن ابن مسعود أنه قال : ( إذا قلتم في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا مما حرم الله وحرمتم كثيرا مما حلل الله ) ، وقال أيضا : ( قراؤكم صلحاؤكم يذهبون ، ويتخذ الناس رءوسا جهالا يقيسون ما لم يكن بما كان ) .

وقالت عائشة : ( أخبروا زيد بن أرقم أنه أحبط جهاده مع رسول الله بفتواه بالرأي في مسألة العينة ) .

وقد أنكر التابعون ذلك أيضا حتى قال الشعبي : ( ما أخبروك عن أصحاب محمد فاقبله وما أخبروك عن رأيهم فألقه في الحش ) ، وقال مسروق : ( لا أقيس شيئا بشيء أخاف أن تزل قدم بعد ثبوتها ) ، وكان ابن سيرين يذم المقاييس ويقول : ( أول من قاس إبليس ) .

ومع هذه الإنكارات من الصحابة والتابعين فلا إجماع .

سلمنا أنه لم يظهر النكير في ذلك ، لكن لا يلزم منه أن يكون سكوت الباقين عن موافقة ، لما ذكر في الإجماع [ ص: 48 ] سلمنا أنه موافقة ، لكنه لا حجة في إجماع الصحابة .

وكيف يقال بذلك ، وقد عدلوا عما أمروا به ونهوا عنه وتجبروا وتآمروا وجعلوا الخلاف طريقا إلى أغراضهم الفاسدة ؟ حتى جرى بينهم ما جرى من الفتن والحروب وتألبوا على أهل البيت ، وكتموا النص على علي رضي الله عنه وغصبوه الخلافة ، ومنعوا فاطمة إرثها من أبيها المنصوص عليه في كتاب الله برواية انفرد بها أبو بكر ، وعدلوا عن طاعة الإمام المعصوم المحيط بجميع النصوص الدالة على جميع الأحكام الشرعية ، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يجوز معها الاحتجاج بأقوالهم ، وهذا السؤال مما أورده الرافضة .

سلمنا أن قول البعض بالقياس وسكوت الباقين حجة ، لكنها حجة ظنية على ما سبق في الإجماع ، وكون القياس حجة أمر قد تعبدنا فيه بالعلم ، فلا يكون مستفادا من الدليل الظني .

سلمنا صحة الاحتجاج به ، ولكن ما المانع أن يكون عملهم بالقياس المنصوص على علته ، ونحن نقول به كما قاله النظام والقاشاني والنهرواني .

سلمنا عملهم بكل قياس ، لكن لم قلتم إنه إذا جاز العمل بالقياس للصحابة جاز ذلك لمن بعدهم ; وذلك لأن الصحابة لما كانوا عليه من شدة اليقين والصلابة في الدين ومشاهدة الوحي والتنزيل وكثرة التحفظ في أمور دينهم ، حتى نقل عنهم قتل الأباء والأبناء وبذل الأنفس والأموال ومهاجرة الأهل والأوطان في نصرة الدين ، حتى ورد في حقهم من التفضيل والتعظيم في الكتاب والسنة ما لم يرد مثله في حق غيرهم على ما ذكر في الإجماع ، وعند ذلك فلا يلزم من جواز عملهم بالقياس جوازه لغيرهم .

سلمنا دلالة ما ذكرتموه على صحة القياس وأنا متعبدون به لكنه معارض بالكتاب والسنة .

أما الكتاب فقوله تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) ، والحكم بالقياس تقدم بين يدي الله ورسوله ; لأنه حكم بغير قوليهما .

وقوله تعالى : ( وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ، وقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) ، والحكم بالقياس قول بما لا يعلم .

[ ص: 49 ] وقوله تعالى : ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ، وقوله تعالى : ( إن بعض الظن إثم ) ، وقوله تعالى : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ، والحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله .

وقوله تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ، وقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) ، والحكم بالقياس لا يكون حكما لله ولا مردودا إليه .

وقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، وقوله تعالى : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) ، وذلك يدل على أنه لا حاجة إلى القياس .

وأما من جهة السنة فما روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ستفترق أمتي فرقا أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور بالرأي " >[48] وأيضا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : " تعمل هذه الأمة برهة بكتاب الله ، وبرهة بسنة رسول الله ، وبرهة بالرأي فإذا فعلوا ذلك ضلوا وأضلوا " >[49] ، وذلك يدل على أن القياس والعمل بالرأي غير صحيح .

والجواب : قولهم لا نسلم أن أحدا من الصحابة عمل بالقياس ، قلنا : دليله ما ذكرناه .

قولهم : يحتمل أن يكون عملهم بدلالات النصوص الخفية .

قلنا : لو كان كذلك لظهر المستند واشتهر على ما قررناه .

قولهم : ولو كان ذلك لمحض القياس لأظهروا العلل الجامعة وصرحوا بها كما في النصوص .

قلنا : منهم من صرح كتصريح أبي بكر في التسوية في العطاء بين المهاجرين وغيرهم ، وهو قوله : " إنما الدنيا بلاغ " وتصريح علي في قياسه حد شارب الخمر على حد القاذف بواسطة الاشتراك في الافتراء ، وتصريح عثمان وعبد الرحمن بن عوف في إلحاقهم عمر في صورة المرأة التي أجهضت الجنين بالمؤدب بواسطة التأديب .

ومنهم من اعتمد في التنبيه عليها بفتواه ، وجري العادة بفهم المستمع وجه المأخذ والشبه بين محل النزاع ومحل الإجماع ، ولهذا فإن العادة جارية من بعض [ ص: 50 ] الملوك بقتل الجاسوس إذا ظفر به ; زجرا له ولغيره عن التجسس عليه ، وعادة البعض الإحسان إليه لاستمالته له حتى يدله على أحوال عدوه ، فإذا رأينا ملكا قد قتل جاسوسا أو أحسن إليه ، ولم نعهد من عادته قبل ذلك شيئا كان ذلك كافيا في التنبيه على رعاية العلة الموجبة للقتل أو الإحسان في محل الوفاق ، ولا كذلك النصوص فإن الأذهان غير مستقلة بمعرفتها ، فدعت الحاجة إلى التصريح بها .

وعلى هذا فمن قال منهم في قوله : " أنت علي حرام " : إنه طلاق ثلاث نبه على أن مطلق التحريم يقتضي نهاية التحريم ، وذلك مشترك بينه وبين الطلاق الثلاث ، فلذلك عدى الطلاق الثلاث إليه .

ومن جعله طلقة واحدة نبه على أنه اعتبر فيه أقل ما يثبت معه التحريم ، فلذلك ألحقه بالطلقة الواحدة ، ومن جعله ظهارا ألحقه بالظهار من حيث إنه يفيد التحريم بلفظ ليس هو لفظ الطلاق ، ولا لفظ الإيلاء .

ومن شرك بين الجد وابن الابن نبه على أن العلة في ذلك استواؤهما في الإدلاء إلى الميت في طرفي العلو والسفل ، ولهذا شبههما بغصني شجرة وجدولي نهر .

ومن ذلك تنبيه عمر في قياسه الخمور على الشحوم على أن العلة في تحريم أثمانها تحريمها .

ومن ذلك التنبيه في التشريك بين الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأم على أن العلة الاشتراك في جهة الأمومة إلى غير ذلك من التنبيهات .

ويدل على ما ذكرناه لبعض أكثر الصحابة فيما عملوا به بالرأي .

قولهم : اجتهاد الرأي أعم من القياس .

قلنا : وإن كان الأمر على ما قيل ، غير أنا قد بينا أنه لم يكن ذلك مستندا إلى النصوص ، فتعين استناده إلى القياس والاستنباط >[50] .

قولهم : لا نسلم عمل الكل بالقياس .

[ ص: 51 ] قلنا : وإن عمل به البعض ، فقد بينا أنه لم يوجد من الباقين في ذلك نكير فكان إجماعا .

قولهم : قد وجد الإنكار ، لا نسلم ذلك ، وما ذكروه من صور الإنكار فهي منقولة عمن نقلنا عنهم القول بالرأي والقياس ، فلا بد من التوفيق بين النقلين لاستحالة الجمع بينهما والعمل بأحدهما من غير أولوية ، وعند ذلك فيجب حمل ما نقل عنهم من إنكار العمل بالرأي والقياس على ما كان من ذلك صادرا عن الجهال ، ومن ليس له رتبة الاجتهاد ، وما كان مخالفا للنص ، وما ليس له أصل يشهد له بالاعتبار ، وما كان على خلاف القواعد الشرعية وما استعمل من ذلك فيما تعبدنا فيه بالعلم دون الظن جمعا بين النقلين ، هذا من جهة الإجمال .

وأما من جهة التفصيل : أما قول أبي بكر : " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي " فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن ، ولا شك أن ذلك مما لا مجال للرأي فيه لكونه مستندا إلى محض السمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم ، وأهل اللغة بخلاف الفروع الشرعية .

وأما قول عمر : " إياكم وأصحاب الرأي " الخبر إلى آخره ، فإنما قصد به ذم من ترك الأحاديث وحفظ ما وجد منها وعدل إلى الرأي مع أن العمل به مشروط بعدم النصوص .

وقوله : ( إياكم والمكايلة ) أي المقايسة ، فالمراد به المقايسة الباطلة لما ذكرناه .

وأما قوله لأبي موسى الأشعري >[51] فإنما يفيد أن لو لم يكن القياس مما أجمع عليه أهل العلم ، وإلا فبتقدير أن يكون واجدا له ; فلا .

[ ص: 52 ] وقول علي لعمر في مسألة الجنين لا يدل على أن كل اجتهاد خطأ ، ونحن لا ننكر الخطأ في بعض الاجتهادات كما سبق تعريفه .

وأما قول عثمان وعلي : " لو كان الدين بالقياس " الخبر ، فيجب حمله على أنه لو كان جميع الدين بالقياس ، لكان المسح على باطن الخف أولى من ظاهره ، ويكون المقصود منه أنه ليس كل ما أتت به السنن على ما يقتضيه القياس .

وأما قول ابن عباس " إن الله قال لنبيه " الخبر ، ليس فيه ما يدل على عدم الحكم بالقياس إلا بمفهومه وليس بحجة على ما سبق بيانه .

وقوله : ( إياكم والمقاييس ) يجب حمله على المقاييس الفاسدة كالمقاييس التي عبدت بها الشمس والقمر وغير ذلك مما بيناه لما سلف من الجمع بين النقلين .

وقوله : " إن الله لم يجعل لأحد أن يحكم في دينه برأيه " يجب حمله على الرأي المجرد عن اعتبار الشارع له لما سبق .

وأما قول ابن عمر : " السنة ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم " فإنما ينفع أن لو كان القياس ليس مما سنه الرسول .

وقوله : " لا تجعلوا الرأي سنة " أراد به الرأي الذي لا اعتبار له ، وإلا فالرأي المعتبر من السنة لا يكون خارجا عن السنة .

وقوله : " إن قوما يفتون بآرائهم " الخبر ، ليس فيه ما يدل على أن كل من أفتى برأيه يكون كذلك ، ونحن لا ننكر أن بعض الآراء باطل .

وقوله : " اتهموا الرأي على الدين " غايته الدلالة على احتمال الخطأ فيه ، وليس فيه ما يدل على إبطاله .

وقوله : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) المراد به استعمال الظن في مواضع اليقين لا أن المراد به إبطال الظن بدليل صحة العمل بظواهر الكتاب والسنة >[52] .

وأما قول ابن مسعود : ( إذا قلتم في دينكم بالقياس . . . ) الخبر ، يجب حمله على القياس الفاسد لما سبق ، وقوله : " ويتخذ الناس رءوسا جهالا " إلى آخره فالمراد [ ص: 53 ] به أيضا القياس الباطل ، ولهذا وصفهم بكونهم جهالا .

وعلى ذلك يجب حمل قول عائشة في حق زيد بن أرقم ، وكذلك قول الشعبي ومسروق وابن سيرين ، جمعا بين النقلين كما سبق تقريره .

قولهم : لا نسلم أن السكوت يدل على الموافقة .

قلنا : دليله ما سبق في مسائل الإجماع .

قولهم : لا نسلم أن إجماع الصحابة حجة قد دللنا عليه في مسائل الإجماع أيضا ، وما ذكروه من الفوادح في الصحابة فمن أقوال المبتدعة الزائغين كالنظام ومن تابعه من الرافضة الضلال ، وقد أبطلنا ذلك كله في كتاب ( أبكار الأفكار ) في المواضع اللائقة بذلك >[53] .

قولهم : إنه حجة ظنية ، قلنا : والمسألة أيضا عندنا ظنية .

قولهم : ما المانع أن يكون عملهم بالأقيسة المنصوص على عللها ؟

عنه أجوبة ثلاثة :

الأول : أنه لو كان ثم نص لنقل كما ذكرناه في النصوص الدالة على الأحكام .

الثاني : أنه إذا كانت العلة منصوصة ، فإن لم يرد التعبد بإثبات الحكم بها في غير محل النص ، فيمتنع إثباته لما يأتي في المسألة التي بعدها ، وإن ورد الشرع بذلك فالحكم يكون في الفرع ثابتا بالاستدلال ، أي بعلة منصوصة لا بالقياس على ما يأتي تقريره ، وعلى هذا فلا يكونون عاملين بالقياس .

الثالث : أن ذلك يكون حجة على من أنكر القياس مطلقا وإن لم يكن حجة على النظام والقائلين بقوله .

قولهم : لا يلزم أن يكون القياس حجة بالنسبة إلى غير الصحابة .

قلنا : القائل قائلان : قائل يقول بالقياس مطلقا بالنسبة إلى الكل ، وقائل بنفيه مطلقا بالنسبة إلى الكل ، وقد اتفق الفريقان على نفي التفصيل >[54] ، كيف وإنه حجة على من قال بنفيه مطلقا .

[ ص: 54 ] وما ذكروه من المعارضة أما الآية الأولى فإنما تفيد أن لو لم يكن القياس مما عرف التعبد به من الله تعالى ورسوله ، وعند ذلك فيتوقف كون العمل بالقياس تقدما بين يدي الله ورسوله على كون الحكم به غير مستفاد من الله ورسوله ، وذلك متوقف على كون الحكم به تقدما بين يدي الله ورسوله ، فلا يكون حجة .

وأما الآية الثانية والثالثة فجوابهما من ثلاثة أوجه :

الأول : أنا نقول بموجب الآيتين ، وذلك لأنا إذا حكمنا بمقتضى القياس عند ظننا به ، فحكمنا به يكون معلوم الوجوب لنا بالإجماع لا أنه غير معلوم .

الثاني : أنه يجب حمل الآيتين على النهي عن القول بما ليس بمعلوم على ما تعبدنا فيه بالعلم جمعا بينهما ، وبين ما ذكرناه من الأدلة .

الثالث : أن الآيتين حجة على الخصوم في القول بإبطال القياس ، إذا هو غير معلوم لهم لكون المسألة غير علمية ، فكانت مشتركة الدلالة .

وبمثل هذه الأجوبة يكون الجواب عن قوله تعالى : ( وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ) ، وقوله : ( إن بعض الظن إثم ) ، وأما قوله تعالى : ( وأن احكم بينهم بما أنزل الله ) ، فنحن نقول بموجبه فإن من حكم بما هو مستنبط من المنزل فقد حكم بالمنزل ، كيف وأن ذلك مع الرسول ؟ ولا يلزم من امتناع ذلك في حق الرسول لإمكان تعرفه أحكام الوقائع بالوحي امتناع ذلك في حق غيره >[55] .

وقوله تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ، وقوله : ( فردوه إلى الله والرسول ) غير مانع من القياس ; لأن العمل بالمستنبط من قول الله وقول الرسول حكم من الله ورد إليه وإلى الرسول .

وأما من قال بإبطال القياس ، فلم يعمل بقول الله وقول الرسول ولا بما استنبط منهما ، فكان ذلك حجة عليه لا له .

وقوله تعالى : ( ما فرطنا في الكتاب من شيء ) ، [ ص: 55 ] وقوله : ( ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ) .

فالمراد به أن الكتاب بيان لكل شيء إما بدلائل ألفاظه من غير واسطة ، وإما بواسطة الاستنباط منه أو دلالته على السنة والإجماع الدالين على اعتبار القياس ، فالعمل بالقياس يكون عملا بما بينه الكتاب لا أنه خارج عنه .

كيف وإنه مخصوص بالإجماع ، فإنا نعلم عدم اشتماله على تعريف العلوم الرياضية من الهندسية والحسابية ، بل وكثير من الأحكام الشرعية >[56] كمسائل الجد والإخوة ، وأنت علي حرام ، والمفوضة ، ومسائل العول ونحوه ، وعند ذلك فيجب حمله على أن ما اشتمل عليه الكتاب من الأحكام المبينة به لا تفريط فيها ; حذرا من مخالفة عموم اللفظ .

وأما ما ذكروه من السنة في ذم الرأي ، فيجب حمله على الرأي الباطل كما ذكرناه جمعا بين الأدلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية