الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
المسألة الثالثة

>[1] اختلفوا في الواجب المخير كما في خصال الكفارة .

فمذهب الأشاعرة والفقهاء أن الواجب منها واحد لا بعينه ، ويتعين بفعل المكلف .

وأطلق الجبائي وابنه القول بوجوب الجميع على التخيير .

حجة أصحابنا أنه لا يخلو إما أن يقال بوجوب الجميع أو بوجوب واحد ، والواحد إما معين وإما غير معين ، لا جائز أن يقال بالأول لخمسة أوجه :

الأول : أنه لو كان التخيير موجبا للجميع لكان الأمر بإيجاب عتق عبد من العبيد على طريق التخيير موجبا للجميع ، وهو محال .

الثاني : أن ذلك مما يمنع من التخيير ، ولهذا فإنه لا يحسن أن يقول القائل لغيره : أوجبت عليك صلاتين فصل أيهما شئت واترك أيهما شئت . كما لا يحسن أن يقول : أوجبت عليك الصلاة وخيرتك في فعلها وتركها ; لما فيه من رفع الواجب ، وليس ذلك من لغة العرب في شيء .

[ ص: 101 ] الثالث : أن الواجب ما لا يجوز تركه مع القدرة عليه ، والأمر فيما نحن فيه بخلافه .

الرابع : أن الخصوم قد وافقوا على أنه لو أتى بالجميع أو ترك الجميع فإنه لا يثاب ولا يعاقب على الجميع .

>[2] الخامس : أنه لو كان الجميع واجبا لنوى نية أداء الواجب في كل واحدة من الخصال عند ما إذا فعل الجميع ، وهو خلاف الإجماع ، ولا جائز أن يقال بأن الواجب واحد معين إذ هو خلاف مقتضى التخيير ، ولأنه كان يلزم أن لا يحصل الإجزاء بتقدير أداء غيره مع القدرة عليه ، وهو خلاف الإجماع فلم يبق غير الإبهام .

غير أن أبا الحسين البصري قد تكلف رد الخلاف في هذه المسألة إلى اللفظ دون المعنى ، وذلك أنه قال : معنى إيجاب الجميع أن الله تعالى حرم ترك الجميع لا كل واحد واحد منها بتقدير فعل المكلف لواحد منها مع تفويض فعل أي واحد منها كان إلى المكلف ، وهذا هو بعينه مذهب الفقهاء غير أن ما ذكره في تفسير وجوب الجميع ، وإن كان رافعا للخلاف غير أنه خلاف ما نقله الأئمة عن الجبائي وابنه من إطلاق القول بوجوب الجميع والدلائل المشعرة بذلك . فلننسج في الحجاج على منوالهم .

فإن قيل : ما ذكرتموه من الدليل إنما يلزم أن لو كانت آية التكفير ، وهي قوله تعالى : ( فكفارته إطعام عشرة مساكين ) ، الآية دالة على تخيير كل واحد واحد من الأمة بين خصال الكفارة بجهة الإيجاب ، وما المانع أن يكون ذلك إخبارا عما يوجد من الكفارة ، وتقديره فما يوجد من الكفارة هو إطعام من حانث أو كسوة من حانث آخر أو عتق من حانث آخر .

[ ص: 102 ] سلمنا دلالتها على الإيجاب ، لكن لا أنها بالتخيير لكل واحد واحد من الأمة ، بل المراد بها إيجاب الإطعام على البعض والكسوة على البعض والعتق على البعض ، فكأنه قال : فكفارته إطعام عشرة مساكين لبعضهم ، أو الكسوة لبعض آخر ، أو العتق لبعض آخر . سلمنا دلالة ما ذكرتموه لكنه معارض بما يدل على إبطال مدلوله ، وبيانه من أحد عشر وجها :

الأول : أن الخصال المذكورة إما أن تكون مستوية فيما يرجع إلى الصفات المقتضية للوجوب ، أو أنها مختصة بالبعض دون البعض .

فإن كان الأول ، فيلزم التسوية في الوجوب بين الكل .

وإن كان الثاني ، كان ذلك البعض هو الواجب بعينه دون غيره .

الثاني : أن الواجب ما تعلق به الشرع بالإيجاب ، وخطاب الشرع إنما يتعلق بالمعين دون المبهم ، ولهذا فإنه يمتنع تعلق الإيجاب بأحد شخصين لا بعينه ، فكذلك بفعل أحد أمرين لا بعينه ، وعند ذلك فيلزم تعلقه بالكل أو ببعض منه معين .

الثالث : أن الإيجاب طلب ، والطلب يستدعي مطلوبا معينا لما تحقق قبل ، والمعين إما الكل أو البعض .

الرابع : أنه لو فعل العبد الجميع ، فإنه يثاب ثواب من فعل واجبا ، فسببه يجب أن يكون مقدورا للمكلف معينا لاستحالة الثواب على ما لا يكون من فعل العبد واستحالة إسناد المعين إلى غير معين ، والمبهم ليس كذلك فلزم أن يكون الثواب على الجملة أو بعض معين منها .

الخامس : أنه لو ترك الجميع فإنه يعاقب عقاب من ترك واجبا منها ، وذلك يدل على أن الجميع واجب أو بعض منه معين كما سبق .

السادس : أنه لو كان الواجب واحدا لا بعينه من الخصال ; لكان منها شيء لا بعينه غير واجب ، والتخيير بين الواجب وما ليس بواجب محال لما فيه من رفع حقيقة الواجب .

[ ص: 103 ] السابع : أنه لو كان الواجب واحدا لا بعينه ، فعند التكفير بالجميع إما أن يسقط الفرض بمجموعها ، أو بكل واحد منها ، أو بواحد منها ، فإن كان الأول أو الثاني فالكل واجب ، وإن كان الثالث فذلك هو الفرض .

الثامن ، ويخص إيجاب الجميع : أنه لو كان الواجب واحدا لنصب الله عليه دليلا ولم يكله إلى تعيين العبد لعدم معرفته بما فيه المصلحة ، كما >[3] في سائر الواجبات . فحيث لم يعين دل على أن الكل واجب .

التاسع : أنه إذا كان الواجب واحدا لا بعينه ويتعين بفعل المكلف ، فالباري تعالى يعلم ما سيعينه العبد فيكون الواجب معينا عند الله ، وإن لم يكن معينا عند العبد قبل الفعل ، ويلزم من ذلك التخيير بين الواجب المعين وبين ما ليس واجبا ، وهو محال ، فثبت أن الجميع واجب .

العاشر : أنه لو كان الواجب واحدا لا بعينه فكفر ثلاثة كل واحد بواحد من الخصال ، غير ما كفر به الآخر لكان الواحد منهم لا بعينه هو المكفر بالواجب دون الباقين ، وحيث وقع ما فعله كل واحد موقع الواجب كان الجميع واجبا .

الحادي عشر : أن الوجوب قد يعم عددا من المتعبدين ويسقط بفعل الواحد منهم كفرض الكفاية ، فلا يمتنع أن يعم الوجوب عددا من العبادات يسقط بفعل واحدة منها .

والجواب عن السؤال الأول : أن الإجماع من الأمة منعقد على أن المراد من الآية الوجوب لا نفس الإخبار .

وعن الثاني : أن حمل الآية على ما ذكروه مع مخالفته لإجماع السلف مما يحوج إلى إضمارات كثيرة في الآية ، وهي ما قدروه من البعض في قولهم : فكفارته إطعام عشرة مساكين لبعضهم ، وكذلك في الكسوة والعتق ، وهو على خلاف الأصل من غير حاجة ، كيف وأنه لو كان كما ذكروه لقال : فكفارته إطعام عشرة مساكين وكسوتهم وتحرير رقبة ; لوجوب الخصال الثلاث على الجميع بالنسبة إلى الحانثين المذكورين .

[ ص: 104 ] وعن المعارض الأول أنه مبني على وجوب رعاية المصلحة في أحكام الله تعالى ، وهو غير مسلم .

>[4] كيف وأنه يلزم منه أن يكون الأمر على ما ذكروه في عقد الإمامة لأحد الإمامين الصالحين ، وتزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين ، وفي إيجاب عتق عبد من العبيد وهو مخالف للإجماع ، وحيث تعذر الوجوب على أحد شخصين لا بعينه ، إنما كان لتوقف تحقق الوجوب على ارتباطه بالذم والعقاب على ما سبق في تحديده ، وذم أحد شخصين لا بعينه متعذر بخلاف الذم على أحد فعلين لا بعينه ، وبهذه الصور يكون اندفاع ما ذكروه من المعارض الثاني وما بعده إلى آخر التاسع .

وعن العاشر : أن الواجب على كل واحد من المكفرين خصلة من الخصال الثلاث لا بعينها ، وقد أتى بما وجب عليه >[5] وسقط به الفرض عنه ، فكان ما أتى به كل واحد واجبا لا أن الواجب على الكل خصلة واحدة لا بعينها ليلزم ما قيل .

وعن الحادي عشر : أنا لا نمنع سقوط الواجب دون أدائه ، ولكن لا يلزم من ذلك أن تكون خصال الكفارة كلها واجبة كما كان الوجوب على أعداد المكلفين في فرض الكفاية ; لأن الإجماع منعقد على تأثيم الكل بتقدير اتفاقهم على الترك ، ولا كذلك في خصال الكفارة .

>[6] وعلى هذه القاعدة لو قال لزوجتيه : إحداكما طالق ، فالمطلقة منهما واحدة لا بعينها ، وإن وجب الكف عنهما والتخيير في التعيين إلى المطلق كما لو قيل في خصال الكفارة من غير فرق ، ولا يخفى وجه الحجاج من الطرفين .

التالي السابق


الخدمات العلمية