الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 89 ] الاعتراض الثالث عشر - النقض

وهو عبارة عن تخلف الحكم مع وجود ما ادعي كونه علة له ، وقد أومأنا في مسألة تخصيص العلة إلى وجه دلالة ذلك على إبطالها ووجه الانفصال عنه فيما إذا كانت العلة منصوصة أو مجمعا عليها أو مستنبطة ، وفي صورة النقض مانع أو فوات شرط بالاستقصاء التام المفصل .

والذي يختص بما نحن فيه هاهنا وجوه أخر في الجواب >[1] .

الأول : منع وجود العلة في صورة النقض إن أمكن ، وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة زكاة الحلي مال غير نام ، فلا تجب فيه الزكاة كثياب البذلة .

فقال المعترض : هذا ينتقض بالحلي المحظور ، فإنه غير نام ومع ذلك فإن الزكاة تجب فيه .

فقال المستدل : لا أسلم أن الحلي المحظور غير نام ، وإنما كان منع وجود العلة في صورة النقض دافعا للنقض ؛ لأن النقض وجود العلة ولا حكم ، فإذا لم توجد العلة في صورة النقض فلا نقض .

لكن اختلفوا في المعترض ، هل له الدلالة على وجود العلة في صورة النقض عند منع المستدل لوجودها ؟

فمنهم من قال : له ذلك إذ به يتحقق انتقاضها وهدم كلام المستدل ، فكان له ذلك كغيره من الاعتراضات .

ومنهم من منع من ذلك ؛ لما فيه من قلب القاعدة بانقلاب المستدل معترضا والمعترض مستدلا ، والواجب إنما هو التفصيل وهو أنه إن تعين ذلك طريقا للمعترض في هدم كلام المستدل ، وجب قبوله منه تحققا لفائدة المناظرة ، وإن أمكنه القدح بطريق آخر هو أفضى إلى المقصود فلا ، نعم لو كان المستدل قد دلل على وجود العلة في محل التعليل بدليل هو موجود في صورة النقض ، فإذا منع وجود العلة ، [ ص: 90 ] فإن قال المعترض فقد انتقض الدليل الذي دللت به على وجود العلة لا يكون مسموعا لكونه انتقالا على نفس العلة إلى النقض على دليلها .

وذلك كما لو قال الحنفي في مسألة تبييت النية وتعيينها أي بمسمى الصوم ، فوجب أن يصح كما في محل الوفاق ، ودل على وجود الصوم بقوله : إن الصوم عبارة في الإمساك مع النية ، وهو موجود فيما نحن فيه .

فقال المعترض : هذا منتقض بما إذا نوى بعد الزوال .

وإن قال المعترض للمستدل : ابتداء أمرك لا يخلو من حالين ، إما أن تعتقد وجود الصوم في صورة النقض أو لا تعتقده .

فإن كان الأول ، فقد انتقضت علتك ، وإن كان الثاني فقد انتقض ما ذكرته من الدليل على وجود العلة كان متجها .

وإن أورد ذلك لا في معرض نقض دليل وجود العلة ، بل في معرض الدلالة به على وجود العلة في صورة النقض ، ( فالحكم فيه على ما سبق في الدلالة على نفي الحكم في صورة النقض ) ، فهو غير مسموع على ما يأتي .

الثاني : منع تخلف الحكم ، وإنما كان ذلك دافعا للنقض لما ذكرناه في منع وجود العلة ، وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الثيب الصغيرة ( ثيب ) فلا يجوز إجبارها كالثيب البالغ .

فقال المعترض : هذا منقوض بالثيب المجنونة ، فإنه يجوز إجبارها .

فقال المستدل : لا نسلم صحة إجبار الثيب المجنونة ، والكلام في تمكين المعترض من الاستدلال على تخلف الحكم في صورة النقض كالكلام في دلالته على وجود العلة وقد عرف ما فيه >[2] .

الثالث أن يكون النقض على أصل المستدل خاصة ، وذلك كما لو قال الشافعي في مسألة الرطب بالتمر : باع مال الربا بجنسه متفاضلا ، فلا يصح كما لو باع صاعا بصاعين [ ص: 91 ] فقال الحنفي : هذا منتقض على أصلك بالعرايا ، فإنه يصح وإن باع مال الربا بجنسه متفاضلا .

وجوابه من ثلاثة أوجه :

الأول : أن يبين في صورة النقض مناسبا يقتضي النفي ، من مانع أو فوات شرط مع قران الحكم به على أصله .

الثاني : أن يقول : النقض إنما هو من قبيل المعارض لدليل العلة ، فتخلف الحكم عن العلة إنما هو على مذهب أحد الفريقين ، وثبوت الحكم على وفق العلة المعلل بها بالاتفاق ، ولا مساواة بين المتفق عليه والمختلف فيه ، فلا يقع في معارضة دليل العلة .

الثالث : أن يبين أن تخلف الحكم عن العلة في معرض الاستثناء ، والمستثنى لا يقاس عليه ولا يناقض به ، كما في صورة العرايا المذكورة .

الرابع : أن يكون إبداء النقض على أصل المعترض لا غير ، وتوجيهه أن يقول المعترض : هذا الوصف مما لم يطرد على أصل ، فلا يلزمني الانقياد إليه .

وجوابه أن يقول المستدل : ما ذكرته حجة عليك في الصورتين ، إذ هي محل النزاع ومذهبك في صورة النقض لا يكون حجة في درء الاحتجاج وإلا كان حجة في محل النزاع ، وهو محال .

وهل يجب على المستدل الاحتراز في دليله عن النقض ؟ اختلفوا .

فمنهم من قال بوجوبه لقربه من الضبط وبعده عن النشر والخبط ؛ ولأن ما أشار إليه المستدل من الوصف المعلل به إذا كان منتقضا .

فأما أن يكون انتفاء الحكم في صورة النقض لا لمعارض أو لمعارض ، فإن كان الأول فلا يكون الوصف علة لما سبق تقريره في مسألة تخصيص العلة .

وإن كان الثاني ، فقد ثبت أن للعلة معارضا متفقا عليه فلا بد من نفيه في الدليل ؛ لأن المناظر تلو الناظر وليس للناظر الجزم بالحكم عند ظهور سببه دون ظهور انتفاء معارضه ، فكذلك المناظر ، غير أنا أسقطنا عنه كلفة نفي المعارض المختلف فيه لعسر نفيه ، فبقينا فيما عداه على حكم الأصل .

ومنهم من لم يوجبه تمسكا منه بأن ما يقع به الاحتراز عن النقض ، إما أن يكون من جملة أجزاء العلة أو خارجا عنها ، [ ص: 92 ] فإن كان الأول ، فالعلة لا تكون علة دونه ، وما مثل >[3] هذا لا خلاف في وجوب ذكره في العلة لعدم تمام العلة دونه ، ومن نازع فيه فقد نازع في أنه : هل يجب على المستدل ذكر العلة أو لا .

وإن كان الثاني ، فلا يخلو إما أن يكون مشيرا إلى نفي المعارض أو لا يكون كذلك .

فإن كان الأول ، فقد تعرض لما لم يسأل عنه لكونه مسئولا بعد الفتوى عن الدليل المقتضي للحكم ، وانتفاء المعارض ليس من الدليل ، ولو قيل إنه من الدليل كان خلاف الغرض في هذا القسم .

وإن كان الثاني ، فالنقض غير مندفع به ؛ لأن النقض عبارة عن وجود العلة ولا حكم ، فإذا كان المذكور خارجا عن العلة ولا فيه إشارة إلى نفي المعارض فالعلة ما دونه ، وقد وجدت في صورة النقض ولا معارض ، فكان النقض متجها .

وإن قيل إن الوصف المأخوذ للاحتراز من جملة العلة لتعلق فائدة دفع النقض به ، وإن لم يكن مناسبا فقد سبق إبطاله في تخصيص العلة .

التالي السابق


الخدمات العلمية