الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 93 ] الاعتراض الخامس عشر

المعارضة في الأصل بمعنى وراء ما علل به المستدل ، وسواء كان مستقلا بالتعليل كمعارضة من علل تحريم ربا الفضل في البر بالطعم أو بالكيل أو بالقوت >[1] أو غير مستقل بالتعليل على وجه يكون داخلا في التعليل وجزءا من العلة ، وذلك كمعارضة من علل وجوب القصاص في القتل بالمثقل ؛ بالقتل العمد العدوان بالجارح في الأصل ونحوه >[2] .

وقد اختلف الجدليون في قبوله ، فمنهم من رده بناء منه على أنه لا يمتنع الحكم الواحد بعلتين كما سبق تقريره >[3]

ولهذا لو قدرنا انفراد ما ذكر المستدل مجردا عن المعارض صح التعليل به إجماعا ، وإنما صح التعليل به لصلاحية فيه لا لعدم المعارض ، فإن العدم لا يكون علة ولا داخلا فيها لما سبق تقريره >[4] .

فإذا صح التعليل به مع عدم المعارض ، صح مع وجوده ؛ ولأنه لا معنى للعلة إلا ما يثبت الحكم عقيبها ، وهذا المعنى موجود في الوصفين فكان كل واحد علة .

ومنهم من قبله وأوجب جوابه على المستدل وهو المختار ، وذلك لأنه إذا وجد في الأصل وصفان .

فإما أن يكون كل واحد علة مستقلة أو لا يكون كذلك .

لا جائز أن يكون كل واحد علة مستقلة لما سبق تقريره في امتناع ذلك ، سواء كانت العلة بمعنى الأمارة أو الباعث .

[ ص: 94 ] وإن كان القسم الثاني ، فإما أن يكون الحكم لما ذكره المستدل لا غير ، أو لما ذكره المعترض لا غير ، أو لهما جميعا بحيث تكون العلة مجموع الوصفين ، وكل واحد منهما جزؤها .

لا جائز أن يقال بالأول ولا بالثاني ، فإنه ليس تعيين أحدهما للتعليل وإلغاء الآخر مع تساويهما في الاقتضاء أولى من الآخر فلم يبق غير الثالث ، ويلزم منه امتناع تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع >[5] .

وبتقدير تساوي الاحتمالات الثلاثة فلا يخفى أن التعدية تمتنع بتقدير أن تكون العلة ما ذكره المعترض .

وبتقدير أن تكون العلة هي الهيئة الاجتماعية من الوصفين ، وإنما يصح بتقدير التعليل بما ذكره المستدل لا غير .

ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه ، ومع ذلك فالتعدية تكون ممتنعة ، لكن بشرط أن يكون ما أبداه المعترض صالحا للتعليل أو لدخوله فيه عند كون ما أبداه المستدل صالحا وإلا فلا معارضة ، وهل يجب على المعترض نفي ما أبداه معارضا في الأصل عن الفرع ؟ اختلفوا فيه ، فمنهم من قال : لا يجب عليه ذلك ؛ فإنه إن كان موجودا في الفرع فيفتقر المستدل إلى بيان وجوده فيه ليصح الإلحاق ، وإن لم يبين ذلك فقد انقطع الجمع .

>[6] ومنهم من قال : لا بد له من نفيه عن الفرع ؛ لأن مقصوده الفرق ، وذلك لا يتم دون نفيه عن الفرع .

والمختار أنه إن قصد المعترض الفرق فلا بد له من نفيه ، وإن لم يقصد الفرق بأن يقول : هذا الوصف قد ثبت أنه لا بد من إدراجه في التعليل لما دل عليه من الدليل ، فإن كان غير موجود في الفرع فقد ثبت الفرق .

وإن كان موجودا في الفرع ، فالحكم يكون في الفرع بمجموع الوصفين ونتبين أن المستدل لم يكن ذاكرا للعلة في الابتداء بل لبعضها ، وأي الأمرين قدر فالإشكال لازم .

[ ص: 95 ] هذا كله فيما إذا كان المقيس عليه أصلا واحدا .

وإن كان المقيس عليه أصولا متعددة ، فمنهم من منع من ذلك لإفضائه إلى النشر مع إمكان حصول المقصود بالواحد منها ، ومنهم من جوز ذلك لكونه أقوى في إفادة الظن .

ومن جوز ذلك اختلفوا في جواز الاقتصار في المعارضة في الأصل على أصل واحد ، فمنهم من جوزه ؛ لأن المستدل قصد إلحاق الفرع بجميع الأصول ، فإذا وقع الفرق بين الفرع وبعض الأصول ، فقد تم مقصود المعترض من إبطال غرض المستدل ، ومنهم من قال : لا بد من المعارضة في كل أصل ؛ لأنه إذا عارض في البعض دون البعض ، فقد بقي قياس المستدل صحيحا على الأصل الذي لم يعارض فيه ، وبه يتم المقصود من إثبات الحكم أو نفيه ، والذين أوجبوا المعارضة في جميع الأصول .

منهم من أوجب اتحاد المعارض في الكل دفعا لانتشار الكلام ، ولأن يكون مقابلا في اتحاده لاتحاد وصف المستدل ، ومنهم من جوز المعارضة في كل أصل بغير ما في الأصل الآخر ، لجواز أن لا يساعده في الكل علة واحدة .

ثم اختلف هؤلاء ، فمنهم من قال يجوز للمستدل الاقتصار في الجواب على أصل واحد إذ به يتم مقصوده ، ومنهم من لم يجوز ذلك حيث إن المستدل التزم صحة القياس على الكل ، وعلى هذا يقع الخلاف فيما لو عارض في بعض الأصول هل يجب على المستدل الجواب أو لا ؟

والوجه في الجواب من ستة أوجه :

الأول : منع وجود الوصف المعارض به في الأصل .

الثاني : المطالبة بتأثير الوصف ، إن كان طريق إثبات العلة من جانب المستدل المناسبة أو الشبه دون السبر والتقسيم .

[ ص: 96 ] الثالث : أن يبين كونه ملغى في جنس الأحكام كالطول والقصر ونحوه .

الرابع : أن يبين أنه ملغى في جنس الحكم المعلل ، وإن كان >[7] مناسبا وذلك كالذكورة في باب العتق .

الخامس >[8] : أن يبين أنه قد استقل بالحكم في صورة دون الوصف المعارض به ، وعند ذلك فيمتنع أن يكون علة مستقلة في محل التعليل لما فيه من إلغاء المستقل واعتبار غير المستقل .

ويمتنع أن يكون داخلا في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع مع استقلاله لفوات ما لم يثبت استقلاله ، وهو ممتنع .

فإن عارض المعترض في صورة الإلغاء بوصف آخر غير ما عارض به في الأصل ، فلا بد من إبطاله ، وإلا فالقياس متعذر .

ولا يمكن أن يقال في جوابه إن كل وصف اختص بصورة فهو ملغى بالصورة الأخرى ، وهذا هو المسمى في الاصطلاح بتعدد الوضع .

فإن للمعترض أن يقول : العكس غير لازم في العلل الشرعية ؛ لجواز ثبوت الحكم في كل صورة بعلة غير علة الصورة الأخرى ، وإذا جاز ثبوت الحكم في صورتين بعلتين مختلفتين فلا يلزم من إثبات الحكم في كل صورة بعلة مع عدم علة الصورة الأخرى فيها إلغاء ما وجد في تلك الصورة .

السادس : أن يبين رجحان ما ذكره على ما عارض به المعترض بوجه من وجوه الترجيحات التي يأتي ذكرها .

وعند ذلك ، فيمتنع جعل ما عارض به المعترض علة مستقلة في محل التعليل ؛ لما فيه من إهمال الراجح واعتبار المرجوح . [ ص: 97 ] ويمتنع أن يكون داخلا في التعليل لما فيه من إلغاء ما علل به المستدل في الفرع بتخلف الحكم عنه مع رجحانه ، ضرورة انتفاء الوصف المرجوح .

وهاهنا ترجيح آخر ، وهو أن يكون أحد الوصفين في الأصل المستنبط منه متعديا والآخر قاصرا .

وذلك لا يخلو : إما أن يكون في طرف الإثبات أو النفي ، فإن كان في طرف الإثبات ؛ فلا يخلو : إما أن يكون الوصف المتعدي جزءا من العلة ، أو خارجا عنها بأن يكون المعارض في الأصل بالوصف القاصر لا غير ، فإن كان خارجا عنها ، فلا يخلو : إما أن يكون الوصف المتعدي مساويا للقاصر في جهة اقتضائه أو أن الترجيح لأحدهما ، فإن كان مساويا للقاصر من جهة الاقتضاء ، فالتعليل بالمتعدي أولى ، وبيانه من جهة الإجمال والتفصيل .

أما الإجمال : فهو أن التعليل بالمتعدي متفق عليه ، بخلاف التعليل بالقاصر ، والتعليل بالمتفق عليه أولى .

وأما التفصيل : فهو أن فائدة المتعدي أكثر من القاصر ؛ لأن فائدة القاصر إنما هي في ظهور الحكمة الباعثة في الأصل لسرعة الانقياد وسهولة القبول ، والمتعدي مشارك للقاصر في هذا المعنى ، وزيادة التعريف للحكم في الفرع ، وهو أعظم فوائد العلة عند الأكثرين ، وهو وإن لزم من التعليل به إهمال المناسب القاصر فمقابل بمثله ، حيث إنه يلزم من التعليل بالقاصر إهمال المناسب المتعدي مع كونه راجحا .

والتعليل بالقاصر وإن كان على وفق النفي الأصلي في الفرع ، والتعليل بالمتعدي على خلافه إلا أنه مخالفة لما وقعت مخالفته في الأصل بما لم تظهر مخالفته ولو عملنا بالقاصر لموافقة النفي الأصلي ؛ لكان فيه العمل بموافقة ما وقع الاتفاق على مخالفته ومخالفة ما لم يقع الاتفاق على مخالفته ، وهو الوصف المتعدي فكان مرجوحا .

فإن قيل : إلا أن التعليل بالوصف المتعدي يلزم منه مخالفة ما لم يتفق على مخالفته من الوصف القاصر ، وما اتفق على مخالفته من النفي الأصلي ، فكان فيه مخالفة ظاهرين : [ ص: 98 ] أحدهما متفق على مخالفته والآخر غير متفق على مخالفته ، والتعليل بالوصف القاصر يلزم منه العمل بهذين الظاهرين ، ومخالفة ظاهر واحد وهو الوصف المتعدي .

قلنا : هذا مقابل بمثله فإنه بعد أن ثبت الحكم في الأصل لمعنى - وإن كان قاصرا - فالأصل أن يثبت في الفرع بما وجد مساويا لوصف الأصل في الاقتضاء نظرا إلى تماثل مقصود الشارع ، والمحافظة على هذا الأصل أولى من المحافظة على النفي الأصلي ، لكون النفي الأصلي مخالفا في الأصل بمثل ما قيل باقتضائه للحكم في الفرع .

وعند ذلك فيترجح ما ذكرناه من جهة أن العمل بالوصف المتعدي عمل به ، وبأصل مترجح على النفي الأصلي ، والعمل بالقاصر عمل به وبأصل مرجوح بالنظر إلى الأصل المعمول به من جانبنا ، فكان ما ذكرناه أولى .

فإن قيل : ربما كان المانع للحكم قائما مطلقا ، وعند ذلك فالتعليل بالقاصر أولى ، لما فيه من موافقة الدليل الشرعي النافي وموافقة النفي الأصل بخلاف المتعدي .

قلنا : المانع في الفرع يستدعي وجود المقتضى وإلا فالحكم يكون فيه منتفيا ؛ لانتفاء ما يقتضيه ، لا لوجود منافيه ، فدعوى وجود المانع في الفرع مع وجوب قصور العلة المقتضية للإثبات على الأصل >[9] تناقض لا حاصل له .

كيف وإن ما مثل هذا المانع مرجوح ثم الخصم بالنسبة إلى الوصف القاصر والمتعدي على ما وقع به الفرض في ابتداء الكلام ، مساو للقاصر في المقصود ، فكان مرجوحا بالنسبة إلى المتعدي أيضا ، فكان المتعدي أولى كما بيناه في النفي الأصلي .

فإن قيل : كما أن المتعدية قد تعرف إثبات الحكم في الفرع ، فالقاصرة تعرف نفيه عن الفرع ، وكما أن معرفة ثبوت الحكم في الفرع مقصود للشارع ؛ فمعرفة انتفائه أيضا عنه مقصود له .

قلنا : هذا إنما يستقيم أن لو لم يوجد في الفرع ما هو مساو للعلة القاصرة في الأصل فيما يرجع إلى جهة الاقتضاء ، والمقصود المطلوب للشارع من إثبات الحكم ؛ لأن تعريف العلة القاصرة لنفي الحكم في الفرع إنما هو بناء على انتفاء مقصود الحكم ، ولن يتصور ذلك مع وجود ما هو مساو في الطلب والاقتضاء لما هو المقصود في الأصل ، فلا ينتهض الوصف القاصر في الأصل علامة على انتفاء الحكم في الفرع مع وجود الوصف المتعدي فيه ومساواته للقاصر في الاقتضاء على ما وقع به الفرض .

[ ص: 99 ] كيف وإن العلة القاصرة غير مستقلة بتعريف انتفاء الحكم في الفرع إلا مع ضميمة انتفاء علة غيرها ، وانتفاء النص والإجماع بخلاف العلة المتعدية في طرف الإثبات ، فما استقل بالتعريف يكون أولى مما لا يستقل .

نعم ، قد يتوقف العمل بالعلة المثبتة على انتفاء المعارض لا أن انتفاء المعارض من جملة المعرف ولا الداعي ، بخلاف ما تتوقف عليه العلة القاصرة في تعريفها نفي الحكم في الفرع .

والعمل بما هو معرف بنفسه من غير توقف في تعريفه على غيره أولى .

وعلى هذا يكون الحكم إن كان الوصف المتعدي راجحا في جهة اقتضائه أولى والوصف المتعدي وإن توقف استقلاله على إخراج القاصر عن التعليل فليس إخراج القاصر موقوفا على استقلال المتعدي ، ليلزم الدور لجواز اتفاقهما في إخراجهما عن التعليل .

كيف وإنه مقابل بدور آخر حيث إنه يتوقف إدخال القاصر في التعليل على عدم استقلال المتعدي ، وكذلك بالعكس .

وأما إن كان المتعدي مرجوحا في جهة اقتضائه بالنسبة إلى الوصف القاصر ، فالوصف القاصر أولى نظرا إلى المحافظة على زيادة المناسبة المعتبرة بثبوت الحكم على وفقها ، والنظر إليها وإن أوجب إهمال فائدة المتعدية أولى لما فيه من زيادة المصلحة ، وصلاح المكلف ، وما يتعلق به من زيادة التعقل وسرعة الانقياد في ابتداء ثبوت الحكم لأنه الأصل في كون الحكم معللا .

وفائدة التعدية إنما تعرف بعد تعرف تعليل الحكم بما علل به بنظر ثان متأخر عن النظر ، فيما علل به الحكم في الأصل ، ولا شك أن ما هو أشد مناسبة للحكم يكون أسبق إلى الفهم بالتعليل للحكم الثابت في الأصل فكان التعليل به أولى .

وإن كانت جهة التساوي والأرجحية غير معلومة ولا ظاهرة ، فالتعليل بالمتعدي أولى نظرا إلى أن العمل به أولى على تقدير أن يكون مساويا ، وعلى تقدير أن يكون راجحا ، وإنما يمتنع العمل به على تقدير أن يكون مرجوحا في نفس الأمر .

ولا يخفى أن العمل بما العمل به يتم على تقدير من التقديرين أولى مما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد بعينه .

[ ص: 100 ] وعلى ما فصلناه في طرف الإثبات يكون الحكم في طرف النفي ، هذا كله إن كان الوصف المتعدي خارجا عن العلة القاصرة .

وأما إن كان داخلا فيها بأن كان المعارض معللا بمجموع الوصفين ؛ الوصف القاصر والمتعدي معا ، فالقاصر أولى ؛ وسواء كان ذلك في طرف الإثبات أو النفي ؛ وسواء كان المتعدي راجحا على القاصر أو مرجوحا أو مساويا .

أما في طرف الإثبات ؛ فلأن التعليل بالعلة المتعدية يلزم منه إهمال الوصف القاصر وتعطيله ، ولا كذلك بالعكس ، ويخفى أن الجمع أولى من التعطيل .

فإن قيل : إلا أنه على تقدير أن يكون الوصف المتعدي راجحا لو جعلنا الوصف القاصر داخلا في التعليل ، فيلزم منه أن يتخلف الحكم في الفرع عن الوصف المتعدي الراجح ؛ رعاية لما فات من الوصف المرجوح وهو ممتنع .

قلنا : هذا إنما يستقيم على تقدير أن يكون رجحانه ظاهرا ، ولا يستقيم على تقدير أن يكون مرجوحا أو مساويا ، ولا يخفى أن احتمال وقوع العمل بما يتم على تقدير من تقديرين أولى من العمل بما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد بعينه .

كيف وإن العمل بالقاصر ، وإن كان يفضي إلى إهمال الوصف المتعدي في الفرع ؛ إلا إنه لا يلزم منه إهماله مطلقا إذ هو داخل في العلة ، ولو عملنا بالوصف المتعدي فقط يلزم منه إهمال القاصر وتعطيله مطلقا ، فالعمل بالقاصر يكون أولى ، وعلى هذا يكون الحكم إن كان ذلك في طرف النفي أيضا ، بل أولى لما فيه من تقليل مخالفة المقتضي للإثبات .

هذا إن ظهر الترجيح ، وأما إن تحققت المعارضة من غير ترجيح بعد البحث التام ، فعلى مقتضى ما أسلفناه من القول بالتخيير عند التعارض مع التنافي ، فلا مانع من الجري على تلك القاعدة هاهنا .

التالي السابق


الخدمات العلمية