الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 111 ] الاعتراض الخامس والعشرون - سؤال القول بالموجب

وحاصله يرجع إلى تسليم ما اتخذه المستدل حكما لدليله على وجه لا يلزم منه تسليم الحكم المتنازع فيه .

ومهما توجه على هذا الوجه ، كان المستدل منقطعا لتبيين أن ما نصه من الدليل لم يكن متعلقا بمحل النزاع ، وهو منحصر في قسمين ، وذلك لأن المستدل إما أن ينصب دليله على تحقيق مذهبه ، وما نقل عن إمامه من الحكم أو على إبطال ما يظنه مدركا لمذهب خصمه .

فإن كان الأول ، فهو كما لو قال الشافعي في الملتجئ إلى الحرم : وجد سبب جواز استيفاء القصاص ، فكان استيفاؤه جائزا .

فقال الخصم : أقول بموجب هذا الدليل ، فإن استيفاء القصاص عندي جائز ، وإنما النزاع في جواز هتك حرمة الحرم .

وإن كان الثاني : فهو كما لو قال الشافعي في مسألة استيلاد الأب جارية ابنه : وجوب القيمة لا يمنع من إيجاب المهر كاستيلاد أحد الشريكين ، أو قال في مسألة القتل بالمثقل : التفاوت في الوسيلة لا يمنع وجوب القصاص ، كالتفاوت في المتوسل إليه .

فقال الخصم : أقول بموجب هذا الدليل ، وأن وجوب القيمة لا يمنع من وجوب المهر ، والتفاوت في الوسيلة لا يمنع من التفاوت في المتوسل إليه ، والنزاع إنما هو في وجوب المهر ووجوب القصاص .

ولا يلزم من إبطال ما ذكر من الموانع إثبات وجوب المهر والقصاص ، لجواز انتفاء المقتضي لذلك أو وجود مانع آخر أو فوات شرط .

وورود هذا النوع من القول بالموجب أغلب في المناظرات من ورود النوع الأول من جهة أن خفاء المدارك أغلب من خفاء الأحكام ؛ لكثرة المدارك وتشعبها وعدم الوقوف على ما هو معتمد الخصم من جملتها بخلاف الأحكام ، فإنه قلما يتفق الذهول عنها .

ولهذا قد يشترك في معرفة الحكم المنقول عن الإمام الخواص والعوام دون معرفة المدارك ، فكان احتمال الخطأ في اعتقاد كون المدرك المعين هو مدرك الإمام أقرب من احتمال الخطأ فيما ينسب إلى الإمام من الحكم المدلول عليه .

[ ص: 112 ] وقد اختلف الجدليون في وجوب تكليف المعترض إبداء مستند القول بالموجب في هذا النوع >[1] .

فقال بعضهم : لا بد من تكليفه بذلك لاحتمال أن يكون هذا هو المأخذ عنده فإذا علم أنه لا يكلف بإبداء المأخذ عند إيراد القول بالموجب ، فقد يقول بذلك عنادا ، قصدا لإيقاف كلام خصمه ولا كذلك إذا وظف عليه بيان المأخذ فكان أفضى إلى صيانة الكلام عن الخبط والعناد فكان أولى .

وقال آخرون : لا وجه لتكليفه بذلك بعد وفائه بشرط القول بالموجب ، وهو استبقاء محل النزاع وهو الأظهر ؛ لأنه عاقل متدين وهو أعرف بمأخذ إمامه ، فكان الظاهر من حاله الصدق فيما ادعاه ، فوجب تصديقه .

كيف وإنا لو أوجبنا عليه إبداء المأخذ ، فإن مكنا المستدل من إبطاله والاعتراض عليه يلزم منه قلب المستدل معترضا ، والمعترض مستدلا .

ولا يخفى ما فيه من الخبط ، وإن لم يمكن من ذلك فلا فائدة في إبداء المأخذ لإمكان ادعائه ما يصلح للتعليل ؛ ترويحا لكلامه ثقة منه بامتناع ورود الاعتراض عليه .

وللمستدل في دفع القول بالموجب بالاعتبار الأول طرق .

الأول : أن يقول : المسألة مشهورة بالخلاف فيما فرض فيه الكلام إن أمكن ، والشهرة بذلك دليل وقوع الخلاف فيه .

الثاني : أن يبين أن محل النزاع لازم فيما فرض الكلام فيه ، وذلك كما لو كان حكم دليله أنه لا يجوز قتل المسلم بالذمي ، فقال المعترض : هو عندي غير جائز ، بل واجب .

فيقول المستدل المعنى بعدم الجواز لزوم التبعة بفعله ، ويلزم من ذلك نفي الوجوب لاستحالة لزوم التبعة بفعل الواجب .

الثالث : أن يقول المستدل : القول بالموجب فيه تغيير كلامي عن ظاهره ، فلا يكون قولا بموجبه .

[ ص: 113 ] وذلك كما لو كان المستدل قد قال في زكاة الخيل : حيوان تجوز المسابقة عليه ، فوجبت فيه الزكاة قياسا على الإبل .

فقال المعترض : عندي تجب فيه زكاة التجارة . والنزاع إنما هو في زكاة العين ، فيقول المستدل : إذا كان النزاع في زكاة العين ، فظاهر كلامي منصرف إليها لقرينة الحال ، ولظهور عود الألف واللام في الزكاة إلى المعهود ، وأيضا فإن لفظ الزكاة يعم زكاة العين والتجارة ، فالقول به في زكاة التجارة قول بالموجب في صورة واحدة ، وهو غير متجه >[2] لأن موجب الدليل التعميم ، فالقول ببعض الموجب لا يكون قولا بالموجب بل ببعضه .

وكذلك إذا قال في مسألة إزالة النجاسة >[3] : مائع لا يزيل الحدث ، فلا يزيل الخبث كالمرقة .

فقال المعترض : أقول به ؛ فإن الخل النجس لا يزيل الحدث ولا الخبث .

فيقول المستدل : ظاهر كلامي إنما هو الخل الظاهر ، ضرورة وقوع النزاع فيه ، وإيراد القول بالموجب على وجه يلزم منه تغيير كلام المستدل عن ظاهره لا يكون قولا بمدلوله وموجبه ، بل بغيره فلا يكون مقبولا .

وله في دفع القول بالموجب بالاعتبار الثاني أيضا طرق .

الأول : أن يكون المستدل قد أفتى بما وقع مدلولا لدليله ، وفرض المعترض الكلام معه فيه وطالبه بالدليل عليه ، فإذا قال بالموجب بعد ذلك فقد سلم ما وقع النزاع فيه وأفسد على نفسه القول بالموجب بالمطالبة بالدليل عليه أولا .

وبمثل هذا يمكن أن يجاب عن القول >[4] بالاعتبار الأول أيضا .

الثاني : أن يبين أن لقب المسألة مشهور بذلك بين النظار ، كما سبق تقريره أولا .

الثالث : أن يبين أن محل النزاع لازم من مدلول دليله إن أمكن ، [ ص: 114 ] وذلك بأن يكون المعترض قد ساعد على وجود المقتضي لوجوب القصاص ، وكانت الموانع التي يوافق المستدل عليها منتفية والشروط متحققة >[5] .

فإذا أبطل كون المانع المذكور مانعا ، فيلزم منه الحكم المتنازع فيه ظاهرا .

وأما قياس الدلالة والقياس في معنى الأصل ، فيرد عليهما كل ما كان واردا على قياس العلة سوى الأسئلة المتعلقة بمناسبة الوصف الجامع ، فإنها لا ترد عليهما .

أما قياس الدلالة ؛ فلأن الوصف الجامع فيه ليس بعلة ، وأما القياس في معنى الأصل ؛ فلعدم ذكر الجامع فيه .

والأسئلة الواردة على نفس الوصف الجامع لا ترد على القياس في معنى الأصل لعدم ذكر الجامع فيه >[6] .

ويختص قياس الدلالة بسؤال آخر ، وهو عند ما إذا كان الجامع بين الأصل والفرع أحد موجبي الأصل ، كما إذا قال القائل في مسألة الأيدي باليد الواحدة : أحد موجبي الأصل ، فالطرف المعصوم يساوي النفس ، فيه دليله الموجب الثاني ، وقرره بأن الدية أحد الموجبين في الأصل وهي واجبة في الفرع على الكل ، ويلزم من وجود أحد الموجبين في الفرع وجود الموجب الآخر ، وذلك لأن علة الموجبين في الأصل إما أن تكون واحدة أو متعددة .

فإن كانت واحدة فيلزم من وجود أحد موجبيها في الفرع وجودها فيه ، ومن وجودها فيه وجود الموجب الآخر وهو القصاص على الكل .

وإن كانت متعددة ، فتلازم الحكمين في الأصل دليل تلازم العلتين ، وعند ذلك فيلزم من وجود أحد الحكمين في الفرع وجود علته التي وجد بها في الأصل ويلزم من وجود علته وجود علة الحكم الآخر .

والسؤال الوارد عليه أن يقال : لا يلزم من وجود أحد حكمي الأصل في الفرع وجود الحكم الآخر ، سواء اتحدت علتهما في الأصل أو تعددت .

[ ص: 115 ] أما إذا اتحدت ، فلأنه لا يمتنع عند تعدد المحال وإن اتحد نوع الحكم ، أن يكون الحكم الثابت في الفرع بغير علة الأصل وهو الأولى ، لما فيه من تكثير مدارك الحكم ، فإنه أفضى إلى اقتناص مقصود الشارع من الحكم مما إذا اتحد المدرك ، وإذا كان كذلك فلا يلزم منه وجود الحكم الآخر ؛ لجواز أن لا تكون علة الفرع مستقلة بإثبات الحكم الآخر كاستقلال علة الأصل .

وأما إذا تعددت العلة فإن وقع التلازم بينهما ، فلجواز أن تكون علة الحكم الثابت في الفرع غير علته في الأصل ، لما ذكرناه .

وعند ذلك فلا يلزم منها وجود العلة الأخرى في الفرع ، فإنه لا يلزم من التلازم بين علة ذلك الحكم وعلة الحكم الآخر في الأصل التلازم بين علته في الفرع وعلة الحكم الآخر .

وعلى هذا لا يكون الحكم الآخر لازما في الفرع ، وجوابه أن يقال : ثبوت أحد الحكمين في الفرع يدل ظاهرا على وجود علته التي ثبت بها في الأصل ، وإن جاز ثبوته في الفرع بغيرها ؛ لأن الأصل عدم وجود علة أخرى غير علته في الأصل .

والقول بأن تعدد المدارك أولى معارض بأن الاتحاد أولى لما فيه من التعليل بعلة مطردة منعكسة ، وما ذكروه وإن كانت العلة فيه مطردة إلا أنها غير منعكسة ، والتعليل بالعلة المطردة المنعكسة متفق عليه ، بخلاف غير المنعكسة ، فكانت أولى .

فإن قيل : وكما أن الأصل عدم علة أخرى في الفرع غير علة الأصل ، فالأصل عدم علة الأصل في الفرع وليس العمل بأحد الأصلين أولى من الآخر .

قلنا : بل العمل بما ذكرناه أولى ؛ لأن العلة فيه تكون متعدية وهي متفق على صحة التعليل بها ، وما ذكروه يلزم منه أن تكون العلة في الأصل قاصرة ؛ لأن الأصل عدم وجودها في صورة أخرى ، وهي مختلف في صحة التعليل بها ، فكان ما ذكرناه أولى .

[ ص: 116 ] خاتمة لهذا الباب

في ترتيب الأسئلة الواردة على القياس ، والاعتراضات الواردة على القياس

إما أن تكون من جنس واحد كالنقوض أو المعارضات في الأصل أو في الفرع ، وإما أن تكون من أجناس مختلفة كالمنع والمطالبة والنقض والمعارضة ونحوها .

فإن كان الأول : فقد اتفق الجدليون على جواز إيرادها معا ، إذ لا يلزم منها تناقض ولا نزول عن سؤال إلى سؤال .

وإن كان الثاني : فلا يخلو إما أن تكون الأسئلة غير مرتبة أو مرتبة ، فإن كانت غير مرتبة ؛ فقد أجمع الجدليون على جواز الجمع بينهما سوى أهل سمرقند ، فإنهم أوجبوا الاقتصار على سؤال واحد لقربه إلى الضبط وبعده عن الخبط .

ويلزمهم على ذلك ما كان من الأسئلة المتعددة من جنس واحد فإنها ، وإن أفضت إلى النشر ، فالجمع بينهما غير مقبول من غير خلاف بين الجدليين .

وإن كانت مرتبة فقد منع منه أكثر الجدليين من حيث إن المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجوده نزول عن المنع ، ومشعر بتسليم وجوده ؛ لأنه لو بقي مصرا على منع وجود الوصف فالمطالبة بتأثير ما لا وجود له محال ، وعند ذلك فلا يستحق المعترض غير جواب الأخير من الأسئلة .

ومنهم من لم يمنع منه ، وذلك بأن يورد المطالبة بتأثير الوصف بعد منع وجود الوصف مقدرا لتسليم وجود الوصف ، وذلك بأن يقول : وإن سلم عن المنع تقديرا ، فلا يسلم عن المطالبة وغيرها ، ولا شك أنه أولى >[7] ؛ لعدم إشعاره بالمناقضة والعود إلى منع ما سلم وجوده أولا ، كمنع وجود الوصف بعد المطالبة بتأثيره المشعر بتسليم وجوده ، وهذا هو اختيار الأستاذ أبي إسحاق >[8] ، وهو المختار .

وإذا كان لا بد من رعاية الترتيب في الأسئلة ، فأول ما تجب البداية به سؤال الاستفسار ؛ لأن من لا يعرف مدلول اللفظ لا يعرف ما يتجه عليه .

[ ص: 117 ] ثم بعده سؤال فساد الاعتبار ؛ لأنه نظر في فساده من جهة الجملة قبل النظر في تفصيله ، ثم سؤال فساد الوضع ؛ لأنه أخص من سؤال فساد الاعتبار كما سبق تقريره ، والنظر في الأعم يجب أن يكون قبل النظر في الأخص .

ثم بعده منع الحكم في الأصل ، ويجب أن يكون مقدما على ما يتعلق بالنظر في العلة ؛ لأن العلة مستنبطة من حكم الأصل فهي فرع عليه ، والكلام في الفرع يجب تأخيره عن الكلام في أصله .

ثم بعده منع وجود العلة في الأصل .

ثم بعده النظر فيما يتعلق بعلة الوصف ، كالمطالبة وعدم التأثير والقدح في المناسبة والتقسيم ، وكون الوصف غير ظاهر ولا منضبط ، وكون الحكم غير صالح لإفضائه إلى المقصود منه .

ثم بعده النقض والكسر ، لكونه معارضا لدليل العلية .

ثم بعده المعارضة في الأصل ؛ لأنه معارضة لنفس العلة فكان متأخرا عن المعارض لدليل العلية والتعدية والتركيب ؛ لأن حاصلهما يرجع إلى المعارضة في الأصل كما سبق تقريره .

ثم بعده ما يتعلق بالفرع كمنع وجود العلة في الفرع ومخالفة حكمه لحكم الأصل ، ومخالفته للأصل في الضابط والحكمة والمعارضة في الفرع وسؤال القلب .

ثم بعد ذلك القول بالموجب ؛ لتضمنه تسليم كل ما يتعلق بالدليل المثمر له من تحقيق شروطه وانتفاء القوادح فيه ، وهذا آخر الأصل الخامس .

[ ص: 118 ] الأصل السادس في معنى الاستدلال وأنواعه

أما معناه في اللغة : فهو استفعال من طلب الدليل والطريق المرشد إلى المطلوب .

وأما في اصطلاح الفقهاء : فإنه يطلق تارة بمعنى ذكر الدليل ، وسواء كان الدليل نصا أو إجماعا أو قياسا أو غيره .

ويطلق على نوع خاص من أنواع الأدلة ، وهذا هو المطلوب بيانه هاهنا ، وهي عبارة عن دليل لا يكون نصا ولا إجماعا ولا قياسا .

فإن قيل : تعريف الاستدلال بسلب غيره من الأدلة عنه ليس أولى من تعريف غيره من الأدلة بسلب حقيقة الاستدلال عنه .

قلنا : إنما كان تعريف الاستدلال بما ذكرناه أولى بسبب سبق التعريف لحقيقة ما عداه من الأدلة دون تعريف الاستدلال كما سبق ، وتعريف الأخفى بالأظهر جائز دون العكس .

وإذا عرف معنى الاستدلال ، فهو على أنواع ؛ منها قولهم : وجد السبب فثبت الحكم ، ووجد المانع وفات الشرط فينتفي الحكم ، فإنه دليل من حيث إن الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب قطعا أو ظاهرا ، ولا يخفى لزوم المطلوب من ثبوت ما ذكرناه ، فكان دليلا ، وليس هو ولا إجماعا ولا قياسا فكان استدلالا .

فإن قيل : تعريف الدليل بما يلزم من إثباته الحكم المطلوب تعريف للدليل بالمدلول ، والمدلول لا يعرف إلا بدليله ، فكان دورا ممتنعا .

وإن سلمنا صحة الحد ، ولكن لا نسلم أن المذكور ليس بقياس فإنه إذا آل الأمر إلى إثبات المدعى ، كان مفتقرا إلى المناسبة والاعتبار ولا معنى للقياس سوى هذا .

قلنا : أما الدور فإنما يلزم أن لو اتحدت جهة التوقف ، وليس كذلك ، وذلك لأن المطلوب إنما يتوقف على الدليل من جهة وجوده في آحاد الصور لا من جهة حقيقته ؛ لأنا نعرف حقيقة الحكم من حيث هو حكم وإن جهلنا دليل وجوده ، والدليل إنما يتوقف على لزوم المطلوب له من جهة حقيقته لا من جهة وجوده في آحاد الصور ، وإذا اختلفت الجهة فلا دور ، وما ذكروه في تحقيق [ ص: 119 ] كونه قياسا فإنما يلزم أن لو كان تقرير السببية والمانعية والشرطية لا يكون إلا بما ذكروه ، وليس ذلك بلازم لإمكان تقريره بنص يدل عليه أو إجماع .

والثابت بالنص أو الإجماع لا يكون نصا ولا إجماعا كما تقرر قبل ، والاعتراضات الواردة على طريق تقريره ووجوه الانفصال عنها غير خافية .

ومنها نفي الحكم لانتفاء مداركه ، كقولهم : الحكم يستدعي دليلا ، ولا دليل فلا حكم ، أما أنه يستدعي دليلا فبالضرورة .

وأما أنه لا دليل ، فلا يدل عليه سوى البحث والسبر ، وإن الأصل في الأشياء كلها العدم ، وطريق الاعتراض بإبداء ما يصلح دليلا من نص أو إجماع أو قياس أو استدلال .

وجوابه بالقدح في الدليل المذكور بما يساعد في كل موضع على حسبه ولا يخفى .

وقد ترد عليه أسئلة كثيرة أوردناها في كتاب " المؤاخذات " وقررناها اعتراضا وانفصالا ، فعليك بالالتفات إليها .

ومنها الدليل المؤلف من تسليمها لذاتها أقوال يلزم من تسليمها لذاتها تسليم قول آخر ، وذلك القول اللازم إما أن لا يكون ولا نقيضه مذكورا فيما لزم عنه بالفعل أو هو مذكور فيه >[9] .

فإن كان الأول ، فيسمى اقترانيا ، وأقل ما يتركب من مقدمتين ولا يزيد عليهما ، وكل مقدمة تشتمل على مفردين ، الواحد منهما مكرر في المقدمتين ، ويسمى " حدا أوسط " والمفردان الآخران اللذان بهما افتراق المقدمتين منهما يكون المطلوب اللازم ، ويسمى أحدهما وهو ما كان محكوم به في المطلوب " حدا أكبر " وما كان منهما محكوما عليه في المطلوب يسمى " حدا أصغر " والمقدمة التي فيها الحد الأكبر " كبرى " والتي فيها الحد الأصغر " صغرى " .

ثم هيئة الحد الأوسط في نسبته إلى الحدين المختلفين تسمى " شكلا " >[10] [ ص: 120 ] وهيئته في النسبة إما بكونه محمولا على الحد الأصغر وموضوعا للحد الأكبر ويسمى الشكل الأول ، وإما بكونه محمولا عليهما ويسمى الشكل الثاني ، وإما بكونه موضوعا لهما ويسمى الشكل الثالث ، وإما بكونه موضوعا للأصغر ومحمولا على الأكبر ويسمى الشكل الرابع .

وهو بعيد عن الطباع ومستغنى عنه بباقي الأشكال فلنقتصر على ذكر ما قبله من الأشكال الثلاثة .

أما الشكل الأول منها : فهو أبينها وما بعده فمتوقف في معرفة ضروبه >[11] عليه وهو منتج للمطالب الأربعة : الكلي موجبا وسالبا والجزئي موجبا وسالبا ، وشرطه في الإنتاج إيجاب صغراه وأن تكون في حكم الموجبة وكلية كبراه .

وضروبه المنتجة أربعة :

الضرب الأول : من كليتين موجبتين ، كقولنا : كل وضوء عبادة وكل عبادة تفتقر إلى النية ، واللازم كل وضوء يفتقر إلى النية >[12] .

الضرب الثاني : من كلية صغرى موجبة وكلية كبرى سالبة ، كقولنا : كل وضوء عبادة ولا شيء من العبادة يصح بدون النية ، واللازم لا شيء من الوضوء يصح بدون النية .

[ ص: 121 ] الضرب الثالث : بعض الوضوء عبادة >[13] وكل عبادة تفتقر إلى النية ، واللازم ؛ بعض الوضوء يفتقر إلى النية .

الضرب الرابع : بعض الوضوء عبادة ، ولا شيء من العبادة يصح بدون النية واللازم بعض الوضوء لا يصح بدون النية >[14] .

الشكل الثاني ، وشروطه في الإنتاج اختلاف مقدمتيه في الكيفية ، وكلية كبراه >[15] .

وضروبه المنتجة أربعة :

الضرب الأول : من كليتين ؛ الصغرى موجبة والكبرى سالبة ، كقولنا : كل بيع غائب فصفات المبيع فيه مجهولة ، ولا شيء مما يصح بيعه صفات المبيع فيه مجهولة ، واللازم لا شيء من بيع الغائب صحيح .

الضرب الثاني : من كلية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة ، كقولنا : لا شيء من بيع الغائب معلوم الصفات ، وكل بيع صحيح فمعلوم الصفات واللازم كالذي قبله .

الضرب الثالث : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية كبرى سالبة ، كقولنا : بعض بيع الغائب مجهول الصفات ، ولا شيء مما يصح بيعه مجهول الصفات ، ولازمه : بعض بيع الغائب لا يصح .

الضرب الرابع : من جزئية صغرى سالبة وكلية كبرى موجبة ، كقولنا : ليس [ ص: 122 ] كل بيع غائب معلوم الصفات ، وكل بيع صحيح معلوم الصفات ، ولازمه كلازم الذي قبله >[16] .

والإنتاج في هذا الشكل غير بين بنفسه ، بل هو مفتقر إلى بيان وذلك بأن تعكس >[17] الكبرى من الأول وتبقيها كبرى بحالها ، فإنه يعود إلى الضرب الثاني من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب>[18] وتعكس الصغرى من الثاني فتجعلها كبرى ، ثم تستنتج وتعكس النتيجة فيعود إلى عين المطلوب >[19] وأن تعكس الكبرى من الثالث وتبقيها كبرى بحالها فإنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب >[20] والضرب الرابع منه لا يتبين بالعكس ، لأنك إن عكست [ ص: 123 ] الكبرى منه عادت جزئية ، ولا قياس عن جزئيتين ، والصغرى فلا عكس لها >[21] ، وإن شئت بينت الإنتاج بالخلف >[22] ، وهو أن تأخذ نقيض النتيجة من كل ضرب منه وتجعله صغرى للمقدمة الكبرى من ذلك الضرب ، فإنه ينتج نقيض المقدمة الصغرى الصادقة وهو محال ، وليس لزوم المحال عن نفس الصورة القياسية لتحقق شروطها ، ولا عن نفس المقدمة الكبرى لكونها صادقة ، فكان لازما عن نقيض المطلوب ، فكان محالا وإلا لما لزم عنه المحال ، وإذا كان نقيض المطلوب محالا كان المطلوب الأول هو الصادق >[23] .

[ ص: 124 ] الشكل الثالث : وشرط إنتاجه إيجاب صغراه ، أو أن تكون في حكم الموجبة وكلية إحدى مقدمتيه ، ولا ينتج غير الجزئي الموجب والسالب ، وضروبه المنتجة ستة :

الضرب الأول : من كليتين موجبتين ، كقولنا : كل بر مطعوم ، وكل بر ربوي ، ولازمه : بعض المطعوم ربوي .

الضرب الثاني : من جزئية صغرى موجبة ، وكلية موجبة كبرى ، كقولنا : بعض البر مطعوم وكل بر ربوي ، ولازمه كلازم ما قبله .

الضرب الثالث : من كلية موجبة صغرى وجزئية موجبة كبرى ، كقولنا : كل بر مطعوم وبعض البر ربوي ، ولازمه كلازم ما قبله .

الضرب الرابع : من كلية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى ، كقولنا : كل بر مطعوم ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلا ، ولازمه : لا شيء من المطعوم يصح بيعه بجنسه متفاضلا .

الضرب الخامس : من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة كبرى ، كقولنا : بعض البر ربوي ولا شيء من البر يصح بيعه بجنسه متفاضلا ، ولازمه كلازم ما قبله .

الضرب السادس : من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى ، كقولنا : كل بر مطعوم وبعض البر لا يصح بيعه بجنسه متفاضلا ، ولازمه كلازم ما قبله .

وإنتاج هذا الشكل غير بين بنفسه دون بيان ، وهو أن تعكس الصغرى من الأول والثاني وتبقيها صغرى بحالها ، فإنه يعود إلى الضرب الثالث من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب ، وتعكس الصغرى من الرابع والخامس وتبقيها صغرى بحالها ، فإنه يعود إلى الضرب الرابع من الشكل الأول ناتجا عين المطلوب ، وتعكس الكبرى من الثالث وتجعلها صغرى للصغرى ، ثم تعكس النتيجة فتعود إلى عين المطلوب .

وأما السادس : منه فلا يتبين بالعكس ؛ لأنك إن عكست الصغرى عادت جزئية ولا قياس عن جزئيتين ، والكبرى فلا عكس لها .

وإن شئت بينت بالخلف ، وهو أن تأخذ نقيض النتيجة وتجعله كبرى للصغرى في جميع ضروبه ، فإنه ينتج نقيض المقدمة الكبرى الصادقة ، ويلزم من [ ص: 125 ] ذلك كذب النقيض لما بيناه في الشكل الثاني ، ويلزمه صدق المطلوب الأول .

وأما إن كان القسم الثاني ، وهو أن يكون اللازم أو نقيضه مذكورا فيما لزم عنه بالفعل فيسمى استثنائيا .

ولا بد فيه من قضيتين ؛ إحداهما : استثنائية لعين أحد جزئي القضية الأخرى أو نقيضه ، ثم القضية المستثنى منها لا بد فيها من جزأين بينهما نسبة بإيجاب أو سلب .

والنسبة الإيجابية بينهما ، إما أن تكون باللزوم والاتصال - وفي حالة السلب برفعه - أو بالعناد والانفصال وفي حالة السلب برفعه .

فإن كان الأول ؛ فتسمى تلك القضية شرطية متصلة ، وأحد جزئيها - وهو ما دخل عليه حرف الشرط - ( مقدما ) ، والثاني - وهو ما دخل عليه حرف الجزاء - ( تاليا ) وما هي مقدمة فيه يسمى قياسا شرطيا متصلا .

وإن كان الثاني ؛ فتسمى منفصلة ، وما هي مقدمة فيه يسمى قياسا منفصلا .

أما الشرطي المتصل ، فشرط إنتاجه أن تكون النسبة بين المقدم والتالي كلية ؛ أي : دائمة ، وأن يكون الاستثناء إما بعين المقدم منها أو نقيض التالي ؛ وذلك لأن التالي إما أن يكون أعم من المقدم أو مساويا له .

ولا يجوز أن يكون أخص منه ، وإلا كانت القضية كاذبة ، وعند ذلك فاستثناء عين المقدم يلزم منه عين التالي سواء كان التالي أعم من المقدم أو مساويا له ، واستثناء نقيض التالي يلزم منه نقيض المقدم .

وأما استثناء نقيض المقدم وعين التالي فلا يلزم منه شيء ؛ لجواز أن يكون التالي أعم من المقدم ، فلا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم ، ولا من وجود الأعم وجود الأخص .

وإن لزم ذلك فإنما يكون عند التساوي بينهما فلا يكون الإنتاج لازما لنفس صورة الدليل بل لخصوص المادة ، وذلك كما في قولنا : دائما إن كان هذا الشيء إنسانا فهو حيوان لكنه إنسان فيلزمه أنه حيوان ، أو لكنه ليس بحيوان فيلزمه أنه ليس إنسانا .

وأما المنفصل ، فالمنفصلة منه إما أن تكون مانعة الجمع بين الجزأين والخلو معا ، أو مانعة الجمع دون الخلو ، أو مانعة الخلو دون الجمع .

فإن كان الأول ، فيلزم من استثناء عين كل واحد من الجزأين نقيض الآخر ومن استثناء نقيضه عين الآخر ، وذلك كما في قولنا : دائما إما أن يكون العدد [ ص: 126 ] زوجا وإما أن يكون فردا ، لكنه زوج فليس بفرد ، أو لكنه فرد ليس بزوج ، أو لكنه ليس بزوج فهو فرد ، أو لكنه ليس بفرد فهو زوج .

وإن كان الثاني ، فاستثناء عين أحدهما يلزمه نقيض الجزء الآخر ، ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه ، وذلك كقولنا : دائما إما أن يكون الجسم جمادا وإما حيوانا لكنه حيوان فليس بجماد ، أو لكنه جماد فليس بحيوان ، ولا يلزم من استثناء نقيض أحدهما عين الآخر ولا نقيضه .

وإن كان الثالث ؛ فاستثناء نقيض كل واحد منهما يلزم منه عين الآخر ، ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه ، وذلك كما إذا قلنا : دائما إما أن يكون المحل الأسود ، وإما لا أبيض ، فاستثناء نقيض أحدهما يلزمه عين الآخر ولا يلزم من استثناء عين أحدهما عين الآخر ولا نقيضه .

فهذه جملة ضروب هذا النوع من الاستدلال ، لخصناها في أوجز عبارة ، ومن أراد الاطلاع على ذلك بطريق الكمال والتمام فعليه بمراجعة كتبنا المخصوصة بهذا الفن .

ولا يخفى ما يرد عليها من الاعتراضات من منع المقدمات والقوادح في الأدلة الدالة عليها على اختلاف أنواعها ، وكذلك الجواب عنها .

ومن أنواع الاستدلال استصحاب الحال ، وفيه مسألتان :

التالي السابق


الخدمات العلمية