الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 149 ] النوع الثاني : مذهب الصحابي وفيه مسألتان :

المسألة الأولى

اتفق الكل على أن مذهب الصحابي في مسائل الاجتهاد لا يكون حجة على غيره من الصحابة المجتهدين إماما كان أو حاكما أو مفتيا .

واختلفوا في كونه حجة على التابعين ومن بعدهم من المجتهدين :

فذهبت الأشاعرة ، والمعتزلة ، والشافعي في أحد قوليه ، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه ، والكرخي : إلى أنه ليس بحجة .

وذهب مالك بن أنس والرازي والبرذعي من أصحاب أبي حنيفة ، والشافعي في قول له ، وأحمد بن حنبل في رواية له : إلى أنه حجة مقدمة على القياس .

وذهب قوم إلى أنه إن خالف القياس فهو حجة وإلا فلا .

وذهب قوم إلى أن الحجة في قول أبي بكر وعمر دون غيرهما .

والمختار أنه ليس بحجة مطلقا ، وقد احتج النافون بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والإشارة إلى وجه ضعفها قبل ذكر ما هو المختار في ذلك .

الحجة الأولى : قوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) أوجب الرد عند الاختلاف إلى الله والرسول ، فالرد إلى مذهب الصحابي يكون تركا للواجب وهو ممتنع .

ولقائل أن يقول : لا نسلم أن قوله تعالى : ( فردوه إلى الله والرسول ) يدل على الوجوب على ما سبق تقريره >[1] ، فالرد إلى مذهب الصحابي لا يكون تركا للواجب ، وإن سلمنا أنه للوجوب ولكن عند إمكان الرد ، وهو أن يكون حكم المختلف فيه مبينا في الكتاب أو السنة ، وأما بتقدير أن لا يكون مبينا فيهما فلا .

[ ص: 150 ] ونحن إنما نقول باتباع مذهب الصحابي مع عدم الظفر بما يدل على حكم الواقعة من الكتاب والسنة .

الحجة الثانية : قالوا : أجمعت الصحابة على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة المجتهدين للآخر ، ولو كان مذهب الصحابي حجة لما كان كذلك ، وكان يجب على كل واحد منهم اتباع الآخر وهو محال .

ولقائل أن يقول : الخلاف إنما هو في كون مذهب الصحابي حجة على من بعده من مجتهدة التابعين ومن بعدهم ، لا مجتهدة الصحابة >[2] ، فلم يكن الإجماع دليلا على محل النزاع .

الحجة الثالثة : أن الصحابي من أهل الاجتهاد والخطأ ممكن عليه ، فلا يجب على التابع المجتهد العمل بمذهبه كالصحابيين والتابعيين .

ولقائل أن يقول : لا يلزم من امتناع وجوب العمل بمذهب الصحابي على صحابي مثله وامتناع وجوب العمل بمذهب التابعي على تابعي مثله ، امتناع وجوب عمل التابعي بمذهب الصحابي مع تفاوتهما على ما قال عليه السلام : ( خير القرون القرن الذي أنا فيه ) >[3] ، وقال عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " >[4] ولم يرد مثل ذلك في حق غيرهم .

[ ص: 151 ] الحجة الرابعة : أن الصحابة قد اختلفوا في مسائل ، وذهب كل واحد إلى خلاف مذهب الآخر ، كما في مسائل الجد مع الأخوة ، وقوله " أنت علي حرام " كما سبق تعريفه ، فلو كان مذهب الصحابي حجة على غيره من التابعين لكانت حجج الله تعالى مختلفة متناقضة ، ولم يكن اتباع التابعي للبعض أولى من البعض .

ولقائل أن يقول : اختلاف مذاهب الصحابة لا يخرجها عن كونها حججا في أنفسها كأخبار الآحاد والنصوص الظاهرة ، ويكون العمل بالواحد منها متوقفا على الترجيح ، ومع عدم الوقوف على الترجيح فالواجب الوقف أو التخيير ، كما عرف فيما تقدم .

>[5] الحجة الخامسة : أن قول الصحابي عن اجتهاد مما يجوز عليه الخطأ ، فلا يقدم على القياس كالتابعي .

ولقائل أن يقول : اجتهاد الصحابي وإن جاز عليه الخطأ فلا يمنع ذلك من تقديمه على القياس كخبر الواحد ، ولا يلزم من امتناع تقديم مذهب التابعي على القياس امتناع ذلك في مذهب الصحابي ; لما بيناه من الفرق بينهما .

>[6] [ ص: 152 ] الحجة السادسة : أن التابعي متمكن من تحصيل الحكم بطريقه ، فلا يجوز له التقليد فيه كالأصول .

ولقائل أن يقول : اتباع مذهب الصحابي إنما يكون تقليدا له إن لو لم يكن قوله حجة متبعة ، وهو محل النزاع ، وخرج عليه الأصول ، فإن القطع واليقين معتبر فيها ، ومذهب الغير من أهل الاجتهاد فيها ليس بحجة قاطعة ، فكان اتباعه في مذهبه تقليدا من غير دليل ، وذلك لا يجوز .

>[7] والمعتمد في ذلك الاحتجاج بقوله تعالى : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) أوجب الاعتبار >[8] وأراد به القياس كما سبق تقريره في إثبات كون القياس حجة ، وذلك ينافي وجوب اتباع مذهب الصحابي وتقديمه على القياس ، فإن قيل : لا نسلم دلالة ذلك على وجوب اتباع القياس ، وقد سبق تقريره من وجوه ، سلمنا دلالته على ذلك ، لكنه معارض من جهة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .

أما الكتاب فقوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف ) وهو خطاب مع الصحابة بأن ما يأمرون به معروف ، والأمر بالمعروف واجب القبول .

وأما السنة فقوله عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ، >[9] ، وقوله عليه السلام : " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " >[10] ، ولا يمكن [ ص: 153 ] حمل ذلك على مخاطبة العامة والمقلدين لهم ; لما فيه من تخصيص العموم من غير دليل ، ولما فيه من إبطال فائدة تخصيص الصحابة بذلك من جهة وقوع الاتفاق على جواز تقليد العامة لغير الصحابة من المجتهدين ، فلم يبق إلا أن يكون المراد به وجوب اتباع مذاهبهم .

وأما الإجماع : فهو أن عبد الرحمن بن عوف ولى عليا رضي الله عنه الخلافة بشرط الاقتداء بالشيخين فأبى ، وولى عثمان فقبل ، ولم ينكر عليه منكر فصار إجماعا .









>[11] وأما المعقول فمن وجوه :

الأول : أن الصحابي إذا قال قولا يخالف القياس فإما أن لا يكون له فيما قال [ ص: 154 ] مستند أو يكون : لا جائز أن يقال بالأول وإلا كان قائلا في الشريعة بحكم لا دليل عليه ، وهو محرم ، وحال الصحابي العدل ينافي ذلك .

وإن كان الثاني فلا مستند وراء القياس سوى النقل ، فكان حجة متبعة .

الثاني : أن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر كان حجة ، فكان حجة مع عدم الانتشار كقول النبي عليه السلام .

الثالث : أن مذهب الصحابي إما أن يكون عن نقل أو اجتهاد ، فإن كان الأول كان حجة ، وإن كان الثاني فاجتهاد الصحابي مرجح على اجتهاد التابعي ومن بعده ; لترجحه بمشاهدة التنزيل ومعرفة التأويل ووقوفه من أحوال النبي عليه السلام ومراده من كلامه على ما لم يقف عليه غيره ، فكان حال التابعي إليه كحال العامي بالنسبة إلى المجتهد التابعي ، فوجب اتباعه له .

والجواب عن منع دلالة الآية ما ذكرناه ، وعن القوادح ما سبق .

وعن المعارضة بالكتاب : أنه لا دلالة فيه ; لما سبق في إثبات الإجماع ، وإن كان دالا فهو خطاب مع جملة الصحابة ، ولا يلزم من كون ما أجمعوا عليه حجة أن يكون قول الواحد والاثنين حجة .

وعن السنة أنه لا دلالة فيها أيضا ; لما سبق في الإجماع ، ولأن الخبر الأول وإن كان عاما في أشخاص الصحابة فلا دلالة فيه على عموم الاقتداء في كل ما يقتدى فيه ، وعند ذلك فقد أمكن حمله على الاقتداء بهم فيما يرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس الحمل على غيره أولى من الحمل عليه ، وبه يظهر فساد التمسك بالخبر الثاني .

وعن الإجماع : أنه إنما لم ينكر أحد من الصحابة على عبد الرحمن وعثمان ذلك ; لأنهم حملوا لفظ الاقتداء على المتابعة في السيرة والسياسة دون المتابعة في المذهب ، بدليل الإجماع على أن مذهب الصحابي ليس حجة على غيره من الصحابة المجتهدين .

كيف وأنه لو كان المراد بشرط الاقتداء بهما المتابعة في مذهبهما ، فالقائل بأن مذهب الصحابي حجة قائل بوجوب اتباعه ، والقائل أنه ليس بحجة قائل بتحريم اتباعه على غيره من المجتهدين ، ويلزم من ذلك الخطأ بسكوت الصحابة عن الإنكار [ ص: 155 ] إما على علي حيث امتنع من الاقتداء إن كان ذلك واجبا ، وإما على عثمان وعبد الرحمن بن عوف إن كان الاقتداء بالشيخين محرما ، وذلك ممتنع .

وعن المعارضة الأولى من المعقول : أنها منتقضة بمذهب التابعي ، فإن ما ذكروه بعينه ثابت فيه وليس بحجة بالاتفاق .

وعن الثانية : أنه لا يخلو إما أن يقول بأن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه منكر أيكون >[12] ذلك إجماعا أم لا يكون إجماعا ، فإن كان الأول فالحجة في الإجماع لا في مذهب الصحابي ، وذلك غير متحقق فيما إذا لم ينتشر ، وإن كان الثاني فلا حجة فيه مطلقا ، كيف وإن ما ذكروه منتقض بمذهب التابعي فإنه إذا انتشر في عصره ولم يوجد له نكير كان حجة ، ولا يكون حجة بتقدير عدم انتشاره إجماعا .

وعن الثالثة : لا نسلم أن مستنده النقل ; لأنه لو كان معه نقل لأبداه ورواه ; لأنه من العلوم النافعة ، وقد قال عليه السلام : " من كتم علما نافعا ألجمه الله بلجام من نار " ، وذلك خلاف الظاهر من حال الصحابي ، فلم يبق إلا أن يكون عن رأي واجتهاد وعند ذلك فلا يكون حجة على غيره من المجتهدين بعده ; لجواز أن يكون دون غيره في الاجتهاد ، وإن كان متميزا بما ذكروه من الصحبة ولوازمها >[13] ، ولهذا قال عليه السلام : " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " .

>[14] ثم هو منتقض بمذهب التابعي ، فإنه ليس بحجة على من بعده من تابعي التابعين ، وإن كانت نسبته إلى تابعي التابعين كنسبة الصحابي إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية