[ ص: 178 ] المسألة الثالثة  
مذهب الجمهور من المسلمين أنه  
ليس كل مجتهد في العقليات مصيبا ، وأن الإثم غير محطوط عن مخالف ملة الإسلام سواء نظر وعجز عن معرفة الحق أم لم ينظر     .  
وقال  
 nindex.php?page=showalam&ids=13974الجاحظ  وعبيد الله بن الحسن العنبري  >[1] من  
المعتزلة   بحط الإثم عن مخالف ملة الإسلام إذا نظر واجتهد ، فأداه إلى معتقده ، وأنه معذور بخلاف المعاند .  
وزاد  
عبيد الله بن الحسن العنبري  بأن قال : كل مجتهد في العقليات مصيب ، وهو إن أراد بالإصابة موافقة الاعتقاد للمعتقد فقد أحال وخرج عن المعقول ، وإلا كان يلزم من ذلك أن يكون حدوث العالم وقدمه في نفس الأمر حقا عند اختلاف الاجتهاد ، وكذلك في كل قضية عقلية اعتقد فيها النفي والإثبات بناء على ما أدى إليه من الاجتهاد ، وهو من أمحل المحالات ، وما أظن عاقلا يذهب إلى ذلك . وإن أراد بالإصابة أنه أتى بما كلف به مما هو داخل تحت وسعه وقدرته من الاجتهاد ، وأنه معذور في المخالفة غير آثم ، فهو ما ذهب إليه  
 nindex.php?page=showalam&ids=13974الجاحظ  ، وهو أبعد عن الأول في القبح ، ولا شك أنه غير محال عقلا ، وإنما النزاع في إحالة ذلك وجوازه شرعا .  
وقد احتج الجمهور على مذهبهم بالكتاب والسنة وإجماع الأمة .  
أما الكتاب فقوله تعالى : (  
ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار     ) ، وقوله : (  
وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم     ) ، وقوله تعالى : (  
ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون     ) .  
ووجه الاحتجاج بهذه الآيات : أنه ذمهم على معتقدهم وتوعدهم بالعقاب عليه ، ولو كانوا معذورين فيه لما كان كذلك .  
وأما السنة : فما علم منه عليه السلام علما لا مراء فيه تكليفه للكفار من  
اليهود   والنصارى   بتصديقه ، واعتقاد رسالته ، وذمهم على معتقداتهم ، وقتله لمن ظفر به منهم ،      
[ ص: 179 ] وتعذيبه على ذلك ، مع العلم الضروري بأن كل من قاتله وقتله لم يكن معاندا بعد ظهور الحق له بدليله  
>[2] فإن ذلك مما تحيله العادة ، ولو كانوا معذورين في اعتقاداتهم وقد أتوا بما كلفوا به لما ساغ ذلك منه .  
وأما الإجماع : فهو أن الأمة من السلف قبل ظهور المخالفين اتفقوا أيضا على قتال الكفار وذمهم ومهاجرتهم على اعتقاداتهم ، ولو كانوا معذورين في ذلك لما ساغ ذلك من الأمة المعصومة عن الخطإ .  
فإن قيل : أما الآية الأولى فغاية ما فيها ذم الكفار وذلك غير متحقق في محل النزاع ; لأن الكفر في اللغة مأخوذ من الستر والتغطية .  
ومنه يقال لليل : كافر ; لأنه ساتر للحوادث ، وللحارث كافر ; لستره الحب ، وذلك غير متصور إلا في حق المعاند العارف بالدليل مع إنكاره لمقتضاه .  
كيف وأنه يجب حمل هذه الآية والآيتين بعدها على المعاند دون غيره جمعا بينه وبين ما سنذكره من الدليل .  
وأما ما ذكرتموه من قتل النبي عليه السلام الكفار ، فلا نسلم أنه كان على ما اعتقدوه عن اجتهادهم بل على إصرارهم على ذلك ، وإهمالهم لترك البحث عما دعوا إليه والكشف عنه مع إمكانه .  
وأما الإجماع : فلا يمكن الاستدلال به في محل الخلاف .  
كيف وأنه يمكن حمل فعل أهل الإجماع على ما حمل عليه فعل النبي عليه السلام .  
ودليل هذه التأويلات أن تكليفهم باعتقاد نقيض معتقدهم الذي أدى إليه اجتهادهم واستفرغوا الوسع فيه تكليف بما لا يطاق ، وهو ممتنع للنص والمعقول .  
أما النص فقوله تعالى : (  
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها     ) .   
[ ص: 180 ] وأما المعقول : فهو أن الله تعالى رءوف بعباده رحيم لهم ، فلا يليق به تعذيبهم على ما لا قدرة لهم عليه .  
ولهذا كان الإثم مرتفعا عن المجتهدين في الأحكام الشرعية مع اختلاف اعتقاداتهم فيها ، بناء على اجتهاداتهم المؤدية إليها ، كيف وقد نقل عن بعض  
المعتزلة   أنهم أولوا قول  
 nindex.php?page=showalam&ids=13974الجاحظ  وابن العنبري  بالحمل على المسائل الكلامية المختلف فيها بين المسلمين ، ولا تكفير فيها كمسألة الرؤية وخلق الأعمال وخلق القرآن ونحو ذلك ; لأن الأدلة فيها ظنية متعارضة .  
الجواب عما ذكروه على الآية أنه خلاف الإجماع في صحة إطلاق اسم الكافر على من اعتقد نقيض الحق ، وإن كان عن اجتهاد .  
وقولهم : إن الكفر في اللغة مأخوذ من التغطية مسلم ، ولكن لا نسلم انتفاء التغطية فيما نحن فيه ، وذلك لأنه باعتقاده لنقيض الحق بناء على اجتهاده مغط للحق متوقف على علمه بذلك .  
وما ذكروه من التأويل ففيه ترك الظاهر من غير دليل ، وما يذكرونه من الدليل فسيأتي الكلام عليه .  
وما ذكروه على السنة فبعيد أيضا ؛ وذلك لأنه إن تعذر قتلهم وذمهم على ما كانوا قد اعتقدوه عن اجتهادهم واستفراغ وسعهم ، فهو لازم أيضا على تعذر قتلهم وذمهم على عدم تصديقه فيما دعاهم إليه ; لأن الكلام إنما هو مفروض فيمن أفرغ وسعه وبذل جهده في التوصل إلى معرفة ما دعاه النبي صلى الله عليه وسلم إليه وتعذر عليه الوصول إليه .  
وما ذكروه في امتناع التمسك بالإجماع في محل الخلاف إنما يصح فيما كان من الإجماع بعد الخلاف أو حالة الخلاف .  
وأما الإجماع السابق على الخلاف فهو حجة على المخالف ، وقد بينا سبقه .  
وما ذكروه من التأويل فجوابه كما تقدم .  
>[3] قولهم : إن ذلك يفضي إلى التكليف بما لا يطاق ، لا نسلم ذلك فإن الوصول إلى      
[ ص: 181 ] معرفة الحق ممكن بالأدلة المنصوبة عليه ، ووجود العقل الهادي ، وغايته امتناع الوقوع باعتبار أمر خارج  
>[4] ، وذلك لا يمنع من التكليف به وإنما يمتنع من التكليف بما لا يكون ممكنا في نفسه كما سبق تقريره في موضعه .  
وما ذكروه فقد سبق تخريجه أيضا في مسألة تكليف ما لا يطاق .  
وأما  
رفع الإثم في المجتهدات الفقهية  فإنما كان لأن المقصود منها إنما هو الظن بها ، وقد حصل بخلاف ما نحن فيه ، فإن المطلوب فيها ليس هو الظن بل العلم ولم يحصل .  
>[5] وما ذكروه من التأويل إن صح أنه المراد من كلام  
 nindex.php?page=showalam&ids=13974الجاحظ  وابن العنبري  ففيه رفع الخلاف والعود إلى الحق ولا نزاع فيه .