الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 183 ] المسألة الخامسة

المسألة الظنية من الفقهيات إما أن يكون فيها نص أو لا يكون ، فإن لم يكن فيها نص فقد اختلفوا فيها :

فقال قوم : كل مجتهد فيها مصيب ، وأن حكم الله فيها لا يكون واحدا بل هو تابع لظن المجتهد ، فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده وغلب على ظنه ، وهو قول القاضي أبي بكر وأبي الهذيل والجبائي وابنه .

>[1] وقال آخرون : المصيب فيها واحد ومن عداه مخطئ ; لأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلا معينا ; لأن الطالب يستدعي مطلوبا وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر بحيث لو نزل نص لكان عليه .

لكن منهم من قال بأنه لا دليل عليه ، وإنما هو مثل دفين يظفر به حالة الاجتهاد بحكم الاتفاق ، فمن ظفر به فهو مصيب ، ومن لم يصبه فهو مخطئ .

ومنهم من قال : عليه دليل لكن اختلف هؤلاء :

فمنهم من قال : إنه قطعي ثم اختلف هؤلاء :

فمنهم من قال بتأثيم المجتهد بتقدير عدم الظفر به ونقض حكمه ، كأبي بكر الأصم وابن علية وبشر المريسي .

ومنهم من قال بعدم التأثيم لخفاء الدليل وغموضه فكان معذورا .

ومنهم من قال : إنه ظني ، فمن ظفر به فهو مصيب وله أجران ، ومن لم يصبه فهو مخطئ وله أجر واحد ، وهذا هو مذهب ابن فورك >[2] والأستاذ أبي إسحاق الإسفرائيني .

[ ص: 184 ] ومنهم من نقل عنه القولان التخطئة والتصويب ، كالشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل والأشعري .

وأما إن كان في المسألة نص ، فإن قصر في طلبه فهو مخطئ آثم لتقصيره فيما كلف به من الطلب ، وإن لم يقصر فيه وأفرغ الوسع في طلبه لكن تعذر عليه الوصول إليه ; إما لبعد المسافة أو لإخفاء الراوي له وعدم تبليغه ، فلا إثم لعدم تقصيره ، وهل هو مخطئ أو مصيب ؟ ففيه >[3] من الخلاف ما سبق .

والمختار إنما هو امتناع التصويب لكل مجتهد >[4] غير أن القائلين بذلك قد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من الإشارة إليها والتنبيه على ما فيها ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .

الحجة الأولى : من جهة الكتاب ، قوله تعالى : ( وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان ) .

ووجه الاحتجاج به أنه خصص سليمان بفهم الحق في الواقعة ، وذلك يدل على عدم فهم ( داود ) له ، وإلا لما كان التخصيص مفيدا ، وهو دليل اتحاد حكم الله في الواقعة وأن المصيب واحد .

وأيضا قوله تعالى : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، وقوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) ولولا أن في محل الاستنباط حكما معينا لما كان كذلك ، وأيضا قوله تعالى : ( ولا تفرقوا فيه ) ، ( ولا تنازعوا فتفشلوا ) ، ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) وذلك أيضا يدل على اتحاد الحق في كل واقعة .

ولقائل أن يقول على الآية الأولى : غاية ما فيها تخصيص سليمان بالفهم ولا دلالة له على عدم ذلك في حق ( داود ) إلا بطريق المفهوم ، وليس بحجة على ما تقرر في مسائل المفهوم ، وإن سلمنا أنه حجة غير أنه قد روي أنهما حكما في تلك [ ص: 185 ] القضية بالنص حكما واحدا ، ثم نسخ الله الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل ، وعلم ( سليمان ) بالنص الناسخ دون ( داود ) فكان هذا هو الفهم الذي أضيف إليه .

والذي يدل على هذا قوله تعالى : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) ولو كان أحدهما مخطئا لما كان قد أوتي في تلك الواقعة حكما وعلما ، >[5] وإن سلمنا أن حكمهما كان مختلفا لكن يحتمل أنهما حكما بالاجتهاد مع الأذن فيه ، وكانا محقين في الحكم إلا أنه نزل الوحي على ما حكم به سليمان ، فصار ما حكم به حقا متعينا بنزول الوحي به ، ونسب التفهيم إلى سليمان بسبب ذلك ، وإن سلمنا أن داود كان مخطئا في تلك الواقعة غير أنه يحتمل أنه كان فيها نص يتحقق عليه سليمان دون داود ، ونحن نسلم الخطأ في مثل هذه الصورة ، وإنما النزاع فيما إذا حكما بالاجتهاد وليس في الواقعة نص .

وعلى الآية الثانية والثالثة : أنه يجب حملهما على الأمور القطعية دون الاجتهادية .

ودليله قوله تعالى : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، وقوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) ، والقضايا الاجتهادية لا علم فيها ، وإن سلمنا أن المراد بهما القضايا الاجتهادية فقوله تعالى : ( لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ، وقوله تعالى : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ) يدل على تصويب المستنبطين والراسخين في العلم ، وليس فيه ما يدل على تصويب البعض منهم دون البعض ، بل غايته الدلالة بمفهومه على عدم ذلك في حق العوام ، ومن ليس من أهل الاستنباط والرسوخ في العلم .

وعلى الآيات الدالة على النهي عن التفرق : أن المراد منها إنما هو التفرق في أصل الدين والتوحيد وما يطلب فيه القطع دون الظن .

ويدل على ذلك أن القائلين بجواز الاجتهاد مجمعون على أن كل واحد من المجتهدين مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ، ومنهي عن مخالفته ، وهو أمر بالاختلاف [ ص: 186 ] ونهي عن الاتفاق في المجتهدات .

>[6] الحجة الثانية : من جهة السنة ، قوله عليه السلام : ( إذا اجتهد فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد ) >[7] ، وذلك صريح في انقسام الاجتهاد إلى خطإ وصواب .

ولقائل أن يقول : نحن نقول بموجب الخبر وأن الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فله أجر واحد ، غير أن الخطأ عندنا في ذلك إنما يتصور فيما إذا كان في المسألة نص أو إجماع أو قياس جلي ، وخفي عليه بعد البحث التام عنه ، وذلك غير متحقق في محل النزاع ، أو فيما إذا أخطأ في مطلوبه من رد المال إلى مستحقه بسبب ظنه صدق الشهود وهم كاذبون ، أو مغالطة الخصم لكونه أخصم من خصمه وألحن بحجته ، لا فيما وجب عليه من حكم الله تعالى ، ولهذا قال عليه السلام : " إنما أحكم بالظاهر >[8] وإنكم لتختصمون إلي ، ولعل أحدكم ألحن بحجته من صاحبه ، فمن حكمت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار " .

>[9] الحجة الثالثة : من جهة الإجماع أن الصحابة أجمعوا على إطلاق لفظ الخطإ في الاجتهاد .

[ ص: 187 ] فمن ذلك ما روي عن أبي بكر أنه قال : ( أقول في الكلالة برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله منه بريئان ) .

>[10] ومن ذلك ما روي عن عمر أنه حكم بحكم فقال رجل حضره : هذا والله الحق ، فقال عمر : إن عمر لا يدري أنه أصاب الحق ، لكنه لم يأل جهدا . وروي عنه أنه قال لكاتبه : ( اكتب ، هذا ما رأى عمر فإن يكن خطأ فمنه وإن يكن صوابا فمن الله ) .

>[11] وأيضا قوله في جواب المرأة التي ردت عليه النهي عن المبالغة في المهر : " أصابت امرأة وأخطأ عمر " .

>[12] ومن ذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في المرأة التي استحضرها عمر فأجهضت ما في بطنها ، وقد قال له عثمان وعبد الرحمن بن عوف : إنما أنت مؤدب ، لا نرى عليك شيئا : " إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ ، وإن لم يجتهدا فقد غشاك ، أرى عليك الدية " .

>[13] ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود أنه قال في المفوضة : ( أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله ورسوله ، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان ) . >[14] [ ص: 188 ] ومن ذلك ما روي أن عليا وابن مسعود وزيدا رضي الله عنهم خطئوا ابن عباس في ترك القول بالعول ، وأنكر عليهم ابن عباس قولهم بالعول بقوله : " من شاء أن يباهلني باهلته . . . إن الذي أحصى رمل عالج عددا ألم يجعل في مال واحد نصفا ونصفا وثلثا ، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث ؟

>[15] ومن ذلك ما روي عن ابن عباس أنه قال : " ألا يتقي الله زيد بن ثابت ! يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا " >[16] . إلى غير ذلك من الوقائع ، ولم ينكر بعضهم على بعض في التخطئة فكان ذلك إجماعا على أن الحق من أقاويلهم ليس إلا واحدا .

ولقائل أن يقول : نحن لا ننكر وقوع الخطإ في الاجتهاد ، لكن فيما إذا لم يكن المجتهد أهلا للاجتهاد ، أو كان أهلا لكنه قصر في اجتهاده ، وإن لم يقصر لكنه خالف النص أو الإجماع أو القياس الجلي أو في مطلوبه دون ما وجب عليه من حكم الله ، كما سبق تقريره في جواب السنة .

>[17] وأما ما تم فيه الاجتهاد من أهله ، ولم يوجد له معارض مبطل ، فليس فيما ذكروه من قضايا الصحابة ما يدل على وقوع الخطإ فيه .

[ ص: 189 ] الحجة الرابعة : من جهة المعقول من ستة أوجه .

الأول : أن الاجتهاد مكلف به بالإجماع ، فعند اختلاف المجتهدين في حكم الحادثة ، ومصير كل واحد إلى مناقضة الآخر ، إما أن يكون اجتهاد كل واحد منهما مستندا إلى دليل ، أو لا دليل لواحد منهما ، أو أن الدليل مستند أحدهما دون الآخر ، فإن كان الأول فالدليلان المتقابلان إما أن يكون أحدهما راجحا على الآخر أو هما متساويان ، فإن كان أحدهما راجحا فالذاهب إليه مصيب ومخالفه مخطئ ، وإن كان الثاني فمقتضاهما التخيير أو الوقف فالجازم بالنفي أو الإثبات يكون مخطئا ، وإن كان لا دليل لواحد منهما فهما مخطئان ، وإن كان الدليل لأحدهما دون الآخر فأحدهما مصيب والآخر مخطئ لا محالة .

الثاني : أن القول بتصويب المجتهدين يفضي عند اختلاف المجتهدين بالنفي والإثبات ، أو الحل والحرمة في مسألة واحدة إلى الجمع بين النقيضين ، وهو محال ، وما أفضى إلى المحال يكون محالا .

الثالث : أن الأمة مجمعة على تجويز المناظرة بين المجتهدين ولو كان كل واحد مصيبا فيما ذهب إليه لم يكن للمناظرة معنى ولا فائدة ، وذلك لأن كل واحد يعتقد أن ما صار إليه مخالفه حق وأنه مصيب فيه ، والمناظرة إما لمعرفة أن ما صار إليه خصمه صواب أو لرده عنه ، فإن كان الأول ففيه تحصيل ، وإن كان الثاني فقصد كل واحد لرد صاحبه عما هو عليه مع اعتقاده أنه صواب يكون حراما .

الرابع : أن المجتهد في حال اجتهاده ، إما أن لا يكون له مطلوب أو يكون .

فإن كان الأول فهو محال ; إذ المجتهد طالب ، وطالب لا مطلوب له محال .

وإن كان الثاني : فمطلوبه متقدم على اجتهاده ونظره ، وذلك مع عدم تعين المطلوب في نفسه محال .

الخامس : أنه لو صح تصويب كل واحد من المجتهدين لوجب عند الاختلاف [ ص: 190 ] في الآنية بالطهارة والنجاسة أن يقضى بصحة اقتداء كل واحد من المجتهدين بالآخر لاعتقاد المأموم صحة صلاة إمامه .

السادس : أن القول بتصويب المجتهدين يلزم منه أمور ممتنعة فيمتنع :

الأول : أنه إذا تزوج شافعي بحنفية وكانا مجتهدين وقال لها : " أنت بائن " فإنه بالنظر إلى ما يعتقده الزوج من جواز الرجعة ، تجوز له المراجعة ، والمرأة بالنظر إلى ما تعتقده من امتناع الرجعة يحرم عليها تسليم نفسها إليه ، وذلك إلى منازعة بينهما لا سبيل إلى رفعها شرعا ، وهو محال .

الثاني : أنه إذا نكح واحد امرأة بغير ولي ونكحها آخر بعده بولي فيلزم من صحة المذهبين حل الزوجة للزوجين ، وهو محال .

الثالث : أن العامي إذا استفتى مجتهدين واختلفا في الحكم ، فإما أن يعمل بقوليهما وهو محال ، أو بقول أحدهما ولا أولوية ، وإما لا بقول واحد منهما فيكون متحيرا وهو ممتنع .

ولقائل أن يقول على الوجه الأول : أن المختار إنما هو القسم الأول من أقسامه .

قولهم : الدليلان إما أن يتساويا أو يترجح أحدهما على الآخر .

قلنا : في نفس الأمر أو في نظر الناظر ؟

الأول : ممنوع ؛ وذلك لأن الأدلة في مسائل الظنون ليست أدلة لذواتها وصفات أنفسها حتى تكون في نفس الأمر متساوية في جهة دلالتها أو متفاوتة ، وإن كان في نظر الناظر فلا نسلم صحة هذه القسمة ، بل كل واحد منهما راجح في نظر الناظر الذي صار إليه ، وذلك لأن الأدلة الظنية مما تختلف باختلاف الظنون فهي أمور إضافية غير حقيقية ، كما أن ما وافق غرض زيد فهو حسن بالنسبة إليه ، وإن كان قبيحا بالنسبة إلى من خالف غرضه .

وعلى هذا فلا تخطئة على ما ذكروه .

وإن سلمنا أن الدليلين في نفسيهما لا يخرجان عن المساواة أو الترجيح لأحدهما على الآخر ، غير أن النزاع إنما هو في الخطإ بمعنى عدم الإصابة لحكم الله في الواقعة ، لا بمعنى عدم الظفر بالدليل الراجح ، ولا يلزم من عدم الظفر بالدليل الراجح عدم [ ص: 191 ] الظفر بحكم الله في الواقعة ; لأن حكم الله تعالى عندنا عبارة عما أدى إليه نظر المجتهد وظنه ، لا ما أدى إليه الدليل الراجح في نفس الأمر .

وعلى الوجه الثاني : أن التناقض إنما يلزم أن لو اجتمع النفي والإثبات والحل والحرمة في حق شخص واحد من جهة واحدة ، أما بالنظر إلى شخصين فلا ، ولهذا فإن الميتة تحل للمضطر وتحرم على غيره ، وإفطار رمضان مباح للمريض والمسافر ومن له عذر دون غيره ، وفيما نحن فيه كذلك فإن من وجب عليه الحكم بالحل الذي أداه نظره إليه غير من وجب عليه الحكم بالتحريم الذي أداه نظره إليه ، ثم لو كان ذلك ممتنعا لما وجب على كل واحد من المجتهدين في القبلة ، إذا أدى اجتهاده إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر ، التوجه إلى الجهة التي غلب على ظنه أنها جهة القبلة ، كتحريم التوجه إليها بالنسبة إلى الآخر ، ولما حرم على كل واحد ما وجب على الآخر ، وهو ممتنع .

>[18] وعلى الثالث : أن فائدة المناظرة غير منحصرة فيما ذكروه ، بل لها فوائد أخر تجب المناظرة لها أو تستحب .

فالأولى : كالمناظرة ; لتعرف انتفاء الدليل القاطع الذي لا يجوز معه الاجتهاد ، أو لطلب تعرف الترجيح عند تساوي الدليلين في نظر المجتهد ، حتى يجزم بالنفي أو الإثبات ، أو يحل له الوقف أو التخيير لكونه مشروطا بعدم الترجيح .

والثانية : كالمناظرة التي يطلب بها تذليل طرق الاجتهاد ، والقوة على استثمار الأحكام من الأدلة واستنباطها منها ، وشحذ الخاطر ، وتنبيه المستمعين على مدارك الأحكام ومآخذها ; لتحريك دواعيهم إلى طلب رتبة الاجتهاد لنيل الثواب الجزيل وحفظ قواعد الشريعة .

وعلى الرابع : أن مطلوب المجتهد ما يؤدي إليه نظره واجتهاده لا غير ، وذلك غير معين لا عنده ولا عند الله .

وعلى الخامس : أن ما ذكروه إنما يلزم أن لو كان القضاء بصحة صلاة المأموم مطلقا وليس كذلك ، وإنما هي صحيحة بالنسبة إليه غير صحيحة بالنسبة إلى مخالفه ، وشرط صحة اقتداء المأموم بالإمام اعتقاد صحة صلاة إمامه بالنسبة إليه .

[ ص: 192 ] وعلى السادس : أما الإلزام الأول فلا نسلم إفضاء ذلك إلى منازعة لا ترتفع ; لأنه يمكن رفعها فيما فرضوه من الصورة برفع الأمر إلى حاكم من حكام المسلمين أو محكم منهم ، فما حكم به وجب اتباعه ، كيف وأن ما ذكروه لم يكن لازما من القول بتصويب المجتهدين ، بل إنما كان لازما من القول بأنه يجب على كل مجتهد اتباع ما أوجبه ظنه ، وسواء كان مخطئا أو مصيبا ; لأن المصيب غير معين ، وذلك متفق عليه ، فما هو جواب لهم ها هنا ، فهو جواب الخصم في قوله بالتصويب .

وإما الإلزام الثاني فنقول : أي النكاحين وجد من معتقد صحته أولا فهو صحيح والنكاح الثاني باطل ; لكونه نكاحا لزوجة الغير ، وإن صدر الأول ممن لا يعتقد صحته كالنكاح بلا ولي من الشافعي فهو باطل ، والثاني صحيح .

وأما الإلزام الثالث : فنقول حكم العامي عند تعارض الفتاوى في حقه حكم تعارض الدليلين في حق المجتهد من غير ترجيح ، وحكم المجتهد في ذلك إما التوقف أو التخيير على ما يأتي .

والأقرب في ذلك أن يقال : الأصل عدم التصويب ، والأصل في كل متحقق دوامه ، إلا ما دل الدليل على مخالفته . والأصل عدم الدليل المخالف فيما نحن فيه ، فيبقى فيه على حكم الأصل >[19] ، غير أنا خالفناه في تصويب واحد غير معين للإجماع >[20] ولا إجماع فيما نحن فيه فوجب القضاء بنفيه .

فإن قيل : وإن كان الأصل عدم الدليل المخالف للنفي الأصلي إلا أنه قد وجد .

ودليله من جهة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .

أما الكتاب : فقوله تعالى في حق داود وسليمان : ( وكلا آتينا حكما وعلما ) ولو كان أحدهما مخطئا لما كان ما صار إليه حكما لله ولا علما .

[ ص: 193 ] وأما السنة فقوله عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " >[21] ، ووجه الاحتجاج به أنه عليه السلام جعل الاقتداء بكل واحد من الصحابة هدى مع اختلافهم في الأحكام نفيا وإثباتا كما بيناه قبل ، فلو كان فيهم مخطئ لما كان الاقتداء به هدى بل ضلالة .

وأما الإجماع : فهو أن الصحابة اتفقوا على تسويغ خلاف بعضهم لبعض من غير نكير منهم على ذلك ، بل ونعلم أن الخلفاء منهم كانوا يولون القضاة والحكام مع علمهم بمخالفتهم لهم في الأحكام ، ولم ينكر عليهم منكر ، ولو تصور الخطأ في الاجتهاد لما ساغ ذلك من الصحابة كما لم يسوغوا ترك الإنكار على مانعي الزكاة ، وكل منكر أنكروه .

وأما من جهة المعقول ، فمن سبعة أوجه :

الأول : أنه لو كان الحق متعينا في باب الاجتهاد في كل مسألة لنصب الله تعالى عليه دليلا قاطعا ، دفعا للإشكال وقطعا لحجة المحتج ، كما هو المألوف من عادة الشارع في كل ما دعا إليه .

ومنه قوله تعالى : ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ، وقوله تعالى : ( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم ) ، وقوله تعالى : ( ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا ) ولو كان عليه دليل قاطع لوجب الحكم على مخالفه بالفسق والتأثيم كالمخالف في العقليات .

الثاني : أنه لو كان الحق في جهة واحدة لما ساغ لأحد من العامة تقليد أحد من العلماء إلا بعد الاجتهاد والتحري فيمن يقلده ، وليس كذلك ، وحيث خير في التقليد دل على التساوي بين المجتهدين ، فإن الشرع لا يخير إلا في حالة التساوي .

الثالث : أنه لو كان الحق في جهة واحدة لوجب نقض كل حكم خالفه ، كما قاله بشر المريسي والأصم >[22] ، وحيث لم ينقض دل على التساوي .

[ ص: 194 ] الرابع : أنه لو كان الحق في جهة واحدة لما وجب على كل واحد من المجتهدين اتباع ما أوجبه ظنه ، ولا كان مأمورا به ; لأن الشارع لا يأمر بالخطإ ، وحيث كان مأمورا باتباعه دل على كونه صوابا .

الخامس : أنه لا خلاف في ترجيح الأدلة المتقابلة في المجتهدات بما لا يستقل بإثبات أصل الحكم ولا نفيه ، فدل على أن الدليل من الجانبين ما هو خارج عن الترجيح ، فالدليل على كل واحد من الحكمين قائم ، فكان حقا .

السادس : أن حصر الحق في جهة واحدة مما يفضي إلى الضيق والحرج ، وهو منفي بقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ، وقوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) .

السابع : أنه لو كان المجتهد مخطئا لما علم كونه مغفورا له ، واللازم ممتنع .

وبيان الملازمة أنه لو كان مخطئا فلا يخلو : إما أن لا يجوز كونه مخطئا ، أو يجوز كونه مخطئا .

الأول : محال ، فإن من قال بالتخطئة لم يعين الخطأ في واحد ، بل أمكن أن يكون قائلا بالنفي أو الإثبات .

والثاني : فلا يخلو إما أن يعلم مع تجويز كونه مخطئا أنه قد انتهى في النظر إلى الرتبة التي يغفر له بترك ما بعدها أو لا يعلم ذلك .

الأول : محال ، فإن المجتهد لا يميز ما بين الرتبتين .

وإن كان الثاني فهو مجوز لترك النظر الذي إذا أخل به بعد النظر الذي انتهى إليه لا يكون مغفورا له ، وذلك ممتنع مخالف لإجماع الأمة على ثواب كل مجتهد وغفران ما أخل به من النظر .

والجواب عن الآية : أن غايتها الدلالة على أن كل واحد منهما أوتي حكما وعلما ، وهو نكرة في سياق الإثبات فيخص ، وليس فيه ما يدل على أنه أوتي حكما وعلما فيما حكم به ، وقد أمكن حمل ذلك على أنه أوتي حكما وعلما بمعرفة دلالات الأدلة على مدلولاتها وطرق الاستنباط ، فلا يبقى حجة في غيره .

[ ص: 195 ] وعن السنة أن الخبر وإن كان عاما في الأصحاب والمقتدين بهم غير أن ما فيه عام ولا يلزم من العموم في الأشخاص العموم في الأحوال .

وعلى هذا فقد أمكن حمله على الاقتداء في الرواية عن النبي عليه السلام ، لا في الرأي والاجتهاد ، وقد عمل به فيه فلا يبقى حجة فيما عداه ضرورة إطلاقه .

وعن الإجماع : أنه إنما لم ينكر بعض الصحابة على بعض المخالفة ; لأن المخطئ غير معين ، ومع ذلك فهو مأمور باتباع ما أوجبه ظنه ومثاب عليه ، والذي يجب إنكاره من الخطإ ما كان مخطئه معينا ، وهو منهي عنه ، وما نحن فيه ليس كذلك .

وعن الشبهة الأولى من المعقول : لا نسلم أنه لو كان الحكم في الواقعة معينا لنصب الله عليه دليلا قاطعا ; إذ هو مبني على وجوب رعاية الحكمة في أفعال الله ، وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية >[23] . وإن سلمنا وجوب رعاية الحكمة ولكن لا مانع أن تكون الحكمة طلب الظن بذلك الحكم بناء على الأدلة الظنية ، لا طلب العلم به لنيل ثواب النظر والاجتهاد ، فإن ثوابه لزيادة المشقة فيه أزيد على ما قال عليه السلام : " ثوابك على قدر نصبك " >[24] ، وإن لم تظهر فيه حكمة فلا مانع من اختصاصه بحكمة لا يعلمها سوى الرب تعالى .

وعن الثانية : أنه إنما خير العامي في التقليد لمن شاء لكونه لا يقدر على معرفة الأعلم دون معرفة مأخذ المجتهدين .

ووجه الترجيج فيه ، وذلك مما يخرجه عن العامية ، ويمنعه من جواز الاستفتاء بل غاية ما يقدر على معرفته كون كل واحد منهما عالما أهلا للاجتهاد ، ومن هذه الجهة قد استويا في نظره ، فلذلك كان مخيرا حتى إنه لو قدر على معرفة الأعلم ولو بإخبار العلماء بذلك لم يجز له تقليد غيره .

وعن الثالثة : أنه إنما امتنع نقض ما خالف الصواب لعدم معرفة الصواب من الخطإ .

وعن الرابعة : أنها منقوضة بما إذا كان في المسألة نص أو إجماع ، ولم يعلم به المجتهد بعد البحث التام ، فإن الحكم فيها معين ومع ذلك فالمجتهد مأمور باتباع ما أوجبه ظنه .

[ ص: 196 ] وعن الخامسة : أنا وإن سلمنا أن الترجيح قد يكون بما لا يستقل بالحكم فلا يمنع ذلك من اعتباره جزءا من الدليل .

وعلى هذا فالمرجوح لا يكون دليلا ، وإن كان دليلا لكن لا نسلم جواز ترتب الحكم على المرجوح مع وجود الراجح في نفس الأمر .

وعن السادسة : أن الحرج إنما يلزم من تعيين الحق إن لو وجب على المجتهدين اتباعه قطعا .

>[25] أما إذا كان ذلك مفوضا إلى ظنونهم واجتهاداتهم فلا .

كيف ويلزم على ما ذكروه ما إذا كان في المسألة نص أو إجماع ، فإن الحكم فيها يكون معينا ، وإن لزم منه الحرج .

>[26] وعن السابعة : بمنع ما ذكروه من الملازمة ، وذلك لأن الكلام إنما هو مفروض فيما إذا علم من نفسه انتهاءه في الاجتهاد واستفراغ الوسع إلى حد يقطع بانتفاء قدرته على المزيد عليه ، وذلك هو ضابط العلم بكونه مغفورا له ما وراءه .

التالي السابق


الخدمات العلمية