الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 204 ] المسألة التاسعة

المكلف إذا كان قد حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل ، فإن اجتهد فيها ، وأداه اجتهاده إلى حكم فيها ، فقد اتفق الكل على أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أوجبه ظنه وترك ظنه ، وإن لم يكن قد اجتهد فيها ، فقد اختلفوا فيه .

فقال أبو علي الجبائي : الأولى له أن يجتهد ، وإن لم يجتهد وترك الأولى جاز له تقليد الواحد من الصحابة ، إذا كان مترجحا في نظره على غيره ممن خالفه وإن استووا في نظره يخير في تقليد من شاء منهم ، ولا يجوز له تقليد من عداهم ، وبه قال الشافعي في رسالته القديمة .

ومن الناس من قال : يجوز له تقليد الواحد من الصحابة أو التابعين دون من عداهم ، قال محمد بن الحسن : يجوز تقليد العالم لمن هو أعلم منه ، ولا يقلد من هو مثله أو دونه ، وسواء كان من الصحابة أو غيرهم .

وقال ابن سريج يجوز تقليد العالم لمن هو أعلم منه إذا تعذر عليه وجه الاجتهاد ، وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري : يجوز تقليد العالم للعالم مطلقا . وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان . وقال بعض أهل العراق : يجوز تقليد العالم فيما يفتي به ، وفيما يخصه ، ومنهم من قال بجواز ذلك فيما يخصه دون ما يفتي به .

ومن هؤلاء من خصص ذلك بما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد .

وذهب القاضي أبو بكر وأكثر الفقهاء إلى منع تقليد العالم للعالم سواء كان أعلم منه أو لم يكن ، وهو المختار .

إلا أن القائلين بذلك قد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والتنبيه على ضعفها ، ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار .

الحجة الأولى : أن من له أهلية الاجتهاد متمكن من الاجتهاد ، فلا يجوز مع ذلك مصيره إلى قول غيره كما في العقليات .

[ ص: 205 ] الثانية : أنه لو كان قد اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام ، لم يجز له تقليد غيره وترك ما أدى إليه اجتهاده ، فكذا لا يجوز له تقليده قبل الاجتهاد ; لإمكان أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف رأي من قلده .

الثالثة : أنه لو جاز لغير الصحابة تقليد الصحابة مع تمكنه من الاجتهاد ، لجاز لبعض الصحابة من المجتهدين تقليد البعض ، ولو جاز ذلك لما كان لمناظراتهم فيما وقع بينهم من المسائل الخلافية معنى .

الرابعة : أن الصحابة كانت تترك ما رأته باجتهادها لما تسمعه من الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فكان عمل غيرهم بالخبر وترك العمل برأيهم أولى .

ولقائل أن يقول على الحجة الأولى : إنما لم يجز التقليد في العقليات ضرورة أن المطلوب فيها هو العلم >[1] وهذا غير حاصل بالتقليد ، بخلاف مسائل الاجتهاد ، فإن المطلوب فيها هو الظن ، وهو حاصل بالتقليد فافترقا .

وعلى الثانية : أنه إذا اجتهد إلى حكم من الأحكام فوثوقه به أتم من وثوقه بما يقلد فيه الغير ; لأنه مع مساواة اجتهاده لاجتهاد الغير يحتمل أن لا يكون الغير صادقا فيما أخبر به ، والمجتهد لا يكابر نفسه فيما أدى إليه اجتهاده ، وقبل أن يجتهد لم يحصل له الوثوق بحكم ما ، فلا يلزم من امتناع التقليد مع الاجتهاد امتناعه مع عدمه .

وعلى الثالثة : أن من المخالفين في هذه المسألة من يجوز تقليد الصحابة بعضهم لبعض إذا كان المقلد أعلم كما سبق في تفصيل المذاهب في أول المسألة .

وبتقدير التسليم فلا يخفى أن الوثوق باجتهاد الصحابي لمشاهدة الوحي والتنزيل ، ومعرفة التأويل ، والاطلاع على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم ، وزيادة اختصاص الصحابة بالتشدد في البحث عن قواعد الدين وتأسيس الشريعة ، وعدم تسامحهم فيها أشد [ ص: 206 ] من غيرهم على ما قال عليه السلام : " خير القرون القرن الذي أنا فيه " . >[2] أتم من الوثوق باجتهاد غير الصحابي ، وأما مثل هذا التفاوت فغير واقع بين الصحابة .

وعلى هذا فلا يلزم من جواز تقليد غير الصحابي للصحابي تقليد الصحابي للصحابي .

وعن الرابعة : أن الخبر لا يخلو : إما أن يكون صريحا في مناقضة مذهب الصحابي ، أو لا يكون صريحا ، بل دلالته على ذلك ظنية اجتهادية .

فإن كان الأول : فلا خفاء في امتناع تقليد الصحابي معه ، كما يمتنع على الصحابي العمل برأيه مع ذلك الخبر . وإن كان الثاني : فلا نسلم أنه يجب على الصحابي الرجوع إليه مع استمراره على اعتقاد ما رآه أولا ، وترجيح ما أداه إليه اجتهاده على ذلك الخبر ، وعلى ذلك فلا يمتنع تقليد الصحابي مع وجود ذلك الخبر .

والمعتمد في المسألة أن يقال : القول بجواز التقليد حكم شرعي ولا بد له من دليل ، والأصل عدم ذلك الدليل ، فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه ، ولا يلزم من جواز ذلك في حق العامي العاجز عن التوصل إلى تحصيل مطلوبه من الحكم جواز ذلك في حق من له أهلية التوصل إلى الحكم ، وهو قادر عليه ، ووثوقه به أتم مما هو مقلد فيه لما سبق .

فإن قيل : دليل جواز التقليد في حق من لم يجتهد ، وإن كانت له أهلية الاجتهاد الكتاب والسنة والإجماع والمعقول .

أما الكتاب : فقوله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) أمر بالسؤال وأدنى درجاته جواز اتباع المسئول واعتقاد قوله ، وليس المراد به من لم يعلم شيئا أصلا ، بل من لم يعلم تلك المسألة ومن لم يجتهد في المسألة ، وإن كانت له أهلية الاجتهاد فيها غير عالم بها ، فكان داخلا تحت عموم الآية .

وأيضا قوله تعالى : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) والمراد ( بأولي الأمر ) العلماء ، أمر غير العالم بطاعة العالم ، وأدنى درجاته جواز اتباعه فيما هو مذهبه .

وأما السنة : فقوله عليه السلام : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم " >[3] [ ص: 207 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " .

>[4] وقوله عليه السلام : " اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر " .

>[5] وأما الإجماع : فهو أن عمر رجع إلى قول علي رضي الله عنه وإلى قول معاذ >[6] ، وبايع عبد الرحمن بن عوف عثمان على اتباع سنة الشيخين أبي بكر وعمر >[7] ، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ، مع أن المقلد كان أهلا للاجتهاد فصار ذلك إجماعا .

وأما المعقول : فهو أنه لا يقدر باجتهاده على غير الظن ، واتباع المجتهد فيما ذهب إليه مفيد للظن ، والظن معمول به في الشرعيات على ما سبق تقريره ، فكان اتباعه فيه جائزا .

والجواب عن الآية الأولى : أن المراد بأهل الذكر أهل العلم ، أي : المتمكن من تحصيل العلم بأهليته فيما يسأل عنه ، لا من العلم بالمسألة المسئول عنها حاضر عتيد لديه ، فإن أهل الشيء من هو متأهل لذلك الشيء ، لا من حصل له ذلك الشيء .

والأصل تنزيل اللفظ على ما هو حقيقة فيه ، وعلى هذا فتخص الآية بسؤال من ليس من أهل العلم ، كالعامي لمن هو أهل له ، وما نحن فيه فهو من أهل العلم بالتفسير المذكور ، فلا يكون داخلا تحت الآية ; لأن الآية لا دلالة لها على [ ص: 208 ] أمر أهل العلم بسؤال أهل العلم ، فإنه ليس السائل أولى بذلك من المسئول .

وعن الآية الثانية أن المراد : ( بأولي الأمر ) الولاة بالنسبة إلى الرعية ، والمجتهدين بالنسبة إلى العوام ، بدليل أنه أوجب الطاعة لهم ، واتباع المجتهد للمجتهد وإن جاز عند الخصوم فغير واجب بالإجماع ، فلا يكون داخلا تحت عموم الآية .

وعن السنة : ما سبق في مسألة مذهب الصحابي هل هو حجة أو لا ؟

وعن الإجماع : أما عمر فإنه لم يكن مقلدا لعلي ولمعاذ فيما ذهبا إليه ، بل لأنه اطلع من قوليهما على دليل أوجب رجوعه إليه .

وأما قصة عبد الرحمن بن عوف فقد سبق جوابها في المسائل المتقدمة .

>[8] وعن المعقول : أنه لو اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم ، لم يجز له تقليد غيره في خلاف ما أدى إجماعا ، فلو جاز له التقليد مع عدم الاجتهاد لكان ذلك بدلا عن اجتهاده ، والبدل دون المبدل ، والأصل أن لا يجوز العدول إلى البدل مع إمكان تحصيل المبدل مبالغة في تحصيل الزيادة من مقصوده ، اللهم إلا أن يرد نص بالتخيير يوجب إلغاء الزيادة من مقصود المبدل أو نص بأنه بدل عند العدم لا عند الوجود >[9] ، كما في بنت مخاض وابن لبون عن خمس وعشرين من الإبل ، فإن وجود بنت مخاض يمنع من أداء ابن لبون ، ولا يمتنع ذلك عند عدمها ، والأصل عدم ذلك النص .

كيف وأن ما ذكروه معارض بقوله تعالى : ( فاعتبروا ياأولي الأبصار ) ، وقوله تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) ، وقوله تعالى : ( اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ) ، وقوله تعالى : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) .

[ ص: 209 ] وبقوله عليه السلام : " اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له " . >[10] وتقليد العالم للعالم يلزم منه : ترك الاعتبار ، وترك العمل بحكم الله ورسوله ، وترك ما أنزل ، واقتفاء ما ليس له به علم ، وترك الاجتهاد المأمور به . وهو خلاف ظاهر النص .

واذا تعارضت الأدلة سلم لنا ما ذكرناه أولا .

التالي السابق


الخدمات العلمية