الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
وأما الترجيحات العائدة إلى المدلول :

الأول منها : أن يكون حكم أحدهما الحظر والآخر الإباحة ، وهذا مما اختلف فيه فذهب الأكثر كأصحابنا وأحمد بن حنبل والكرخي والرازي من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الحاظر أولى .

وذهب أبو هاشم وعيسى بن أبان إلى التساوي والتساقط ، والوجه في ترجيح ما مقتضاه الحظر أن ملابسة الحرام موجبة للمأثم بخلاف المباح ، فكان أولى بالاحتياط .

ولهذا فإنه لو اجتمع في العين الواحدة حظر وإباحة كالمتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل قدم التحريم على الإباحة ، وكذلك إذا طلق بعض نسائه بعينها ثم أنسيها حرم وطء الجميع تقديما للحرمة على الإباحة ، وإليه الإشارة بقوله - عليه السلام - : " ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال " >[1] وقال - عليه السلام - : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " >[2] غير أنه قد يمكن ترجيح ما مقتضاه [ ص: 260 ] الإباحة من جهة أخرى ، وهي أنا لو عملنا بما مقتضاه التحريم لزم منه فوات مقصود الإباحة من الترك مطلقا ، ولو عملنا بما مقتضاه الإباحة فقد لا يلزم منه فوات مقصود الحظر ؛ لأن الغالب أنه إذا كان حراما فلا بد وأن تكون المفسدة ظاهرة ، وعند ذلك فالغالب أن المكلف يكون عالما بها وقادرا على دفعها ؛ لعلمه بعدم لزوم المحذور من ترك المباح ، ولأن المباح مستفاد من التخيير قطعا بخلاف استفادة الحرمة من النهي لتردده بين الحرمة والكراهة ، فكان أولى .

وعلى هذا فلا يخفى وجه الترجيح بين ما مقتضاه الحرمة وما مقتضاه الندب .

الثاني : أن يكون مدلول أحدهما الحظر والآخر الوجوب ، فما مقتضاه التحريم أولى لوجهين :

الأول : هو أن الغالب من الحرمة إنما هو دفع مفسدة ملازمة للفعل أو تقليلها ، وفي الوجوب تحصيل مصلحة ملازمة للفعل ، أو تكميلها ، واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفاسد أتم من اهتمامهم بتحصيل المصالح ، ولهذا فإن من أراد فعلا لتحصيل مصلحة ، ينفر عنه إذا عارضه في نظرة لزوم مفسدة مساوية للمصلحة ، كمن رام تحصيل درهم على وجه يلزم منه فوات مثله ، وإذا كان ما هو المقصود من التحريم أشد وآكد منه في الواجب كانت المحافظة عليه أولى .

ولهذا كان ما شرعت العقوبات فيه من فعل المحرمات أكثر من ترك الواجبات وأشد كالرجم المشروع في زنا المحصن .

الوجه الثاني : أن إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتم من إفضاء الوجوب إلى مقصوده ، فكانت المحافظة عليه أولى ، وذلك لأن مقصود الحرمة يتأتى بالترك وذلك كاف مع القصد له ، أو مع الغفلة عنه ، ولا كذلك فعل الواجب .

وأيضا فإن ترك الواجب وفعل المحرم إذا تساويا في داعية الطبع إليهما فالترك يكون أيسر وأسهل من الفعل لتضمن الفعل مشقة الحركة وعدم المشقة في الترك ، وما يكون حصول مقصوده أوقع يكون أولى بالمحافظة عليه .

>[3] الثالث : أن يكون حكم أحدهما الحرمة والآخر الكراهة ، فالحظر أولى لمساواته الكراهة في طلب الترك وزيادته عليه بما يدل على اللوم عند الفعل ، ولأن المقصود [ ص: 261 ] منهما إنما هو الترك لما يلزمه من دفع المفسدة الملازمة للفعل ، والحرمة أوفى لتحصيل ذلك المقصود فكانت أولى بالمحافظة .

وأيضا فإن العمل بالمحرم لا يلزم منه إبطال دلالة المقتضي للكراهة ، وهو طلب الترك والعمل بالمقتضي للكراهة مما يجوز معه الفعل ، وفيه إبطال دلالة المحرم .

ولا يخفى أن العمل بما لا يفضي إلى الإبطال يكون أولى ، وبما حققناه في ترجيح المحرم على المقتضي للكراهة يكون ترجيح الموجب على المقتضي للندب .

الرابع : أن يكون حكم أحدهما إثباتا والآخر نفيا ، وذلك كخبر بلال بأن النبي - عليه السلام - دخل البيت وصلى >[4] وخبر أسامة أنه دخل ولم يصل >[5] فالنافي مرجح على المثبت خلافا للقاضي عبد الجبار في قوله : " إنهما سواء " ، والمثبت وإن كان مترجحا على النافي لاشتماله على زيادة علم غير أن النافي لو قدرنا تقدمه على المثبت كانت فائدته التأكيد ، ولو قدرنا تأخره كانت فائدته التأسيس ، وفائدة التأسيس أولى لما سبق تقريره فكان القضاء بتأخيره أولى .

فإن قيل : إلا أنه يلزم من تأخره مخالفة الدليل المثبت ، ورفع حكمه دون تقدمه .

قلنا : هو معارض بمثله ، فإنا لو قدرنا تقدم النافي فالمثبت بعده يكون نافيا لحكمه ورافعا له .

فإن قيل : المثبت وإن كان رافعا لحكم النافي على تقدير تأخره عنه ، فرافع لما فائدته التأكيد ، ولو قدرنا تأخر النافي كان مبطلا لما فائدته التأسيس ، فكان فرض تأخر المثبت أولى .

[ ص: 262 ] قلنا : إلا أنه وإن كانت فائدة النافي التأكيد على تقدير تقدمه فالمثبت يكون رافعا لحكم تأسيسي ، وهو الباقي على الحال الأصلي ، وزيادة ما حصل من النافي من التأكيد ، ولا كذلك ما لو كان النافي متأخرا فإنه لا يرفع غير التأسيس ، وما لا يفضي إلى رفع التأسيس مع التأكيد يكون أولى مما يفضي إلى رفع الأمرين معا ، وما يقال من أن المثبت مفيد لما هو حكم شرعي بالاتفاق ، والنافي غير مجمع على إفادته لحكم شرعي ، والغالب من الشارع أنه لا يتولى غير الشرعي ، فمع أنه غير سديد من جهة أن الحكم الشرعي غير مقصود لذاته ، وإنما هو مقصود لحكمته ؛ لكونه وسيلة إليها ، وحكمة الإثبات وإن كانت مقصودة فكذلك حكمة النفي ، فهو معارض من جهة أن الغالب من الشارع على ما هو المألوف منه ، إنما هو التقرير لا التغيير ، وعلى هذا فالحكم للنفي الأصلي يكون أولى من المغير .

الخامس : أن يكون حكم أحدهما معقولا والآخر غير معقول ، فما حكمه غير معقول ، وإن كان الثواب بتلقيه أكثر لزيادة مشقته كما نطق به الحديث >[6] إلا أن مقصود الشارع بشرع ما هو معقول أتم مما ليس بمعقول ؛ نظرا إلى سهولة الانقياد وسرعة القبول ، وما شرعه أفضى إلى تحصيل مقصود الشرع يكون أولى ؛ ولهذا كان شرع المعقول أغلب من شرع غير المعقول ، حتى إنه قد قيل : إنه لا حكم إلا وهو معقول حتى في ضرب الدية على العاقلة ونحوه مما ظن أنه غير معقول ، ولأن ما يتعلق بالمعقول من الفائدة بالنظر إلى محل النص بالتعدية والإلحاق أكثر منه في غير المعقول ، فكان أولى .

وما كانت جهة تعقله أقوى كما يأتي وجه التفصيل فيه في العلل ، فهو أولى .

السادس : أن يكون أحدهما مشتملا على زيادة لا وجود لها في الآخر ، كموجب الجلد مع الموجب للجلد والتغريب ، فالموجب للزيادة يكون أولى ؛ لأن العمل بالزيادة غير موجب لإبطال منطوق الآخر فيما دل عليه من وجوب الجلد وإجزائه عن نفسه ، والعمل بالموجب للجلد فقط موجب لإبطال المنطوق في الدلالة على وجوب الزيادة ، وما لا يفضي إلى إبطال حكم الدليل أولى مما يفضي إلى الإبطال ، ولأن دلالة الموجب للجلد على نفي الزيادة غير مأخوذة من منطوق اللفظ ، ووجوب [ ص: 263 ] الزيادة مأخوذ من منطوق اللفظ ، ومخالفة ما ليس بمنطوق بالمنطوق أولى لما تقدم .

السابع : أن يكون موجب أحدهما الجلد والآخر الدرء ، فالدارئ يكون أولى نظرا إلى ما حققناه في ترجيح ما حكمه النفي على ما حكمه الإثبات ، ولأن الخطأ في نفي العقوبة أولى من الخطإ في تحقيقها على ما قال - عليه السلام - : " لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة " >[7] ، ولأن ما يعترض الحد من المبطلات أكثر مما يعترض الدرء ، فكان أولى لبعده عن الخلل وقربه إلى المقصود ، ولأنه على خلاف الدليل النافي للحد والعقوبة .

الثامن : أن يكون حكم أحدهما وقوع الطلاق أو العتق ، وحكم الآخر نفيه .

قال الكرخي : ما حكمه الوقوع أولى لأنه الدليل النافي لملك البضع وملك اليمين ، والنافي لهما على خلافه ، ويمكن أن يقال : بل النافي لهما أولى لأنه على وفق الدليل المقتضي لصحة النكاح وإثبات ملك اليمين المترجح على النفي له .

التاسع : أن يكون حكم أحدهما تكليفيا وحكم الآخر وضعيا ، فالتكليفي وإن اشتمل على زيادة الثواب المرتبط بالتكليف وكان لأجله راجحا ، فالوضعي من جهة أنه لا يتوقف على ما يتوقف عليه الحكم التكليفي من أهلية المخاطب وفهمه ، وتمكنه من الفعل يكون مترجحا .

العاشر : أن يكون حكم أحدهما أخف من الآخر ، فقد قيل : إن الأخف أولى ؛ لأن الشريعة مبناها على التخفيف على ما قال الله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) ، وقال تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ، وقال - عليه السلام - : " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " >[8] ، وقيل : إن الأثقل أولى نظرا إلى الشرعية [ ص: 264 ] إنما يقصد بها مصالح المكلفين ، والمصلحة في الفعل الأشق أعظم منها في الفعل الأخف على ما قال - عليه السلام - : " ثوابك على قدر نصبك " >[9] ، ولأن الغالب على الظن إنما هو تأخره عن الأخف ؛ نظرا إلى المألوف من أحوال العقلاء ، فإن من قصد تحصيل مقصود بفعل من الأفعال ولم يحصل به لا يقصد تحصيله بما هو أخف منه ، بل بما هو أعلى منه ، فبتقدير تقدم الأخف على الأثقل يكون موافقا لنظر أهل العرف فكان أولى ، ولأن زيادة ثقله تدل على تأكد المقصود منه على مقصود الأخف ، فالمحافظة عليه تكون أولى .

الحادي عشر : أن يكون كل واحد من الخبرين خبرا واحدا إلا أن حكم أحدهما مما تعم به البلوى بخلاف حكم الآخر ، فما لا تعم به البلوى أولى لكونه أبعد عن الكذب من جهة أن تفرد الواحد بنقل ما تعم به البلوى مع توفر الدواعي على نقله أقرب إلى الكذب ، كما تقرر قبل . >[10] ، ولهذا كان مختلفا فيه ومتفقا على مقابله .

التالي السابق


الخدمات العلمية