الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 115 ] المسألة الثانية

اتفق العقلاء على استحالة الجمع بين الحظر والوجوب في فعل واحد >[1] من جهة واحدة ; لتقابل حديهما كما سبق تعريفه إلا على رأي من يجوز التكليف بالمحال .

وإنما الخلاف في أنه هل يجوز انقسام النوع الواحد من الأفعال إلى واجب وحرام كالسجود لله تعالى والسجود للصنم ، وأن يكون الفعل الواحد بالشخص واجبا حراما من جهتين كوجوب الفعل المعين الواقع في الدار المغصوبة من حيث هو صلاة ، وتحريمه من حيث هو غصب شاغل لملك الغير .

فذلك مما جوزه أصحابنا مطلقا وأكثر الفقهاء ، وخالف في الصورة الأولى بعض المعتزلة وقالوا : السجود نوع واحد وهو مأمور به لله تعالى ، فلا يكون حراما ولا منهيا بالنسبة إلى الصنم من حيث هو سجود ، وإلا كان الشيء الواحد مأمورا منهيا وذلك محال ، وإنما المحرم المنهي قصد تعظيم الصنم ، وهو غير السجود .

وخالف في الصورة الثانية الجبائي وابنه وأحمد بن حنبل وأهل الظاهر والزيدية .

وقيل : إنه رواية عن مالك ، وقالوا : الصلاة في الدار المغصوبة غير واجبة ولا صحيحة ، ولا يسقط بها الفرض ولا عندها . ووافقهم على ذلك القاضي أبو بكر إلا في سقوط الفرض ، فإنه قال : يسقط الفرض عندها لا بها مصيرا منهم إلى أن الوجوب والتحريم إنما يتعلق بفعل المكلف لا بما ليس من فعله ، والأفعال الموجودة من المصلي في الدار المغصوبة أفعال اختيارية محرمة عليه ، وهو عاص بها مأثوم بفعلها ، وليس له من الأفعال غير ما صدر عنه ، فلا يتصور أن تكون طاعة ولا >[2] مثابا عليها ، ولا متقربا بها ، مع أن التقرب شرط في صحة الصلاة .

والحق في ذلك ما قاله الأصحاب .

[ ص: 116 ] أما في الصورة الأولى فلضرورة التغاير بالشخصية بين السجود لله تعالى والسجود للصنم ، ولا يلزم من تحريم أحد السجودين تحريم الآخر ، ولا من الوجوب الوجوب .

وما قيل من أن السجود مأمور به لله تعالى ، فإن أريد به السجود من حيث هو كذلك ، فهو غير مسلم ، بل السجود المقيد بقصد تعظيم الرب تعالى دون ما قصد به تعظيم الصنم ; ولهذا قال الله تعالى : ( لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله ) ولو كان كما ذكروه لكان عين المأمور به منهيا عنه ، وهو محال .

وأما القمر في الصورة الثانية ، فلضرورة تغاير الفعل المحكوم عليه باعتبار اختلاف جهتيه من الغصب والصلاة ; وذلك لأن التغاير بين الشيئين كما أنه قد يقع بتعدد النوع تارة كالإنسان والفرس ، وبتعدد الشخص تارة كزيد وعمرو . فقد يقع التغاير مع اتحاد الموضوع المحكوم عليه شخصيا بسبب اختلاف صفاته ، بأن يكون المحكوم عليه بأحد الحكمين المتقابلين هو الهيئة الاجتماعية من ذاته وإحدى صفتيه ، والمحكوم عليه بالحكم الآخر بالهيئة الاجتماعية والصفة الأخرى >[3] كالحكم على زيد بكونه مذموما لفسقه ومشكورا لكرمه ، وذلك مما لا يتحقق معه التقابل بين الحكمين والمنع منهما .

وقولهم : إن الفعل الموجود منه في الدار المغصوبة متحد وهو حرام ، فلا يكون واجبا .

قلنا : المحكوم عليه بالحرمة ذات الفعل من حيث هو فعل ، أو من جهة كونه غصبا . الأول غير مسلم ، والثاني فلا يلزم منه امتناع الحكم عليه بالوجوب من جهة كونه صلاة ضرورة >[4] الاختلاف كما سبق .

>[5] فإن قيل : متعلق الوجوب إما أن يكون هو متعلق الحرمة ، أو هو مغاير له . والأول يلزم منه التكليف بما لا يطاق ، والخصم لا يقول بذلك فيما نحن فيه ، سواء قيل بإحالته أو بجوازه . والثاني إما أن يكون متعلق الوجوب والتحريم [ ص: 117 ] متلازمين أو غير متلازمين ، لا جائز أن يقال بالثاني فإن الغصب والصلاة وإن انفك أحدهما عن الآخر في غير مسألة النزاع ، فهما متلازمان في مسألة النزاع . فلم يبق غير التلازم ، وعند ذلك فالواجب متوقف على فعل المحرم ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فالمحرم الذي ذكرتموه يكون واجبا ، وهو تكليف بما لا يطاق . وأيضا فإن الحركات المخصوصة في الصلاة والسكنات داخلة في مفهومها ، والحركات والسكنات تشغل الحيز ; إذ الحركة عبارة عن شغل الجوهر للحيز بعد أن كان في غيره ، والسكون شغل الجوهر للحيز أكثر من زمان واحد ، فشغل الحيز داخل في مفهوم الحركة والسكون الداخلين في مفهوم الصلاة ، فكان داخلا في مفهوم الصلاة ; لأن جزء الجزء جزء ، وشغل الحيز فيما نحن فيه حرام ، فالصلاة التي جزءها حرام لا تكون واجبة ; لأن وجوبها إما أن يستلزم إيجاب جميع أجزائها أو لا يستلزم . والأول يلزم منه إيجاب ما كان من أجزائها محرما ، وهو تكليف بما لا يطاق . والثاني يلزم منه أن يكون الواجب بعض أجزاء الصلاة لا نفس الصلاة ; لأن مفهوم الجزء مغاير لمفهوم الكل وذلك محال .

قلنا : أما الإشكال الأول فيلزم عليه ما لو قال السيد لعبده : أوجبت عليك خياطة هذا الثوب وحرمت عليك السكن في هذا الدار ، فإن فعلت هذا أثبتك وإن فعلت هذا عاقبتك . فإنه إذا سكن الدار وخاط الثوب فإنه يصح أن يقال : فعل الواجب والمحرم ، ويحسن من السيد ثوابه له على الطاعة وعقابه له على المعصية إجماعا . وعند ذلك فكل ما أوردوه من التقسيم فهو بعينه وارد هاهنا ; وذلك أن يقال : متعلق الوجوب إن كان هو متعلق الحرمة فهو تكليف بما لا يطاق ، وليس كذلك فيما فرض من الصورة ، وإن تغايرا فهما في الصورة المفروضة متلازمان ، وإن جاز انفكاكهما حسبما قيل في الصلاة في الدار المغصوبة . فالواجب متوقف على المحرم ، فيلزم أن يكون واجبا لا محرما لما قيل . وقد قيل بالجمع بين الواجب والمحرم فيها ، فما هو الجواب في هذه الصورة هو الجواب في صورة محل النزاع . على هذا فقد اندفع الإشكال الثاني أيضا من حيث إن شغل الحيز داخل في مفهوم الحركات المخصوصة الداخلة في مفهوم الخياطة ، وشغل الحيز [ ص: 118 ] بالسكن محرم على ما قيل في صورة محل النزاع من غير فرق ، والجواب يكون مشتركا . كيف وإن إجماع سلف الأمة وهلم جرا منعقد على الكف عن أمر الظلمة بقضاء الصلوات المؤداة في الدور المغصوبة مع كثرة وقوع ذلك منهم ، ولو لم تكن صحيحة مع وجوبها عليهم لبقي الوجوب مستمرا وامتنع على الأمة عدم الإنكار عادة ، وهو لازم على المعتزلة وأحمد بن حنبل حيث اعترفوا ببقاء الفرض وعدم سقوطه .

وأما القاضي أبو بكر فإنه قال : إن الفرض يسقط عندها لا بها جمعا بين الإجماع على عدم النكير على ترك القضاء وبين ما ظنه دليلا على امتناع صحة الصلاة ، وقد بينا إبطال مستنده .

التالي السابق


الخدمات العلمية