الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
وأما الترجيحات العائدة إلى علة حكم الأصل :

فمنها ما يرجع إلى طريق إثباتها ، ومنها ما يرجع إلى صفتها .

أما الترجيحات العائدة إلى طرق إثباتها :

فالأول منها : أن يكون وجود علة أحد القياسين مقطوعا به في أصله بخلاف علة الآخر ، فما وجود علته في أصله قطعي أولى ، وسواء كان وجودها معقولا أو محسا ، مدلولا عليه أو غير مدلول ؛ لكونه أغلب على الظن ، وفي معنى هذا أن يكون وجود العلتين مظنونا غير أن ظن وجود إحداهما أرجح من الأخرى فقياسها أولى ؛ لأنها أغلب على الظن .

الثاني : أن يكون دليل علية الوصف في أحد القياسين قطعيا وفي الآخر ظنيا >[1] فيكون أولى ؛ لأنه أغلب على الظن .

الثالث : أن يكون دليل العلتين ظنيا غير أن دليل إحدى العلتين أرجح من دليل الأخرى ، فما دليلها أرجح فقياسها أولى ؛ لأنه أغلب على الظن .

[ ص: 272 ] الرابع : أن يكون طريق علية الوصف فيهما الاستنباط إلا أن دليل إحدى العلتين السبر والتقسيم ، والأخرى المناسبة ، فما طريق ثبوت العلية فيه السبر والتقسيم يكون أولى ؛ لأن الحكم في الفرع كما يتوقف على تحقق مقتضيه في الأصل يتوقف على انتفاء معارضه في الأصل ، والسبر والتقسيم فيه التعرض لبيان المقتضي وإبطال المعارض ، بخلاف إثبات العلة بالإحالة >[2] فكان السبر والتقسيم أولى .

فإن قيل : وصف العلة لا بد وأن يكون مناسبا في نفس الأمر أو شبهيا ؛ لامتناع التعليل بالوصف الطردي ، ولا يخفى أن احتمال عدم المناسبة بعد إظهارها بالطريق التفصيلي أبعد من احتمال عدمها في السبر والتقسيم ، حيث لم يتعرض فيه لبيانها تفصيلا ، فكان طريق المناسبة أولى .

قلنا : إلا أن التعرض لمناسبة الوصف لا دلالة له بوجه على نفي المعارض في الأصل ، فإنه لا امتناع من اجتماع مناسبين في محل واحد على حكم واحد ، ودلالة البحث والسبر على مناسب في الأصل غير الوصف المشترك ، مع أن الأصل أن يكون الحكم معقول المعنى وأن يدل على أن الوصف المشترك مناسب .

ولا يخفى أن ما يدل على مناسبة العلة وعلى انتفاء معارضها أولى مما يدل على مناسبتها ، ولا يدل على انتفاء معارضها .

فإن قيل : إلا أن طريق إثبات العلة بالمناسبة أو الشبه أدل على مناسبة الوصف بعد إظهارها من دلالة السبر والتقسيم على انتفاء وصف آخر ؛ لاحتمال أن يصدق الناظر في قوله وأن يكذب ، وبتقدير صدقه فظهور ذلك مختص به دون غيره بخلاف طريق المناسبة ، فإنه ظاهر بالنظر إلى الخصمين .

قلنا : بل العكس أولى ، وذلك لأن الخلل العائد إلى دليل نفي المعارض إنما هو بالكذب أو الغلط لعدم الظفر بالوصف .

ولا يخفى أن وقوع الغلط مع كون الوصف المبحوث عنه ظاهرا جليا ، ووقوع الكذب مع كون الباحث عدلا أبعد من احتمال وقوع الغلط فيما أبدى من المناسبة مع كونها خفية مضطربة .

[ ص: 273 ] الخامس : أن يكون نفي الفارق في أصل أحد القياسين مقطوعا به وفي الآخر مظنونا ، فما قطع فيه بنفي الفارق يكون أولى لكونه أغلب على الظن .

السادس : أن يكون طريق ثبوت إحدى العلتين السبر والتقسيم ، والأخرى الطرد والعكس ، فما طريق ثبوته السبر والتقسيم أولى ؛ إذ هو دليل ظاهر على كون الوصف علة ، وما دار الحكم معه وجودا ظاهر العلية ؛ لأن الحكم قد يدور مع الأوصاف الطردية كما في الرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة الدائرة مع تحريم الشرب وجودا وعدما ، مع أنها ليست علة ؛ لأن العلة لا بد وأن تكون في الأصل بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة ، كما . سبق تقريره >[3] ، والرائحة الفائحة ليست باعثة ؛ إذ لا يشم منها رائحة المناسبة ، وكما أنه غير ظاهر في الدلالة على علية الوصف ، فلا دلالة له على ملازمة العلة ؛ لما قدمناه في إبطال الطرد والعكس ، وبهذا يكون القياس الذي طريق إثبات العلية فيه المناسبة أولى مما طريق إثباتها فيه الطرد والعكس .

التالي السابق


الخدمات العلمية