الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 282 ] الباب الثاني

في الترجيحات الواقعة بين الحدود الموصلة إلى المعاني المفردة التصورية

واعلم أن الحدود على اختلاف أنواعها منقسمة إلى عقلية وسمعية ، كانقسام الحجج ، غير أن ما هو متعلق غرضنا هاهنا إنما هو السمعية .

ومن السمعية ما كان ظنيا ، وعند تعارض الحدين السمعيين فقد يقع الترجيح بينهما من وجوه :

الأول : أن يكون أحدهما مشتملا على ألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب من غير تجوز ولا استعادة ولا اشتراك ولا غرابة ولا اضطراب ولا ملازمة ، بل بطريق المطابقة أو التضمن >[1] بخلاف الآخر ، فهو أولى لكونه أقرب إلى الفهم وأبعد عن الخلل والاضطراب .

الثاني : أن يكون المعروف في أحدهما أعرف من المعرف في الآخر ، فهو أولى لكونه أفضى إلى التعريف .

الثالث : أن يكون أحدهما معرفا بالأمور الذاتية والآخر بالأمور العرضية >[2] ، فالمعرف بالأمور الذاتية أولى ؛ لأنه مشارك للمعرف بالأمور العرضية في التمييز ومرجح عليه بتصوير معنى المحدود .

الرابع : أن يكون أحد الحدين أعم من الآخر ، فقد يمكن أن يقال : الأعم أولى لتناوله محدود الآخر وزيادة ، وما كان أكثر فائدة ، فقد يمكن أن يقال بأن الأخص أولى ؛ نظرا إلى أن مدلوله متفق عليه ومدلول الآخر من الزيادة مختلف فيه ، وما مدلوله متفق عليه أولى .

[ ص: 283 ] الخامس : أن يكون أحدهما قد أتي فيه بجميع ذاتياته والآخر ببعضها مع التمييز ، فالأول يكون أولى ؛ لأنه أشد تعريفا .

السادس : أن يكون أحدهما النقل السمعي والآخر على خلافه ، فالموافق يكون أولى لبعده عن الخلل ، ولأنه أغلب على الظن .

السابع : أن يكون طريق اكتساب أحدهما أرجح من طريق اكتساب الآخر ، فهو أولى ؛ لأنه أغلب على الظن .

الثامن : أن يكون أحدهما موافقا للوضع اللغوي والآخر على خلافه ، أو أنه أقرب إلى موافقته والآخر أبعد ، فالموافق أو ما هو أكثر موافقة للوضع اللغوي يكون أولى ؛ لأن الأصل إنما هو التقرير دون التغيير لكونه أقرب إلى الفهم وأسرع إلى الانقياد ، ولهذا كان التقرير هو الغالب ، وكان متفقا عليه بخلاف التغيير فكان أولى .

التاسع : أن يكون أحدهما مما قد ذهب إلى العمل به أهل المدينة أو الخلفاء الراشدون أو جماعة من الأمة أو واحد من المشاهير بالاجتهاد والعدالة والثقة بما يقول ، بخلاف الآخر فهو أولى لكونه أغلب على الظن وأقرب إلى الانقياد .

العاشر : أن يلزم من العمل بأحدهما تقرير حكم الحظر والآخر تقرير الوجوب أو الكراهة أو الندب ، فما يلزم منه تقرير الحظر أولى لما قدمناه في الحجج .

الحادي عشر : أن يلزم من أحدهما تقرير حكم النفي والآخر الإثبات ، فالمقرر للنفي أولى لما سبق في الحجج .

الثاني عشر : أن يلزم من أحدهما تقرير حكم معقول ومن الآخر حكم غير معقول ، فما يلزم منه تقرير حكم معقول أولى لما سبق في الحجج .

الثالث عشر : أن يلزم من أحدهما درء الحد والعقوبة ومن الآخر إثباته ، فالدارئ للحد أولى لما سبق أيضا .

[ ص: 284 ] الرابع عشر : أن يكون أحدهما يلازمه الحرية أو الطلاق ، والآخر يلازمه الرق أو إبقاء النكاح ، فالحكم فيه ما سبق في الحجج .

وقد يتشعب من تقابل هذه الترجيحات ترجيحات أخرى كثيرة خارجة عن الحصر لا تخفى على متأملها .

وهذا آخر ما أردناه ونهاية ما رتبناه .

اللهم ! فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه ، فاجعله نافعا في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى ، واختم بالسعادة آجالنا ، وحقق بالزيادة آمالنا ، واقرن بالعافية غدونا وآصالنا ، واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا ، وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ، ومفيض الخيرات ، والحمد الله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين .

السابق


الخدمات العلمية