الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
الفصل الثالث

في تحقيق معنى المندوب وما يتعلق به من المسائل

والمندوب في اللغة مأخوذ من الندب وهو الدعاء إلى أمر مهم ، ومنه قول الشاعر :

(

لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا

) .

وأما في الشرع فقد قيل : ( هو ما فعله خير من تركه ) ويبطل بالأكل قبل ورود الشرع ، فإنه خير من تركه لما فيه من اللذة واستبقاء المهجة وليس مندوبا .

وقيل : ( هو ما يمدح على فعله ولا يذم على تركه ) ويبطل بأفعال الله تعالى فإنها كذلك وليست مندوبة .

فالواجب أن يقال : ( هو المطلوب فعله شرعا من غير ذم على تركه مطلقا ) ، ( فالمطلوب فعله ) احتراز عن الحرام والمكروه والمباح وغيره من الأحكام الثابتة بخطاب الوضع والأخبار ، و ( نفي الذم ) >[1] احتراز عن الواجب المخير والموسع في أول الوقت >[2] وإذا عرف معنى المندوب ففيه مسألتان :

[ ص: 120 ] المسألة الأولى

ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من أصحابنا إلى أن المندوب مأمور به ، خلافا للكرخي وأبي بكر الرازي من أصحاب أبي حنيفة .

احتج المثبتون بأن فعل المندوب يسمى طاعة بالاتفاق ، وليس ذلك لذات الفعل المندوب إليه وخصوص نفسه ، وإلا كان طاعة بتقدير ورود النهي عنه ولا لصفة من الصفات التي يشاركه فيها غيره من الحوادث وإلا كان كل حادث طاعة ، ولا لكونه مرادا لله تعالى وإلا كان كل مراد الوقوع طاعة وليس كذلك ، ولا لكونه مثابا عليه فإنه لا يخرج عن كونه طاعة وإن لم يثب عليه ، ولا لكونه موعودا بالثواب عليه ; لأنه لو ورد فيه وعد لتحقق لاستحالة الخلف في خبر الشارع ، والثواب غير لازم له بالإجماع ، والأصل عدم ما سوى ذلك ، فتعين أن يكون طاعة لما فيه من امتثال الأمر ؛ فإن امتثال الأمر يسمى طاعة ولهذا يقال : فلان مطاع الأمر ، ومنه قول الشاعر :

(

ولو كنت ذا أمر مطاع لما بدا     توان من المأمور في كل أمركا

) .

كيف وقد شاع وذاع إطلاق أهل الأدب قولهم بانقسام الأمر إلى أمر إيجاب وأمر ندب .

فإن قيل : أمكن أن يكون طاعة لكونه مقتض ومطلوبا ممن له الطلب والاقتضاء ، ولا يلزم أن يكون ذلك لكونه مأمورا ، ثم لو كان فعله طاعة لكونه مأمورا لكان تركه معصية لكونه مأمورا ، ولذلك يقال : أمر فعصى ، ومنه قول الشاعر :

(

أمرتك أمرا جازما فعصيتني

) .

وليس كذلك بالإجماع .

ويدل على أنه غير مأمور قوله عليه السلام : " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " ، وقوله عليه السلام لبريرة وقد عتقت تحت عبد : " لو راجعتيه . فقالت : بأمرك يا رسول الله ؟ فقال : لا إنما أنا شافع " نفى الأمر في الصورتين مع أن الفعل فيهما مندوب ، فدل على أن المندوب ليس مأمورا .

[ ص: 121 ] قلنا : أما الاقتضاء والطلب فهو الأمر عندنا على ما يأتي ، فتسليمه تسليم لمحل النزاع .

قولهم : لا يسمى تاركه عاصيا . قلنا : لأن العصيان اسم ذم مختص بمخالفة أمر الإيجاب ولا بمخالفة مطلق أمر ، ويجب أن يكون كذلك جمعا بين ما ذكروه من الإطلاق وما ذكرناه من الدليل ، ولمثل هذا يجب حمل الحديثين على أمر الإيجاب دون الندب . ويخص الحديث الأول أنه قيده بالمشقة ، وهي لا تكون في غير أمر الإيجاب ، وإذا ثبت كونه مأمورا فهو حسن بجميع الاعتبارات السابق ذكرها في مسألة التحسين والتقبيح ، وهل هو داخل في مسمى الواجب ؟ فالكلام فيه على ما سيأتي في الجائز نفيا وإثباتا .

التالي السابق


الخدمات العلمية