الأصل الثالث  
في المحكوم فيه وهو الأفعال المكلف بها وفيه خمس مسائل :  
المسألة الأولى  
>[1] اختلف قول  
 nindex.php?page=showalam&ids=13711أبي الحسن الأشعري  في جواز  
التكليف بما لا يطاق نفيا وإثباتا  ، وذلك كالجمع بين الضدين وقلب الأجناس  
>[2] وإيجاد القديم وإعدامه ونحوه ، وميله في أكثر أقواله إلى الجواز  
>[3] وهو لازم على أصله في اعتقاد وجوب مقارنة      
[ ص: 134 ] القدرة الحادثة للمقدور بها مع تقدم التكليف بالفعل على الفعل  
>[4] ، وأن القدرة غير مؤثرة في مقدورها ، بل مقدورها مخلوق لله تعالى .  
ولا يخفى أن التكليف بفعل الغير حالة عدم القدرة عليه تكليف بما لا يطاق  
>[5] ، وهذا هو مذهب أكثر أصحابه وبعض معتزلة  
بغداد   حيث قالوا بجواز تكليف العبد بفعل في وقت علم الله تعالى أنه يكون ممنوعا عنه .  
والبكرية   >[6] حيث زعموا أن الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان مع التكليف به .  
غير أن من قال بجواز ذلك من أصحابه اختلفوا في وقوعه نفيا وإثباتا ، ووافقه على القول بالنفي بعض الأصحاب وهو مذهب البصريين من  
المعتزلة   وأكثر البغداديين .  
وأجمع الكل على جواز التكليف بما علم الله أنه لا يكون عقلا ، وعلى وقوعه شرعا كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن  
كأبي جهل  خلافا لبعض  
الثنوية      .  
والمختار إنما هو امتناع  
التكليف بالمستحيل لذاته  >[7] كالجمع بين الضدين ونحوه ، وجوازه في المستحيل باعتبار غيره ، وإليه ميل  
 nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي  ، رحمه الله .   
[ ص: 135 ] ولنفرض الكلام في الطرفين : أما الطرف الأول وهو امتناع التكليف بالمستحيل لذاته ، فيدل عليه أن التكليف طلب ما فيه كلفة ، والطلب يستدعي مطلوبا متصورا في نفس الطالب ، فإن طلب ما لا تصور له في النفس محال ، والمستحيل لذاته ، كالجمع بين الضدين والنفي والإثبات معا في شيء واحد ونحوه ، لا تصور له في النفس . ولو تصور في النفس لما كان وقوعه في الخارج ممتنعا لذاته ، وكما يمتنع التكليف بالجمع بين الضدين في طرف الوجود فكذلك يمتنع التكليف بالجمع بين الضدين في طرف السلب ، إذا لم يكن بينهما واسطة كالتكليف بسلب الحركة والسكون معا في شيء واحد ; لاستحالة ذلك لذاتيهما ، وعلى هذا فمن توسط مزرعة مغصوبة فلا يقال له : لا تمكث ولا تخرج  
>[8] ، كما ذهب إليه  
أبو هاشم     . وإن كان في كل واحد من المكث والخروج إفساد زرع الغير ، بل يتعين التكليف بالخروج لما فيه من تقليل الضرر وتكثيره في المكث ، كما يكلف المولج في الفرج الحرام بالنزع وإن كان به ماسا للفرج المحرم ; لأن ارتكاب أدنى الضررين يصير واجبا نظرا إلى رفع أعلاهما ، كإيجاب شرب الخمر على من غص بلقمة ونحوه . ووجوب الضمان عليه بما يفسده عند الخروج لا يدل على حرمة الخروج ، كما يجب الضمان على المضطر في المخمصة بما يتلفه بالأكل وإن كان الأكل واجبا ، وإن قدر انتفاء الترجيح بين الطرفين ، وذلك كما إذا سقط إنسان من شاهق على صدر صبي محفوف بصبيان وهو يعلم أنه إن استمر قتل من تحته وإن انتقل قتل من يليه ، فيمكن أن يقال بالتخيير بينهما ، أو يخلو مثل هذه الواقعة عن حكم الشارع  
>[9] ، وهو أولى من تكليفه طلب ما لا تصور له في نفس الطالب على ما حققناه .  
وهذا بخلاف ما إذا كان محالا باعتبار غيره فإنه يكون ممكنا باعتبار ذاته ، فكان متصورا في نفس الطالب وهو واضح لا غبار عليه .   
[ ص: 136 ] فإن قيل : ما ذكرتموه من إحالة طلب الجمع بين الضدين بناء على عدم تصوره في نفس الطالب غير صحيح ، وذلك لأنه لو لم يكن متصورا في نفس الطالب لما علم إحالته ، فإن العلم بصفة الشيء فرع تصور ذلك الشيء واللازم ممتنع ، وإن سلم دلالة ما ذكرتموه إلا أنه معارض بما يدل على جواز التكليف بالجمع بين الضدين ووقوعه شرعا ، وبيانه قوله تعالى لنوح : (  
أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن     ) أخبر أنه لا يؤمن غير  
>[10] من لم يؤمن مع أنهم كانوا مكلفين بتصديقه فيما يخبر به ، ومن ضرورة ذلك تكليفهم بأن لا يصدقوه تصديقا  
>[11] له في خبره أنهم لا يؤمنون .  
وأيضا فإن الله تعالى كلف  
أبا لهب  بتصديق النبي عليه السلام في أخباره . ومن أخبار النبي عليه السلام أن  
أبا لهب  لا يصدقه لإخبار الله تعالى لنبيه بذلك ، فقد كلفه بتصديقه في إخباره بعدم تصديقه له وفي ذلك تكليفه بتصديقه وعدم تصديقه ، وهو تكليف بالجمع بين الضدين .  
قلنا : أما الإشكال الأول فمندفع ، وذلك لأن الجمع المعلوم المتصور المحكوم بنفيه عن الضدين إنما هو الجمع المعلوم بين المختلفات التي ليست متضادة ، ولا يلزم من تصوره منفيا عن الضدين تصوره ثابتا لهما ، وهو دقيق فليتأمل .  
وما ذكروه من المعارضة ، فلا نسلم وجود الإخبار بعدم الإيمان في الآيتين مطلقا .  
أما في قصة  
أبي لهب  فغاية ما ورد فيه قوله تعالى : (  
سيصلى نارا ذات لهب     ) وليس في ذلك ما يدل على الإخبار بعدم تصديقه للنبي مطلقا ، فإنه لا يمتنع تعذيب المؤمن ، وبتقدير امتناع ذلك أمكن حمل قوله تعالى : (  
سيصلى نارا ذات لهب     ) على تقدير عدم إيمانه .  
وكذلك التأويل في قوله تعالى : (  
أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن     ) أي بتقدير عدم هداية الله تعالى لهم إلى ذلك ، وذلك لا يدل على الإخبار بعدم الإيمان مطلقا ، وإن سلمنا ذلك ، ولكن لا نسلم أنهم كلفوا بتصديق النبي عليه السلام فيما أخبر من عدم تصديقهم بتكذيبه ، وهذا مما اتفق عليه نفاة التكليف بالجمع بين الضدين .   
[ ص: 137 ] وأما الطرف الثاني : وهو بيان جواز التكليف بالمستحيل لغيره ، فقد احتج الأصحاب عليه بالنص والمعقول .  
أما النص فقوله تعالى : (  
ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به     ) سألوا دفع التكليف بما لا يطاق ، ولو كان ذلك ممتنعا لكان مندفعا بنفسه ، ولم يكن إلى سؤال دفعه عنهم حاجة .  
فإن قيل : إنما يمكن حمل الآية على سؤال دفع ما لا يطاق ، أن لو كان ذلك ممكنا وإلا لتعذر السؤال بدفع ما لا إمكان لوقوعه ، كما ذكرتموه ، وإمكانه متوقف على كون الآية ظاهرة فيه فيكون دورا .  
سلمنا كونها ظاهرة فيما ذكرتموه ، ولكن أمكن تأويلها بالحمل على سؤال دفع ما فيه مشقة على النفس ، وإن كان مما يطاق ويجب الحمل عليه لموافقته لما سنذكره من الدليل بعد هذا .  
سلمنا إرادة دفع ما لا يطاق لكنه حكاية حال الداعين ، ولا حجة فيه .  
سلمنا صحة الاحتجاج بقول الداعين ، لكن لا يخلو إما أن يقال بأن جميع التكاليف غير مطاقة ، أو البعض دون البعض ، الأول يوجب إبطال فائدة تخصيصهم بذكر ما لا يطاق ، بل كان الواجب أن يقال : لا يكلفنا ، وإن كان الثاني فهو خلاف أصلكم .  
سلمنا دلالة ما ذكرتموه ، لكنه معارض بقوله تعالى : (  
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها     ) وهو صريح في الباب ، وقوله تعالى : (  
وما جعل عليكم في الدين من حرج     ) ولا حرج أشد من التكليف بما لا يطاق .  
والجواب عن السؤال الأول : أن الآية بوضعها ظاهرة فيما لا يطاق فيجب تقدير إمكان التكليف به ضرورة حمل الآية على ما هي ظاهرة فيه ، حذرا من التأويل من غير دليل .  
وعن الثاني : أنه ترك الظاهر من غير دليل .  
>[12]  [ ص: 138 ] وعن الثالث : أن الآية إنما وردت في معرض التقرير لهم والحث على مثل هذه الدعوات ، فكان الاحتجاج بذلك لا بقولهم .  
وعن الرابع : أنه وإن كان كل تكليف عندنا تكليفا بما لا يطاق  
>[13] ، غير أنه يجب تنزيل السؤال على ما لا يطاق ، وهو ما يتعذر الإتيان به مطلقا في عرفهم دون ما لا يتعذر لما فيه من إجراء اللفظ على حقيقته ، وموافقة أهل العرف في عرفهم غايته إخراج ما لا يطاق مما هو مستحيل في نفسه لذاته من عموم الآية ; لما ذكرنا من استحالة التكليف به وامتناع سؤال الدفع للتكليف بما لا تكليف به ، ولا يخفى أنه تخصيص والتخصيص أولى من التأويل .  
وعن المعارضة بالآيتين أن غايتهما الدلالة على نفي وقوع التكليف بما لا يطاق ، ولا يلزم من ذلك نفي الجواز المدلول عليه من جانبنا ، كيف وإن الترجيح لما ذكرناه من الآية لاعتضادها بالدليل العقلي على ما يأتي  
>[14] ، ومع ذلك فلا خروج لها عن الظن والتخمين .