الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
الأصل الثالث

في المحكوم فيه وهو الأفعال المكلف بها وفيه خمس مسائل :

المسألة الأولى

>[1] اختلف قول أبي الحسن الأشعري في جواز التكليف بما لا يطاق نفيا وإثباتا ، وذلك كالجمع بين الضدين وقلب الأجناس >[2] وإيجاد القديم وإعدامه ونحوه ، وميله في أكثر أقواله إلى الجواز >[3] وهو لازم على أصله في اعتقاد وجوب مقارنة [ ص: 134 ] القدرة الحادثة للمقدور بها مع تقدم التكليف بالفعل على الفعل >[4] ، وأن القدرة غير مؤثرة في مقدورها ، بل مقدورها مخلوق لله تعالى .

ولا يخفى أن التكليف بفعل الغير حالة عدم القدرة عليه تكليف بما لا يطاق

>[5] ، وهذا هو مذهب أكثر أصحابه وبعض معتزلة بغداد حيث قالوا بجواز تكليف العبد بفعل في وقت علم الله تعالى أنه يكون ممنوعا عنه .

والبكرية >[6] حيث زعموا أن الختم والطبع على الأفئدة مانعان من الإيمان مع التكليف به .

غير أن من قال بجواز ذلك من أصحابه اختلفوا في وقوعه نفيا وإثباتا ، ووافقه على القول بالنفي بعض الأصحاب وهو مذهب البصريين من المعتزلة وأكثر البغداديين .

وأجمع الكل على جواز التكليف بما علم الله أنه لا يكون عقلا ، وعلى وقوعه شرعا كالتكليف بالإيمان لمن علم الله أنه لا يؤمن كأبي جهل خلافا لبعض الثنوية .

والمختار إنما هو امتناع التكليف بالمستحيل لذاته >[7] كالجمع بين الضدين ونحوه ، وجوازه في المستحيل باعتبار غيره ، وإليه ميل الغزالي ، رحمه الله .

[ ص: 135 ] ولنفرض الكلام في الطرفين : أما الطرف الأول وهو امتناع التكليف بالمستحيل لذاته ، فيدل عليه أن التكليف طلب ما فيه كلفة ، والطلب يستدعي مطلوبا متصورا في نفس الطالب ، فإن طلب ما لا تصور له في النفس محال ، والمستحيل لذاته ، كالجمع بين الضدين والنفي والإثبات معا في شيء واحد ونحوه ، لا تصور له في النفس . ولو تصور في النفس لما كان وقوعه في الخارج ممتنعا لذاته ، وكما يمتنع التكليف بالجمع بين الضدين في طرف الوجود فكذلك يمتنع التكليف بالجمع بين الضدين في طرف السلب ، إذا لم يكن بينهما واسطة كالتكليف بسلب الحركة والسكون معا في شيء واحد ; لاستحالة ذلك لذاتيهما ، وعلى هذا فمن توسط مزرعة مغصوبة فلا يقال له : لا تمكث ولا تخرج >[8] ، كما ذهب إليه أبو هاشم . وإن كان في كل واحد من المكث والخروج إفساد زرع الغير ، بل يتعين التكليف بالخروج لما فيه من تقليل الضرر وتكثيره في المكث ، كما يكلف المولج في الفرج الحرام بالنزع وإن كان به ماسا للفرج المحرم ; لأن ارتكاب أدنى الضررين يصير واجبا نظرا إلى رفع أعلاهما ، كإيجاب شرب الخمر على من غص بلقمة ونحوه . ووجوب الضمان عليه بما يفسده عند الخروج لا يدل على حرمة الخروج ، كما يجب الضمان على المضطر في المخمصة بما يتلفه بالأكل وإن كان الأكل واجبا ، وإن قدر انتفاء الترجيح بين الطرفين ، وذلك كما إذا سقط إنسان من شاهق على صدر صبي محفوف بصبيان وهو يعلم أنه إن استمر قتل من تحته وإن انتقل قتل من يليه ، فيمكن أن يقال بالتخيير بينهما ، أو يخلو مثل هذه الواقعة عن حكم الشارع >[9] ، وهو أولى من تكليفه طلب ما لا تصور له في نفس الطالب على ما حققناه .

وهذا بخلاف ما إذا كان محالا باعتبار غيره فإنه يكون ممكنا باعتبار ذاته ، فكان متصورا في نفس الطالب وهو واضح لا غبار عليه .

[ ص: 136 ] فإن قيل : ما ذكرتموه من إحالة طلب الجمع بين الضدين بناء على عدم تصوره في نفس الطالب غير صحيح ، وذلك لأنه لو لم يكن متصورا في نفس الطالب لما علم إحالته ، فإن العلم بصفة الشيء فرع تصور ذلك الشيء واللازم ممتنع ، وإن سلم دلالة ما ذكرتموه إلا أنه معارض بما يدل على جواز التكليف بالجمع بين الضدين ووقوعه شرعا ، وبيانه قوله تعالى لنوح : ( أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) أخبر أنه لا يؤمن غير >[10] من لم يؤمن مع أنهم كانوا مكلفين بتصديقه فيما يخبر به ، ومن ضرورة ذلك تكليفهم بأن لا يصدقوه تصديقا >[11] له في خبره أنهم لا يؤمنون .

وأيضا فإن الله تعالى كلف أبا لهب بتصديق النبي عليه السلام في أخباره . ومن أخبار النبي عليه السلام أن أبا لهب لا يصدقه لإخبار الله تعالى لنبيه بذلك ، فقد كلفه بتصديقه في إخباره بعدم تصديقه له وفي ذلك تكليفه بتصديقه وعدم تصديقه ، وهو تكليف بالجمع بين الضدين .

قلنا : أما الإشكال الأول فمندفع ، وذلك لأن الجمع المعلوم المتصور المحكوم بنفيه عن الضدين إنما هو الجمع المعلوم بين المختلفات التي ليست متضادة ، ولا يلزم من تصوره منفيا عن الضدين تصوره ثابتا لهما ، وهو دقيق فليتأمل .

وما ذكروه من المعارضة ، فلا نسلم وجود الإخبار بعدم الإيمان في الآيتين مطلقا .

أما في قصة أبي لهب فغاية ما ورد فيه قوله تعالى : ( سيصلى نارا ذات لهب ) وليس في ذلك ما يدل على الإخبار بعدم تصديقه للنبي مطلقا ، فإنه لا يمتنع تعذيب المؤمن ، وبتقدير امتناع ذلك أمكن حمل قوله تعالى : ( سيصلى نارا ذات لهب ) على تقدير عدم إيمانه .

وكذلك التأويل في قوله تعالى : ( أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن ) أي بتقدير عدم هداية الله تعالى لهم إلى ذلك ، وذلك لا يدل على الإخبار بعدم الإيمان مطلقا ، وإن سلمنا ذلك ، ولكن لا نسلم أنهم كلفوا بتصديق النبي عليه السلام فيما أخبر من عدم تصديقهم بتكذيبه ، وهذا مما اتفق عليه نفاة التكليف بالجمع بين الضدين .

[ ص: 137 ] وأما الطرف الثاني : وهو بيان جواز التكليف بالمستحيل لغيره ، فقد احتج الأصحاب عليه بالنص والمعقول .

أما النص فقوله تعالى : ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) سألوا دفع التكليف بما لا يطاق ، ولو كان ذلك ممتنعا لكان مندفعا بنفسه ، ولم يكن إلى سؤال دفعه عنهم حاجة .

فإن قيل : إنما يمكن حمل الآية على سؤال دفع ما لا يطاق ، أن لو كان ذلك ممكنا وإلا لتعذر السؤال بدفع ما لا إمكان لوقوعه ، كما ذكرتموه ، وإمكانه متوقف على كون الآية ظاهرة فيه فيكون دورا .

سلمنا كونها ظاهرة فيما ذكرتموه ، ولكن أمكن تأويلها بالحمل على سؤال دفع ما فيه مشقة على النفس ، وإن كان مما يطاق ويجب الحمل عليه لموافقته لما سنذكره من الدليل بعد هذا .

سلمنا إرادة دفع ما لا يطاق لكنه حكاية حال الداعين ، ولا حجة فيه .

سلمنا صحة الاحتجاج بقول الداعين ، لكن لا يخلو إما أن يقال بأن جميع التكاليف غير مطاقة ، أو البعض دون البعض ، الأول يوجب إبطال فائدة تخصيصهم بذكر ما لا يطاق ، بل كان الواجب أن يقال : لا يكلفنا ، وإن كان الثاني فهو خلاف أصلكم .

سلمنا دلالة ما ذكرتموه ، لكنه معارض بقوله تعالى : ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) وهو صريح في الباب ، وقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج ) ولا حرج أشد من التكليف بما لا يطاق .

والجواب عن السؤال الأول : أن الآية بوضعها ظاهرة فيما لا يطاق فيجب تقدير إمكان التكليف به ضرورة حمل الآية على ما هي ظاهرة فيه ، حذرا من التأويل من غير دليل .

وعن الثاني : أنه ترك الظاهر من غير دليل .

>[12] [ ص: 138 ] وعن الثالث : أن الآية إنما وردت في معرض التقرير لهم والحث على مثل هذه الدعوات ، فكان الاحتجاج بذلك لا بقولهم .

وعن الرابع : أنه وإن كان كل تكليف عندنا تكليفا بما لا يطاق >[13] ، غير أنه يجب تنزيل السؤال على ما لا يطاق ، وهو ما يتعذر الإتيان به مطلقا في عرفهم دون ما لا يتعذر لما فيه من إجراء اللفظ على حقيقته ، وموافقة أهل العرف في عرفهم غايته إخراج ما لا يطاق مما هو مستحيل في نفسه لذاته من عموم الآية ; لما ذكرنا من استحالة التكليف به وامتناع سؤال الدفع للتكليف بما لا تكليف به ، ولا يخفى أنه تخصيص والتخصيص أولى من التأويل .

وعن المعارضة بالآيتين أن غايتهما الدلالة على نفي وقوع التكليف بما لا يطاق ، ولا يلزم من ذلك نفي الجواز المدلول عليه من جانبنا ، كيف وإن الترجيح لما ذكرناه من الآية لاعتضادها بالدليل العقلي على ما يأتي >[14] ، ومع ذلك فلا خروج لها عن الظن والتخمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية