الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
الأصل الرابع

في المحكوم عليه وهو المكلف وفيه خمس مسائل

المسألة الأولى

اتفق العقلاء على أن شرط المكلف أن يكون عاقلا فاهما للتكليف ; لأن التكليف وخطاب من لا عقل له ولا فهم محال كالجماد والبهيمة .

ومن وجد له أصل الفهم لأصل الخطاب ، دون تفاصيله من كونه أمرا ونهيا ، ومقتضيا للثواب والعقاب ومن كون الآمر به هو الله تعالى ، وأنه واجب الطاعة ، وكون المأمور به على صفة كذا وكذا كالمجنون والصبي الذي لا يميز ، فهو بالنظر إلى فهم التفاصيل كالجماد والبهيمة بالنظر إلى فهم أصل الخطاب ، ويتعذر تكليفه أيضا [ ص: 151 ] إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق ; لأن المقصود من التكليف كما يتوقف على فهم أصل الخطاب ، فهو متوقف على فهم تفاصيله >[1] .

وأما الصبي المميز وإن كان يفهم ما لا يفهمه غير المميز ، غير أنه أيضا غير فاهم على الكمال ما يعرفه كامل العقل من وجود الله تعالى ، وكونه متكلما مخاطبا مكلفا بالعبادة ومن وجود الرسول الصادق المبلغ عن الله تعالى ، وغير ذلك مما يتوقف عليه مقصود التكليف .

فنسبته إلى غير المميز كنسبة غير المميز إلى البهيمة فيما يتعلق بفوات شرط التكليف وإن كان مقاربا لحالة البلوغ ، بحيث لم يبق بينه وبين البلوغ سوى لحظة واحدة .

فإنه وإن كان فهمه كفهمه الموجب لتكليفه بعد لحظة ، غير أنه لما كان العقل والفهم فيه خفيا ، وظهوره فيه على التدريج ، ولم يكن له ضابط يعرف به ، جعل له الشارع ضابطا وهو البلوغ ، وحط عنه التكليف قبله تخفيفا عليه .

ودليله قوله عليه السلام : " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق " >[2] .

فإن قيل : إذا كان الصبي والمجنون غير مكلف ، فكيف وجبت عليهما الزكاة والنفقات والضمانات ، وكيف أمر الصبي المميز بالصلاة ؟

قلنا : هذه الواجبات ليست متعلقة بفعل الصبي والمجنون ، بل بماله أو بذمته .

فإنه أهل للذمة بإنسانيته المتهيئ بها لقبول فهم الخطاب عند البلوغ ، بخلاف البهيمة والمتولي لأدائها الولي عنهما ، أو هما بعد الإفاقة والبلوغ .

وليس ذلك من باب التكليف في شيء .

وأما الأمر بالصلاة المميز فليس من جهة الشارع ، وإنما هو من جهة الولي لقوله عليه السلام : " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع " و >[3] ، ذلك لأنه يعرف الولي ويفهم خطابه بخلاف الشارع على ما تقدم .

[ ص: 152 ] وعلى هذا فالغافل عما كلف به ، والسكران المتخبط لا يكون خطابه وتكليفه في حالة غفلته وسكره أيضا ، إذ هو في تلك الحالة أسوأ حالا من الصبي المميز فيما يرجع إلى فهم خطاب الشارع وحصول مقصوده منه ، وما يجب عليه من الغرامات والضمانات بفعله في تلك الحال .

فتخريجه كما سبق في الصبي والمجنون ، ونفوذ طلاق السكران ففيه منع خطاب الوضع والإخبار ، وإن نفذ فليس من باب التكليف في شيء ، بل من باب ما ثبت بخطاب الوضع والإخبار يجعل تلفظه بالطلاق علامة على نفوذه ، كما جعل زوال الشمس وطلوع الهلال علامة على وجوب الصلاة والصوم .

وكذلك الحكم في وجوب الحد عليه بالقتل والزنى وغيره .

وقوله تعالى : ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ، وإن كان من باب خطاب التكليف بنهي السكران ، فليس المقصود منه النهي عن الصلاة حالة السكر ، بل النهي عن السكر في وقت إرادة الصلاة .

وتقديره إذا أردتم الصلاة فلا تسكروا .

كما يقال لمن أراد التهجد : لا تقرب التهجد وأنت شبعان .

أي لا تشبع إذا أردت التهجد ، حتى لا يشتغل عليك التهجد .

وهو وإن دل بمفهومه على عدم النهي عن السكر في غير وقت الصلاة ، فغير مانع لورود النهي عن ذلك في ابتداء الإسلام حيت لم يكن الشرب حراما وإن كان وروده بعد التحريم وفي حالة السكر ، لكن يجب حمل لفظ السكران في الآية على من دب الخمر في شئونه وكان ثملا نشوانا ، وأصل عقله ثابت ; لأن ذلك مما يئول إلى السكر غالبا .

والتعبير عن الشيء باسم ما يئول إليه يكون تجوزا كما في قوله تعالى : ( إنك ميت وإنهم ميتون ) ، وقوله تعالى : ( حتى تعلموا ما تقولون ) ; فيجب حمله على كمال التثبت على ما يقال إذ هو غير ثابت حالة الانتشاء ، وإن كان العقل والفهم حاصلا .

وذلك كما يقال لمن أراد فعل أمر وهو غضبان : لا تفعل حتى تعلم ما تفعل أي حتى يزول عنك الغضب المانع من التثبت على ما تفعل ، وإن كان عقله وفهمه حاصلا .

ويجب المصير إلى هذه التأويلات ، جمعا بين هذه الآية وما ذكرناه من الدليل المانع من التكليف .

التالي السابق


الخدمات العلمية