الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 159 ] القسم الأول

فيما يجب العمل به مما يسمى دليلا شرعيا

ولما بان أنه على خمسة أنواع ، فالنظر المتعلق بها منه ما هو مختص بكل واحد منها بخصوصه ومنها ما هو مشترك بينها .

فلنرسم في كل واحد منها أصلا ، وهي ستة أصول .

الأصل الأول

في تحقيق معنى الكتاب
، وما يتعلق به من المسائل ; لأنه الأول والأولى بتقديم النظر فيه >[1] أما حقيقة الكتاب فقد قيل فيه : هو ما نقل إلينا بين دفتي المصحف بالأحرف السبعة المشهورة نقلا متواترا ، وفيه نظر .

فإنه لا معنى للكتاب سوى القرآن المنزل علينا على لسان جبريل ، وذلك مما لا يخرج عن حقيقته بتقدير عدم نقله إلينا متواترا بل ولا بعدم نقله إلينا بالكلية ، بل غايته جهلنا بوجود القرآن بتقدير عدم نقله إلينا وعدم علمنا بكونه قرآنا بتقدير عدم تواتره ، وعلمنا بوجوده غير مأخوذ في حقيقته ، فلا يمكن أخذه في تحديده .

والأقرب في ذلك أن يقال : الكتاب هو القرآن المنزل .

فقولنا : ( القرآن ) احتراز عن سائر الكتب المنزلة من التوراة والإنجيل وغيرهما ، فإنها وإن كانت كتبا لله تعالى فليست هي الكتاب المعهود لنا المحتج به في شرعنا على الأحكام الشرعية الذي نحن بصدد تعريفه ، وفيه احتراز عن الكلام المنزل على النبي عليه السلام مما ليس بمتلو .

وقولنا : ( المنزل ) احتراز عن كلام النفس ، فإنه ليس بكتاب ، بل الكتاب هو الكلام المعبر عن الكلام النفساني ، >[2] ولذلك لم نقل هو الكلام القديم ولم نقل هو المعجز ; لأن المعجز أعم من الكتاب ولم نقل هو الكلام المعجز ; لأنه يخرج منه الآية وبعض الآية مع أنها من الكتاب وإن لم تكن معجزة .

[ ص: 160 ] وإذا أتينا على تعريف حقيقة الكتاب >[3] ، فلا بد من النظر فيما يختص به من المسائل وهي خمس مسائل :

المسألة الأولى >[4] اتفقوا على أن ما نقل إلينا من القرآن نقلا متواترا ، وعلمنا أنه من القرآن أنه حجة ، واختلفوا فيما نقل إلينا منه آحادا كمصحف ابن مسعود ، وغيره أنه هل يكون حجة ، أم لا ؟

فنفاه الشافعي وأثبته أبو حنيفة ، وبنى >[5] عليه وجوب التتابع في صوم اليمين بما نقله ابن مسعود في مصحفه من قوله : " فصيام ثلاثة أيام متتابعات " .

والمختار إنما هو مذهب الشافعي .

وحجته أن النبي عليه السلام كان مكلفا بإلقاء ما أنزل عليه من القرآن على طائفة تقوم الحجة القاطعة بقولهم ، ومن تقوم الحجة القاطعة بقولهم لا يتصور عليهم التوافق على عدم نقل ما سمعوه منه .

فالراوي له إذا كان واحدا إن ذكره على أنه قرآن فهو خطأ ، وإن لم يذكره على أنه قرآن فقد تردد بين أن يكون خبرا عن النبي عليه السلام ، وبين أن يكون ذلك مذهبا له فلا يكون حجة .

وهذا بخلاف خبر الواحد عن النبي عليه السلام ، وعلى هذا منع من وجوب التتابع في صوم اليمين على أحد قوليه .

فإن قيل : قولكم إن النبي عليه السلام كان يجب عليه إلقاء القرآن إلى عدد تقوم الحجة القاطعة بقولهم ، لا نسلم ذلك ، وكيف يمكن دعواه مع أن حفاظ القرآن في زمانه عليه السلام لم يبلغوا عدد التواتر لقلتهم ، وأن جمعه إنما كان [ ص: 161 ] بطريق تلقي آحاد آياته من الآحاد ، ولذلك اختلفت مصاحف الصحابة .

ولو كان قد ألقاه إلى جماعة تقوم الحجة بقولهم ، لما كان كذلك .

ولهذا أيضا اختلفوا في البسملة أنها من القرآن ، وأنكر ابن مسعود كون الفاتحة والمعوذتين من القرآن .

سلمنا وجوب ذلك على النبي عليه السلام ، وأنه سمعه منه جمع تقوم الحجة بقولهم ، ولكن إنما يمتنع السكوت عن نقله على الكل لعصمتهم عن الخطأ ، ولا يمتنع ذلك بالنسبة إلى بعضهم ، وإذا كان ابن مسعود من جملتهم وقد روى ما رواه فلم يقع الاتفاق من الكل على الخطأ بالسكوت

وعند ذلك فيتعين حمل روايته لذلك في مصحفه على أنه من القرآن ; لأن الظاهر من حاله الصدق ولم يوجد ما يعارضه .

غايته أنه غير مجمع على العمل به ، لعدم تواتره ، وإن لم يصرح بكونه قرآنا أمكن أن يكون من القرآن ، وأمكن أن لا يكون لكونه خبرا عن النبي عليه السلام وأمكن أن >[6] يكون لكونه مذهبا له كما ذكرتموه ، وهو حجة بتقدير كونه قرآنا ، وبتقدير كونه خبرا عن النبي عليه السلام .

وهما احتمالان وإنما لا يكون حجة بتقدير كونه مذهبا له ، وهو احتمال واحد ولا يخفى أن وقوع احتمال من احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه .

سلمنا أنه ليس بقرآن ، وأنه متردد بين الخبر وبين كونه مذهبا له .

إلا أن احتمال كونه خبرا راجح ; لأن روايته له موهم بالاحتجاج به .

ولو كان مذهبا له لصرح به ، نفيا للتلبيس عن السامع المعتقد كونه حجة مع الاختلاف في مذهب الصحابي هل هو حجة أم لا .

والجواب : أما وجوب إلقائه على عدد تقوم الحجة بقولهم ، فذلك مما لم يخالف فيه أحد من المسلمين ; لأن القرآن هو المعجزة الدالة على صدقه عليه السلام قطعا ، ومع عدم بلوغه إلى من لم يشاهده بخبر التواتر لا يكون حجة قاطعة بالنسبة إليه ، فلا يكون حجة عليه في تصديق النبي عليه السلام ولا يلزم من عدم بلوغ حفاظ القرآن في زمن النبي عليه السلام عدد التواتر أن يكون الحفاظ لآحاد آياته كذلك .

[ ص: 162 ] وأما التوقف في جمع آيات القرآن على أخبار الآحاد ، فلم يكن في كونها قرآنا بل في تقديمها وتأخيرها بالنسبة إلى غيرها وفي طولها وقصرها .

وأما ما اختلفت به المصاحف ، فما كان من الآحاد فليس من القرآن وما كان متواترا فهو منه .

وأما الاختلاف في التسمية ، إنما كان في وضعها في أول كل سورة لا في كونها من القرآن .

وأما إنكار ابن مسعود ، فلم يكن لإنزال هذه السور على النبي عليه السلام ، بل لإجرائها مجرى القرآن في حكمه .

قولهم : إذا رواه ابن مسعود لم يتفق الكل على الخطأ .

قلنا : وإن كان كذلك ، إلا أن سكوت من سكت ، وإن لم يكن ممتنعا >[7] إلا أنه حرام >[8] لوجوب نقله عليه .

وعند ذلك فلو قلنا إن ما نقله ابن مسعود قرآن ، لزم ارتكاب من عداه من الصحابة للحرام بالسكوت .

ولو قلنا إنه ليس بقرآن لم يلزم منه ذلك ، لا بالنسبة إلى الراوي ولا بالنسبة إلى من عداه من الساكتين وبتقدير >[9] ارتكاب ابن مسعود للحرام مع كونه واحدا أولى من ارتكاب الجماعة له ، وعلى هذا فقد بطل قولهم بظهور صدقه فيما نقله معارض ، وتعين تردد نقله بين الخبر والمذهب .

قولهم : حمله على الخبر راجح ، لا نسلم ذلك .

قولهم : لو كان مذهبا لصرح به ، نفيا للتلبيس .

قلنا : أجمع المسلمون على أن كل خبر لم يصرح بكونه خبرا عن النبي عليه السلام ليس بحجة ، وما نحن فيه كذلك >[10] ، ولا يخفى أن الحمل على المذهب مع أنه مختلف في الاحتجاج به أولى من حمله على الخبر الذي ما صرح فيه بالخبرية ، مع أنه ليس بحجة بالاتفاق .

كيف وفيه موافقة النفي الأصلي وبراءة الذمة من التتابع بخلاف مقابله ، فكان أولى .

التالي السابق


الخدمات العلمية