الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 169 ] الأصل الثاني

في السنة

وهي في اللغة عبارة عن الطريقة ، فسنة كل أحد ما عهدت منه المحافظة عليه والإكثار منه ، كان ذلك من الأمور الحميدة أو غيرها .

وأما في الشرع فقد تطلق على ما كان من العبادات نافلة منقولة عن النبي عليه السلام وقد تطلق على ما صدر عن الرسول من الأدلة الشرعية مما ليس بمتلو ، ولا هو معجز ولا داخل في المعجز ، وهذا النوع هو المقصود بالبيان هاهنا ، ويدخل في ذلك أقوال النبي عليه السلام ، وأفعاله وتقاريره .

أما الأقوال من الأمر والنهي والتخيير والخبر وجهات دلالتها فسيأتي إيضاحها في الأصل الرابع المخصوص ببيان ما تشترك فيه الأدلة المنقولة الشرعية .

وليكن البيان هاهنا مخصوصا بما يخص النبي عليه السلام من الأفعال والتقارير ، ويشتمل على مقدمتين وخمس مسائل .

المقدمة الأولى >[1] .

في عصمة الأنبياء عليهم السلام ، وشرح الاختلاف في ذلك وما وقع الاتفاق من أهل الشرائع على عصمتهم عنه من المعاصي وما فيه الاختلاف أما قبل النبوة ، فقد ذهب القاضي أبو بكر وأكثر أصحابنا وكثير من المعتزلة إلى أنه لا يمتنع عليهم المعصية كبيرة كانت أو صغيرة ، بل ولا يمتنع عقلا إرسال من أسلم وآمن بعد كفره .

وذهبت الروافض إلى امتناع ذلك كله منهم قبل النبوة ; لأن ذلك مما يوجب هضمهم في النفوس واحتقارهم والنفرة عن اتباعهم ، وهو خلاف مقتضى الحكمة من بعثة الرسل ، ووافقهم على ذلك أكثر المعتزلة إلا في الصغائر .

[ ص: 170 ] والحق ما ذكره القاضي ; لأنه لا سمع قبل البعثة يدل على عصمتهم عن ذلك ، والعقل دلالته مبنية على التحسين والتقبيح العقلي ، ووجوب رعاية الحكمة في أفعال الله تعالى ، وذلك كله مما أبطلناه في كتبنا الكلامية .

وأما بعد النبوة فالاتفاق من أهل الشرائع قاطبة على عصمتهم عن تعمد كل ما يخل بصدقهم فيما دلت المعجزة القاطعة على صدقهم فيه من دعوى الرسالة والتبليغ عن الله تعالى .

واختلفوا في جواز ذلك عليهم بطريق الغلط والنسيان ، فمنع منه الأستاذ أبو إسحاق وكثير من الأئمة لما فيه من مناقضة دلالة المعجزة القاطعة .

وجوزه القاضي أبو بكر مصيرا منه إلى أن ما كان من النسيان وفلتات اللسان غير داخل تحت التصديق المقصود بالمعجزة ، وهو الأشبه .

وأما ما كان من المعاصي القولية والفعلية التي لا دلالة للمعجزة على عصمتهم عنها ، فما كان منها كفرا فلا نعرف خلافا بين أرباب الشرائع في عصمتهم عنه ، إلا ما نقل عن الأزارقة >[2] . من الخوارج أنهم قالوا بجواز بعثة نبي علم الله أنه يكفر بعد نبوته ، وما نقل عن الفضلية >[3] . من الخوارج أنهم قضوا بأن كل ذنب يوجد فهو كفر مع تجويزهم صدور الذنوب عن الأنبياء ، فكانت كفرا .

وأما ما ليس بكفر فإما أن يكون من الكبائر أو ليس منها .

فإن كان من الكبائر فقد اتفقت الأمة سوى الحشوية >[4] . ومن جوز الكفر على الأنبياء على عصمتهم عن تعمده من غير نسيان ولا تأويل ، وإن اختلفوا في أن مدرك العصمة السمع كما ذهب إليه القاضي أبو بكر والمحققون من أصحابنا ، أو العقل كما ذهب إليه المعتزلة .

وأما إن كان عن نسيان أو تأويل خطأ ، فقد اتفق الكل على جوازه سوى الرافضة .

[ ص: 171 ] وأما ما ليس بكبيرة فإما أن يكون من قبيل ما يوجب الحكم على فاعله بالخسة ودناءة الهمة وسقوط المروءة ، كسرقة حبة أو كسرة فالحكم فيه كالحكم في الكبيرة .

وأما ما لا يكون من هذا القبيل ، كنظرة أو كلمة سفه نادرة في حالة غضب ، فقد اتفق أكثر أصحابنا وأكثرالمعتزلة على جوازه عمدا وسهوا ، خلافا للشيعة مطلقا وخلافا للجبائي >[5] والنظام >[6] . وجعفر >[7] . بن مبشر في العمد .

وبالجملة فالكلام فيما وقع فيه الاختلاف في هذه التفاصيل غير بالغ مبلغ القطع ، بل هو من باب الظنون .

والاعتماد فيه على ما يساعد فيه من الأدلة الظنية نفيا وإثباتا .

وقد أتينا في كل موضع من المواضع المتفق عليها ، والمختلف فيها تزييفا واختيارا بأبلغ بيان ، وأوضح برهان في كتبنا الكلامية ، فعلى الناظر الالتفات إليها .

التالي السابق


الخدمات العلمية