الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
المسألة الأولى

اختلف الأصوليون في أفعال النبي عليه السلام ، هل هي دليل لشرع مثل ذلك الفعل بالنسبة إلينا أم لا ؟

وقبل النظر في الحجاج لا بد من تلخيص محل النزاع ، فنقول : أما ما كان من الأفعال الجبلية كالقيام والقعود والأكل والشرب ونحوه ، فلا نزاع في كونه على الإباحة بالنسبة إليه وإلى أمته .

وأما ما سوى ذلك ، مما ثبت كونه من خواصه التي لا يشاركه فيها أحد ، فلا يدل ذلك على التشريك بيننا وبينه فيه إجماعا .

وذلك كاختصاصه بوجوب الضحى والأضحى والوتر والتهجد بالليل والمشاورة والتخيير لنسائه ، وكاختصاصه بإباحة الوصال في الصوم ، وصفية المغنم ، والاستبداد >[1] بخمس الخمس ، ودخول مكة بغير إحرام ، والزيادة في النكاح على أربع نسوة ، إلى غير ذلك من خصائصه >[2] .

وأما ما عرف كون فعله بيانا لنا ، فهو دليل من غير خلاف ، وذلك إما بصريح مقاله كقوله : " صلوا كما رأيتموني أصلي وخذوا عني مناسككم " .

أو بقرائن الأحوال ، وذلك كما إذا ورد لفظ مجمل أو عام أريد به الخصوص أو مطلق أريد به التقييد ، ولم يبينه قبل الحاجة إليه ، ثم فعل عند الحاجة فعلا صالحا للبيان ، فإنه يكون بيانا حتى لا يكون مؤخرا للبيان عن وقت الحاجة ، وذلك كقطعه يد السارق من الكوع بيانا لقوله تعالى : ( فاقطعوا أيديهما ) ، وكتيممه [ ص: 174 ] إلى المرفقين بيانا لقوله تعالى : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) ، ونحوه .

والبيان تابع للمبين في الوجوب والندب والإباحة .

وأما ما لم يقترن به ما يدل على أنه للبيان لا نفيا ولا إثباتا فإما أن يظهر فيه قصد القربة أو لم يظهر .

فإن ظهر فيه قصد القربة ، فقد اختلفوا فيه فمنهم من قال : إن فعله عليه السلام محمول على الوجوب في حقه وفي حقنا ، كابن سريج والإصطخري ، وابن أبي هريرة ، وابن خيران والحنابلة وجماعة من المعتزلة .

ومنهم من صار إلى أنه للندب .

وقد قيل : إنه قول الشافعي ، وهو اختيار إمام الحرمين .

ومنهم من قال : إنه للإباحة وهو مذهب مالك ، ومنهم من قال : بالوقف ، وهو مذهب جماعة من أصحاب الشافعي كالصيرفي والغزالي وجماعة من المعتزلة .

وأما ما لم يظهر فيه قصد القربة ، فقد اختلفوا أيضا فيه على نحو اختلافهم فيما ظهر فيه قصد القربة غير أن القول بالوجوب والندب فيه أبعد مما ظهر فيه قصد القربة ، والوقف والإباحة أقرب .

وبعض من جوز على الأنبياء المعاصي قال : إنها على الخطر .

والمختار أن كل فعل لم يقترن به دليل يدل على أنه قصد به بيان خطاب سابق فإن ظهر فيه قصد القربة إلى الله تعالى فهو دليل في حقه عليه السلام على القدر المشترك بين الواجب والمندوب ، وهو ترجيح الفعل على الترك لا غير ، وأن الإباحة وهي استواء الفعل والترك في رفع الحرج خارجة عنه ، وكذلك في حق أمته .

وما لم يظهر فيه قصد القربة ، فهو دليل في حقه على القدر المشترك بين الواجب والمندوب والمباح ، وهو رفع الحرج عن الفعل ، لا غير وكذلك عن أمته .

وأما >[3] إذا ظهر من فعله قصد القربة ; فلأن القربة غير خارجة عن الواجب والمندوب ، والقدر المشترك بينهما إنما هو ترجيح الفعل على الترك ، والفعل دليل قاطع عليه .

[ ص: 175 ] وأما ما اختص به الواجب من الذم على الترك ، وما اختص به المندوب من عدم اللوم على الترك فمشكوك فيه ، وليس أحدهما أولى من الآخر .

وأما إذا لم يظهر من فعله قصد القربة فهو ، وإن جوزنا عليه فعل الصغيرة غير أن احتمال وقوعها من آحاد عدول المسلمين نادر ، فكيف من النبي عليه السلام .

بل الغالب من فعله أنه لا يكون معصية ، ولا منهيا عنه وعند ذلك ، فما من فعل من آحاد أفعاله ، إلا واحتمال دخوله تحت الغالب أغلب .

وإذا كان الغالب من فعله أنه لا يكون معصية ولا منهيا عنه ، فكل فعل لا يكون منهيا عنه لا يخرج عن الواجب والمندوب والمباح ، والقدر المشترك بين الكل إنما هو رفع الحرج عن الفعل دون الترك ، والفعل دليل قاطع عليه .

وأما ما اختص به الوجوب والندب عن المباح من ترجح الفعل على الترك ، وما اختص به المباح عنهما من استواء الطرفين فمشكوك فيه .

هذا بالنسبة إلى النبي عليه السلام .

وأما بالنسبة إلى أمته ؛ فلأنه وإن كان عليه السلام قد اختص عنهم بخصائص لا يشاركونه غير أنها نادرة ، بل أندر من النادر بالنسبة إلى الأحكام المشترك فيها .

وعند ذلك ، فما من واحد من آحاد الأفعال إلا واحتمال مشاركة الأمة للنبي عليه السلام فيه أغلب من احتمال عدم المشاركة إدراجا للنادر تحت الأعم الأغلب فكانت المشاركة أظهر .

وإذ أتينا على تفصيل المذاهب وتقرير ما هو المختار ، فلا بد من ذكر شبه المخالفين ، ووجه الانفصال عنها .

وأما شبه القائلين بالوجوب ، فمن جهة النص والإجماع والمعقول .

أما من جهة النص ، فمن جهة الكتاب والسنة .

أما من جهة الكتاب فقوله تعالى : ( فاتبعوه واتقوا ) أمر بمتابعته ، ومتابعته امتثال القول والإتيان بمثل فعله .

والأمر ظاهر في الوجوب .

وأيضا قوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره ) حذر من مخالفة أمره والتحذير دليل الوجوب ، واسم الأمر يطلق على الفعل ، كما سيأتي تقريره [ ص: 176 ] والأصل في الإطلاق الحقيقة ، وغايته أن يكون مشتركا بينه وبين القول المخصوص ، وسيأتي أن الاسم المشترك من قبيل الأسماء العامة .

فكان متناولا للفعل .

وأيضا قوله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه ) ، وفعله من جملة ما يأتي به ، فكان الأخذ به واجبا .

وأيضا قوله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) ، وهذا زجر في طي أمر .

وتقديره : من كان يؤمن بالله وباليوم الآخر ، فله فيه أسوة حسنة ، ومن لم يتأس به فلا يكون مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر ، وهو دليل الوجوب .

وأيضا قوله تعالى : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ) ، ومحبة الله واجبة والآية دلت على أن متابعة النبي عليه السلام لازمة لمحبة الله الواجبة ، ويلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ، وهو ممتنع .

وأيضا قوله تعالى : ( قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) أمر بطاعة الرسول ، والأمر ظاهر في الوجوب .

ومن أتى بمثل فعل الغير على قصد إعظامه ، فهو مطيع له وأيضا قوله تعالى : ( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) وذلك يدل على أن فعله تشريع وواجب الاتباع ، وإلا لما كان تزويجه مزيلا عن المؤمنين الحرج في أزواج أدعيائهم .

وأما من جهة السنة ، فما روي أن الصحابة رضي الله عنهم خلعوا نعالهم في الصلاة لما خلع نعله ، ففهموا وجوب المتابعة له في فعله ، والنبي عليه السلام أقرهم على ذلك ثم بين لهم علة انفراده بذلك .

وأيضا ما روي عنه أنه أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة ، ولم يفسخ . ، فقالوا له : " ما لك أمرتنا بفسخ الحج ولم تفسخ " ففهموا أن حكمهم كحكمه ، والنبي عليه السلام لم ينكر عليهم ولم يقل : " لي حكمي ولكم حكمكم بل أبدى عذرا يختص به " .

وأيضا ما روي عنه عليه السلام : أنه نهى الصحابة عن الوصال في الصوم وواصل ، فقالوا له : " نهيتنا عن الوصال ، وواصلت " فقال : " لست كأحدكم ، [ ص: 177 ] إني أظل عند ربي يطعمني ويسقيني " فأقرهم على ما فهموه من مشاركتهم له في الحكم ، واعتذر بعذر يختص به .

وأيضا ما روي عنه أنه لما سألته أم سلمة عن قبلة الصائم ، فقال لها : " لم لم تقولي لهم إني أقبل وأنا صائم ؟ ! " ولو لم يكن متبعا في أفعاله لما كان لذلك معنى .

وأيضا ما روي عنه أنه لما سألته أم سلمة عن بل الشعر في الاغتسال ، قال : " أما أنا فيكفيني أن أحثو على رأسي ثلاث حثيات من ماء " وكان ذلك جوابا لها ، ولولا أنه متبع في فعله لما كان جوابا لها .

وأيضا ما روي عنه أنه أمر الصحابة بالتحلل بالحلق والذبح ، فتوقفوا فشكا ذلك إلى أم سلمة ، فأشارت إليه بأن يخرج ويحلق ، ففعل ذلك فذبحوا وحلقوا ، ولولا أن فعله متبع لما كان كذلك .

وأما من جهة الإجماع ، فما روي عن الصحابة أنهم لما اختلفوا في الغسل من غير إنزال أنفذ عمر إلى عائشة رضي الله عنها وسألها عن ذلك ، فقالت : " فعلته أنا ورسول الله واغتسلنا " ، فأخذ عمر والناس بذلك ، ولولا أن فعله متبع لما ساغ ذلك .

وأيضا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقبل الحجر الأسود ويقول : " إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أنني رأيت رسول الله يقبلك لما قبلتك " ، وكان ذلك شائعا فيما بين الصحابة من غير نكير ، فكان إجماعا على اتباعه في فعله >[4] .

وأما من جهة المعقول فمن خمسة أوجه :

الأول : هو أن فعله احتمل أن يكون موجبا للفعل علينا ، واحتمل أن لا يكون موجبا ، والحمل على الإيجاب أولى لما فيه من الأمن والتحرز عن ترك الواجب .

ولذلك فإنه لو نسي صلاة من خمس من يوم ، فإنه يجب عليه إعادة الكل حذرا من الإخلال بالواجب .

وكذلك من طلق واحدة من نسائه ثم نسيها ، فإنه يحرم عليه جميعهن نظرا إلى الاحتياط .

[ ص: 178 ] الثاني أن النبوة من الرتب العلية والأوصاف السنية ، ولا يخفى أن متابعة العظيم في أفعاله من أتم الأمور في تعظيمه ، وإجلاله وأن عدم متابعته في أفعاله بأن صلى وهم جلوس أو قام يطوف وهم يتسامرون من أعظم الأمور في إسقاط حرمته والإخلال بعظمته ، وهو حرام ممتنع .

الثالث : أن أفعاله عليه السلام قائمة مقام أقواله في بيان المجمل وتخصيص العموم وتقييد المطلق من الكتاب والسنة ، فكان فعله محمولا على الوجوب كالقول .

الرابع : أن ما فعله النبي عليه السلام يجب أن يكون حقا وصوابا ، وترك الحق والصواب يكون خطأ وباطلا ، وهو ممتنع .

الخامس : أن فعله احتمل أن يكون واجبا واحتمل أن لا يكون واجبا ، واحتمال كونه واجبا أظهر من احتمال كونه ليس بواجب ; لأن الظاهر من النبي عليه السلام أنه لا يختار لنفسه سوى الأكمل والأفضل ، والواجب أكمل مما ليس بواجب ، وإذا كان واجبا فيجب اعتقاد مشاركة الأمة له فيه لما قررتموه في طريقتكم .

وأما شبه القائلين بالندب فنقلية وعقلية أيضا .

أما النقلية فقوله تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) جعل التأسي به حسنة ، وأدنى درجات الحسنة المندوب فكان محمولا عليه ، وما زاد فهو مشكوك فيه .

وأما العقلية : فهو أن فعله وإن احتمل أن يكون معصية إلا أنه خلاف الظاهر ، والظاهر من فعله أنه لا يكون إلا حسنة والحسنة لا تخرج عن الواجب والمندوب ، وحمله على فعل المندوب أولى لوجهين .

الأول : أن غالب أفعال النبي عليه السلام كانت هي المندوبات .

الثاني : أن كل واجب مندوب وزيادة ، وليس كل مندوب واجبا .

فكان فعل المندوب لعمومه أغلب ، ويلزم من ذلك مشاركة أمته له فيه لما ذكرتموه في طريقتكم .

وأما شبه القائلين بالإباحة فهي أن الأصل في الأفعال كلها إنما هو الإباحة ورفع الحرج عن الفعل والترك إلا ما دل الدليل على تغييره ، والأصل عدم المغير .

وأما شبه القائلين بالوقف ، فإنهم قالوا : فعله عليه السلام متردد بين أن [ ص: 179 ] يكون خاصا به وبين أن لا يكون خاصا به .

وما ليس خاصا به متردد بين الواجب والمندوب والمباح ، والفعل لا صيغة له ليدل على البعض دون البعض وليس البعض أولى من البعض فلزم الوقف إلى أن يقوم الدليل على التعيين .

والجواب عن شبه القائلين بالوجوب .

أما عن الآية الأولى ، فلا نسلم أن قوله : " فاتبعوه " يدل على الوجوب >[5] وإن سلمنا ذلك ولكن قوله : " فاتبعوه " صريح في اتباع شخص النبي عليه السلام وهو غير مراد ، فلا بد من إضمار المتابعة في أقواله وأفعاله .

والإضمار على خلاف الأصل فتمتنع الزيادة فيه من غير حاجة ، وقد أمكن دفع الضرورة بإضمار أحد الأمرين ، وليس إضمار المتابعة في الفعل أولى من القول ، بل إضمار المتابعة في القول أولى لكونه متفقا عليه ومختلفا في الفعل >[6] .

كيف وأن المتابعة في الفعل إنما يتحقق وجوبها ، أن لو علم كون الفعل المتبع واجبا ، وإلا فبتقدير أن يكون غير واجب ، فمتابعة ما ليس بواجب لا تكون واجبة ولم يتحقق كون فعله واجبا فلا تكون متابعته واجبة .

[ ص: 180 ] وعن الآية الثانية ، أن يقال اسم الأمر وإن أطلق على الفعل والقول المخصوص لكنه يجب اعتقاد كونه حقيقة في أمر مشترك بينهما ، وهو الشأن والصفة >[7] نفيا للتجوز والاشتراك عن اللفظ لكونهما على خلاف الأصل ، وعند ذلك فلفظ الأمر المحذر من مخالفته يكون مطلقا >[8] ، والمطلق إذا عمل به في صورة فقد خرج عن كونه حجة ضرورة توفية العمل بدلالته .

وقد عمل به في القول المخصوص ، فلا يبقى حجة في الفعل ، سلمنا أنه غير متواطئ ولكنه مجمع على كونه حقيقة في القول المخصوص ، ومختلف في الفعل ، فكان حمله على المتفق عليه دون المختلف فيه أولى .

أو سلمنا أنه حقيقة في الفعل ، لكنه يكون مشتركا >[9] وعند ذلك إن قيل بأن اللفظ المشترك يمتنع حمله على جميع مدلولاته فليس حمله على التحذير من مخالفة الأمر بمعنى الفعل أولى من القول ، وإن قيل بحمل اللفظ المشترك على جميع محامله ، فالتحذير عن مخالفة الأمر يتوقف على كون المحذر منه واجبا لاستحالة التحذير من ترك ما ليس واجبا .

وعند ذلك فالقول بالتحذير من مخالفة الفعل يستدعي وجوب ذلك الفعل ، ووجوبه إذا كان لا يعرف إلا من التحذير كان دورا .

كيف وإنه قد تقدم في الآية ذكر دعاء الرسول بقوله : ( لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا ) ، والمراد بالدعاء إنما هو القول ، فكان الأمر المذكور بعده عائدا إلى قوله .

ثم قد أمكن عود الضمير في أمره إلى الله تعالى إذ هو [ ص: 181 ] أقرب مذكور حيث قال بعد ذكر الرسول : ( قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذا ) >[10] ، فكان عوده إليه أولى .

وعن الآية الثالثة بمنع دلالة الأمر على الوجوب وإن سلمنا ذلك ، ولكن إنما يكون أخذ ما أتانا به واجبا إذا كان ما أتى به واجبا .

وأما إذا لم يكن واجبا فأخذه لا يكون واجبا ، فإن القول بوجوب فعل لا يكون واجبا تناقض في اللفظ والمعنى .

وعند ذلك فتتوقف دلالة الآية على الوجوب على كون الفعل المأتي به واجبا ، ووجوبه إذا توقف على دلالة الآية على وجوبه كان دورا >[11] .

كيف وإن في الآية ما يدل على أن المراد بوجوب أخذه إنما هو الأمر بمعنى القول حيث إنه قابله بالنهي بقوله : ( وما نهاكم عنه فانتهوا ) ، والنهي لا يكون إلا بالقول ، وكذلك الأمر المقابل له .

وعن الآية الرابعة من وجهين : الوجه الأول أنا نقول : المراد بالتأسي به في فعله أن نستخير لأنفسنا ما استخاره لنفسه ، وأن لا نعترض عليه فيما يفعله ، أو معنى آخر :

الأول : مسلم ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون ما استخاره لنفسه واجبا حتى يكون ما نستخيره نحن لأنفسنا واجبا .

والثاني : ممنوع .

الوجه الثاني : أن المراد بالتأسي به في فعله أن نوقع الفعل على الوجه الذي أوقعه هو عليه السلام حتى إنه لو صلى واجبا وصلينا متنفلين أو بالعكس ، فإن ذلك لا يكون تأسيا به ، ولم يثبت كون ما فعله واجبا حتى يكون ما نفعله نحن واجبا >[12] .

وعلى هذين الجوابين يخرج الجواب عن الآية الخامسة .

وعن الآية السادسة ، أن المراد من الطاعة إنما هو امتثال أمره ومتابعته في فعله [ ص: 182 ] على الوجه الذي فعله إن كان واجبا فواجبا ، وإن كان ندبا فندبا .

ونحن نقول به ، ولم يثبت أن ما فعله واجب حتى تكون متابعتنا له فيه واجبة .

وعن الآية السابعة أن غايتها الدلالة على أن حكم أمته مساو لحكمه في الوجوب والندب والإباحة ولا يلزم من ذلك أن يكون كل ما فعله واجبا ليكون فعلنا له واجبا .

وعن الخبر الأول من السنة من وجهين :

الأول : أن ذلك لا يدل على أنهم فعلوا ذلك بجهة الوجوب ، بل لعلهم رأوا متابعته في خلع النعل مبالغة في موافقته ، والذي يدل على أن الخلع بطريق المتابعة له لم يكن واجبا إنكاره عليهم ذلك وقوله : " لم خلعتم نعالكم " ، ولو كانت متابعته في فعله واجبة على الإطلاق لما أنكر ذلك >[13] .

الوجه الثاني : أنه وإن ظنوا وجوب المتابعة ، لكن لا من الفعل ، بل لقيام دليل أوجب عليهم ذلك وبيانه من وجهين :

الأول : أنه عليه السلام كان قد قال لهم " صلوا كما رأيتموني أصلي " ففهموا أن صلاته بيان لصلاتهم ، فلما رأوه قد خلع نعله تابعوه فيه لظنهم أن ذلك من هيئات الصلاة .

الثاني : أنهم كانوا مأمورين بأخذ زينتهم عند كل مسجد بقوله تعالى : ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) ، فلما رأوه قد خلع نعله ظنوا وجوبه وأنه لا يترك الأمر المسنون المأمور إلا لواجب . ، ونحن لا ننكر وجوب المتابعة عند قيام الدليل .

وعن الخبر الثاني ، أن فهمهم لوجوب متابعته في أفعال الحج إنما كان مستندا إلى قوله عليه السلام : " خذوا عني مناسككم " لا إلى فعله .

وعن الخبر الثالث ، أن الوصال للنبي عليه السلام لم يكن واجبا عليه ، بل غايته أنه كان مباحا له .

ووجوب المتابعة فيما أصله واجب ممتنع >[14] كما سبق ، بل ظنهم إنما كان مشاركته في إباحة الوصال ، ونحن نقول به ، وهذا هو الجواب عن الخبر الرابع .

[ ص: 183 ] وعن الخبر الخامس أنه لا دلالة له على وجوب بل الشعر في حقه عليه السلام ولا حق غيره .

ولعله أراد بذلك الكفاية في الكمال ، لا في الوجوب بل وجوب البل إنما هو مستفاد من قوله عليه السلام : " بلوا الشعر وأنقوا البشرة " >[15] .

وعن الخبر السادس من وجهين :

الأول : أن فعله وقع بيانا لقوله عليه السلام : " خذوا عني مناسككم " ولا نزاع في وجوب اتباع فعله إذا ورد بيانا لخطاب سابق ، بل هو أبلغ من دلالة القول المجرد عن الفعل ; لكون الفعل ينبئ عن المقصود عيانا ، بخلاف القول فإنه لا يدل عليه عيانا .

الثاني : أن وجوب التحلل وقع مستفادا من أمر النبي عليه السلام لهم بذلك غير أنهم كانوا يرتقبون إنجاز ما وعدهم الله به من الفتح والظهور على قريش في تلك السنة ، وأن ينسخ الله عنهم الأمر بالتحلل وأداء ما كانوا فيه من الحج >[16] .

فلما تحلل عليه السلام آيسوا من ذلك فتحللوا .

وعن الاحتجاج بالإجماع الأول لا نسلم أن وجوب الغسل من التقاء الختانين كان مستفادا من فعل رسول الله ، بل من قوله عليه السلام : " إذا التقى الختانان وجب الغسل " وسؤال عمر لعائشة إنما كان ليعلم أن فعل النبي هل وقع موافقا لأمره أم لا >[17] .

وعن الثاني أن تقبيل عمر الحجر غير واجب إنما كان مستفادا من فعل رسول الله المبين لقوله : " خذوا عني مناسككم " .

كيف وأن تقبيل الحجر غير واجب على النبي عليه السلام ولا على غيره ، بل غايته أن فعل النبي عليه السلام يدل على ترجيح فعله على تركه من غير وجوب .

وذلك مما لا ننكره ، ولا ننكر مشاركة الأمة له في ذلك >[18] .

[ ص: 184 ] وعن الشبهة الأولى من المعقول ، فقد قيل في دفعها إن الاحتياط إنما يمكن أن يقال به إذا خلا عن احتمال الضرر قطعا ، وفيما نحن فيه يحتمل أن يكون الفعل حراما على الأمة ، وهو غير صحيح ، فإنه لو غم الهلال ليلة الثلاثين من رمضان فإنه يحتمل أن يكون يوم الثلاثين منه يوم العيد ، واحتمل أن لا يكون يوم العيد .

ومع ذلك يجب صومه احتياطا للواجب وإن احتمل أن يكون حراما لكونه من يوم العيد .

والحق في ذلك أن يقال إنما يكون الاحتياط أولى لما ثبت وجوبه كالصلاة الفائتة من صلوات يوم وليلة ، أو كان الأصل وجوبه كما في صوم يوم الثلاثين من رمضان إذا كانت ليلته مغيمة .

وأما ما عساه أن يكون واجبا وغير واجب فلا .

وما نحن فيه كذلك حيث لم يتحقق وجوب الفعل ولا الأصل وجوبه .

وعن الشبهة الثانية : لا نسلم أن الإتيان بمثل ما يفعله العظيم يكون تعظيما له وأن تركه يكون إهانة له وحطا من قدره ، بل ربما كان تعاطي الأدنى لمساواته الأعلى في فعله حطا من منزلته وغضا من منصبه .

ولهذا يقبح من العبد الجلوس على سرير سيده في مرتبته ، والركوب على مركبه ولو فعل ذلك استحق اللوم والتوبيخ .

ثم لو كانت متابعة النبي في أفعاله موجبة لتعظيمه ، وترك المتابعة موجبة >[19] لإهانته لوجب متابعته عندنا إذا ترك بعض ما تعبدنا به من العبادات ، ولم يعلم سبب تركه وهو خلاف الإجماع >[20] .

وعن الشبهة الثالثة إنه لا يلزم من كون الفعل بيانا للقول أن يكون موجبا لما يوجبه القول .

ولهذا فإن الخطاب القولي يستدعي وجوب الجواب ، ولا كذلك الفعل .

وعن الشبهة الرابعة أن فعل النبي عليه السلام ، وإن كان حقا وصوابا بالنسبة إليه فلا يلزم أن يكون حقا وصوابا بالنسبة إلى أمته ، إلا أن يكون فعله مما يوجب مشاركتهم له في ذلك الفعل ، وهو محل النزاع >[21] .

[ ص: 185 ] وعن الشبهة الخامسة أنه وإن كان فعل الواجب أفضل مما ليس بواجب ، فلا يلزم أن يكون كل ما يفعله النبي عليه السلام واجبا .

ولهذا فإن فعله للمندوبات كان أغلب من فعله للواجبات ، بل فعله للمباحات كان أغلب من فعله للمندوبات .

وعند ذلك فليس حمل فعله على النادر من أفعاله أولى من حمله على الغالب منها وعن شبه القائلين بالندب .

أما الآية فجوابها مثل ما سبق في الاحتجاج بها على الوجوب .

وأما الشبهة العقلية ، فلا نسلم أن غالب فعله المندوبات بل المباح ، ولا نسلم أن المندوب داخل في الواجب على ما سبق تقريره >[22] .

وأما شبهة الإباحة ، فنحن قائلون بها في كل فعل لم يظهر من النبي عليه السلام قصد التقرب به ، وأما ما ظهر معه قصد التقرب به فيمتنع أن يكون مباحا بمعنى نفي الحرج عن فعله وتركه ، فإن مثل ذلك لا يتقرب به .

وذلك >[23] مما يجب حمله على ترجيح جانب الفعل على الترك على ما قررناه .

وأما الواقفية فإن أرادوا بالوقف أنا لا نحكم بإيجاب ولا ندب إلا أن يقوم الدليل على ذلك فهو الحق وهو عين ما قررناه ، وإن أرادوا به أن الثابت أحد هذه الأمور لكنا لا نعرفه بعينه فخطأ .

فإن ذلك يستدعي دليلا وقد بينا أنه لا دلالة للفعل على شيء سوى ترجيح الفعل على الترك عندما إذا ظهر من النبي عليه السلام قصد التقرب بفعله أو نفي الحرج مطلقا عندما إذا لم يظهر منه قصد القربة ، والأصل عدم دليل سوى الفعل ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية