الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
المسألة الثالثة

إذا فعل واحد بين يدي النبي عليه السلام فعلا أو في عصره ، وهو عالم به قادر على إنكاره ، فسكت عنه وقرره عليه من غير نكير عليه ، فلا يخلو : إما أن يكون النبي عليه السلام قد عرف قبح ذلك الفعل وتحريمه من قبل ، أو لم يكن كذلك .

فإن كان الأول ، فإما أن يكون قد علم إصرار ذلك الفاعل على فعله ، وعلم من النبي عليه السلام الإصرار على قبح ذلك الفعل وتحريمه كاختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم أو لم يكن كذلك .

فإن كان الأول ، فالسكوت عنه لا يدل على جوازه وإباحته إجماعا ولا يوهم كونه منسوخا .

وإن كان الثاني ، فالسكوت عنه وتقريره له إنكار يدل على نسخه [ ص: 189 ] عن ذلك الشخص .

وإلا لما ساغ السكوت حتى لا يتوهم أنه منسوخ عنه فيقع في المحذور ، وفيه تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو غير جائز بالإجماع إلا على رأي من يجوز التكليف بما لا يطاق .

وأما إن لم يكن النبي عليه السلام قد سبق منه النهي عن ذلك الفعل ولا عرف تحريمه ، فسكوته عن فاعله وتقريره له عليه ولا سيما إن وجد منه استبشار وثناء على الفاعل ، فإنه يدل على جوازه ورفع الحرج عنه وذلك لأنه لو لم يكن فعله جائزا لكان تقريره له عليه مع القدرة على إنكاره ، وكان استبشاره وثناؤه عليه حراما على النبي عليه السلام .

وهو وإن كان من الصغائر الجائزة على النبي عليه السلام عند قوم إلا أنه في غاية البعد لا سيما فيما يتعلق ببيان الأحكام الشرعية ، وإذا كان كذلك فالإنكار هو الغالب ، فحيث لم يوجد ذلك منه دل على الجواز غالبا .

فإن قيل : يحتمل أنه لم ينكر عليه : إما لعلمه بأنه لم يبلغه التحريم فلم يكن الفعل عليه حراما إذ ذاك أو ؛ لأنه علم بلوغ التحريم إليه ، ولم يرجع فيه وأصر على ما هو عليه أو لأنه منعه مانع من الإنكار .

قلنا : عدم بلوغ التحريم إليه غير مانع من الإنكار ، والإعلام بأن ذلك الفعل حرام بل الإعلام بالتحريم واجب ، حتى لا يعود إليه ثانيا وإلا كان السكوت مما يوهم : إما عدم دخوله في عموم التحريم أو النسخ ، وأما إذا علم ذلك الشخص التحريم وأصر على فعله مع كونه مسلما متبعا للنبي عليه السلام ، فلا بد من تجديد الإنكار حتى لا يتوهم نسخه .

ولا يلزم على هذا تجديد الإنكار على اختلاف أهل الذمة إلى كنائسهم إذ هم غير متبعين له ، ولا يعتقدون تحريم ذلك حتى يقال : يتوهم نسخ ذلك بسكوت النبي عليه السلام عن الإنكار عليهم .

وما ذكروه من احتمال المانع ، وإن كان قائما عقلا غير أن الأصل عدمه ، وهو في غاية البعد ولا سيما بعد ظهور شوكته واستيلائه وقهره لمن سواه .

التالي السابق


الخدمات العلمية