الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 191 ] المسألة الخامسة

إذا تعارض فعل النبي وقوله ، فإما أن يكون فعله لم يدل الدليل على تكرره في حقه ، ولا على تأسي الأمة به فيه أو دل .

فإن كان الأول فقوله إما أن يكون خاصا به أو بنا أو هو عام له ولنا .

فإن كان خاصا به ، فإما أن يعلم تقدم أحدهما أو يجهل التاريخ فإن علم تقدم أحدهما وتأخر الآخر ، فإما أن يكون المتقدم هو الفعل أو القول .

فإن كان المتقدم هو الفعل مثل أن يفعل فعلا في وقت ، ويقول بعده إما على الفور أو التراخي : لا يجوز لي مثل هذا الفعل في مثل هذا الوقت ، فلا تعارض بينهما ؛ لأن القول لم يرفع حكم ما تقدم من الفعل في الماضي ولا في المستقبل ; لأن الفعل غير مقتض للتكرار على ما وقع به الغرض ، وقد أمكن الجمع بين حكم القول والفعل .

وإن كان المتقدم هو القول مثل أن يقول : الفعل الفلاني واجب علي في الوقت الفلاني ثم يتلبس بضده في ذلك الوقت ، فمن جوز نسخ الحكم قبل التمكن من الامتثال ، قال : إن الفعل ناسخ لحكم القول .

ومن لم يجوز ذلك منع كون الفعل رافعا لحكم القول ، وقال : لا يتصور وجود مثل ذلك الفعل مع العمد إن لم نجوز على النبي عليه السلام ، وإلا فهو معصية .

وأما إن كان قوله خاصا بنا فلا تعارض أيضا لعدم اجتماعهما في محل واحد من جهة واحدة ، وأما إن كان قوله عاما لنا وله فإن كان الفعل متقدما فلا معارضة أيضا بين قوله وفعله .

أما بالنسبة إليه عليه السلام فلما تقدم فيما إذا كان قوله خاصا به .

وأما >[1] إلينا فلأن فعله غير متعلق بنا على ما وقع به الغرض ، وإن كان القول هو المتقدم ، فالحكم في التعارض بين قوله وفعله بالنسبة إليه كما تقدم أيضا فيما إذا كان قوله خاصا به ، ولا معارضة بالنسبة إلينا لعدم توارد قوله وفعله علينا على ما وقع به الغرض ، هذا كله فيما إذا لم يدل الدليل على تكرر ذلك الفعل في حقه ولا تأسي الأمة به .

وأما إن دل الدليل على تكرره في حقه وعلى تأسي الأمة به ، أو على تكرره في حقه دون تأسي الأمة به ، أو على تأسي الأمة به دون تكرره في حقه ، فالحكم مختلف في هذه الصور .

[ ص: 192 ] فإن دل الدليل على تكرره في حقه ، وعلى تأسي الأمة به فلا يخلو قوله إما أن يكون خاصا به أو بنا ، أو هو عام له ولنا ، فإن كان قوله خاصا به فإما أن يعلم تقدم الفعل أو القول أو يجهل التاريخ ، فإن علم تقدم الفعل فالقول المتأخر يكون ناسخا لحكم الفعل في حقه في المستقبل دون أمته لعدم تناول القول لهم .

وإن كان القول هو المتقدم ، ففعله يكون ناسخا لحكم القول في حقه أن كان بعد التمكن من الامتثال أو قبله ، على رأي من يجوزه وموجبا للفعل على أمته .

وأما إن جهل التاريخ فلا معارضة بين فعله وقوله بالنسبة إلى الأمة لعدم تناول قوله لهم .

وأما بالنسبة إليه فقد اختلف فيه ، فمنهم من قال بوجوب العمل ، ومنهم من قال بالعكس ، ومنهم من أوجب المعارضة والوقف إلى حين قيام دليل التاريخ ، والمختار إنما هو العمل لوجوه أربعة :

الأول : أن القول يدل بنفسه من غير واسطة ، والفعل إنما يدل على الجواز بواسطة أن النبي عليه السلام لا يفعل المحرم ، وذلك مما يتوقف على الدلائل الغامضة البعيدة .

الثاني : أن القول مما يمكن التعبير به عما ليس بمحسوس كالمعقولات الصرفة ، وعن المحسوس ، والفعل لا ينبئ عن غير محسوس ، فكانت دلالة القول أقوى وأتم .

الثالث : أن القول قابل للتأكيد بقول آخر ولا كذلك الفعل ، فكان القول لذلك أولى .

الرابع : أن العمل هاهنا مما يفضي إلى نسخ مقتضى الفعل في حق النبي عليه السلام دون الأمة ، والعمل بالفعل يفضي إلى إبطال مقتضى القول بالكلية ، فكان الجمع بينهما ولو من وجه أولى .

فإن قيل : بل الفعل آكد ; في الدلالة فإنه يبين به القول ، والمبين للشيء آكد في الدلالة من ذلك الشيء .

وبيانه أن جبريل عليه السلام بين للنبي عليه السلام كيفية الصلاة المأمور بها وبين مواقيتها حيث صلى به في اليومين ، وقال : " يا محمد الوقت ما بين هذين " والنبي عليه السلام بين الصلاة للأمة بفعله ، حيث قال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وبين المراد من قوله تعالى : ( ولله على الناس حج البيت ) بفعله حيث قال : " خذوا عني مناسككم " ، وقال للذي سأله عن مواقيت الصلاة : " صل معنا " ، وبين الشهر بأصابعه حيث قال : " إنما الشهر هكذا وهكذا " .

[ ص: 193 ] وأيضا فإن كل من رام تعليم غيره إذا أراد المبالغة في إيصال معنى ما يقوله إلى فهمه استعان في ذلك بالإشارة بيده والتخطيط وتشكيل الأشكال ، ولولا أن الفعل أدل لما كان كذلك .

قلنا : غاية ما ذكرتموه وجود البيان بالفعل ، وكما وجد البيان بالفعل فقد وجد أغلب من البيان بالفعل .

فإن أكثر الأحكام مستندها إنما هو الأقوال دون الأفعال ، وغايته أنهما يتساويان في ذلك ويبقى ما ذكرناه من الترجيحات الأولى بحالها ، هذا كله إذا كان قوله خاصا به ، وأما إن كان قوله خاصا بنا دونه : فإما أن يعلم تقدم الفعل ، أو القول أو يجهل التاريخ .

فإن علم تقدم الفعل ; فالقول المتأخر يكون ناسخا للحكم في حقنا دونه ، وإن كان القول هو المتقدم فالحكم في كون الفعل ناسخا لحكم القول في حقنا دون النبي فكما ذكرناه فيما إذا كان القول خاصا به .

وأما إن جهل التاريخ فالخلاف كالخلاف فيما إذا كان القول خاصا به ، والمختار إنما هو العمل لما علم .

وأما إن كان القول عاما له ولنا فأيهما تأخر كان ناسخا لحكم المتقدم في حقه وحقنا على ما ذكرناه من التفصيل في التعقيب والتراخي .

وإن جهل التاريخ فالخلاف كالخلاف ، والمختار كالمختار .

وهذا كله فيما إذا دل الدليل على تكرر الفعل في حقه وعلى تأسي الأمة به .

وأما إن دل الدليل على تكرره في حقه دون تأسي الأمة به ، فالقول إن كان خاصا بالأمة ، فلا تعارض لعدم المزاحمة بينهما .

وإن كان خاصا بالنبي أو هو عام له وللأمة ، فالتعارض بين القول والفعل إنما يتحقق بالنسبة إليه دون أمته ; لعدم قيام الدليل على تأسي الأمة به في فعله ولا يخفى الحكم سواء تقدم الفعل أو تأخر أو جهل التاريخ .

[ ص: 194 ] وأما إن دل الدليل على تأسي الأمة به في فعله دون تكرره في حقه ، فالقول إن كان خاصا به ، فإن كان متأخرا عن الفعل فلا معارضة لا في حقه ولا في حق أمته ، وإن كان متقدما فالفعل المتأخر عنه يكون ناسخا لحكم القول في حقه على ما ذكرناه من التفصيل دون أمته .

وإن جهل التاريخ فالخلاف على ما تقدم .

وإن كان القول خاصا بأمته فلا معارضة بين القول والفعل بالنسبة إلى النبي عليه السلام ، لعدم المزاحمة .

وأما إن تحققت المعارضة بين القول والفعل بالنسبة إلى الأمة فأيهما كان متأخرا فهو محمود ، وإن جهل التاريخ فالخلاف على ما سبق وكذلك المختار .

وإن كان القول عاما له ولأمته ، فإن تقدم الفعل ، فالقول المتأخر لا معارضة بينه وبين الفعل في حق النبي عليه السلام ، وإنما هو ناسخ لحكم الفعل في حق الأمة .

وإن تقدم القول فالفعل ناسخ لحكم القول في حق النبي والأمة ، وإن جهل التاريخ ، فالخلاف كالخلاف والمختار كالمختار ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية