الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
وقوله عليه السلام : " بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ " >[1] لا يدل على أنه لا يبقى من تقوم الحجة بقوله بل غايته أن أهل الإسلام هم الأقلون .

وقوله : " لا ترجعوا بعدي كفارا " >[2] ، فيحتمل أنه مع جماعة معينين وإن كان خطابا مع الكل فجوابه ما سبق في آيات المناهي للأمة .

وقوله : " حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا " >[3] الحديث إلى آخره غايته الدلالة على جواز انقراض العلماء ، ونحن لا ننكر امتناع وجود الإجماع مع انقراض العلماء وإنما الكلام في اجتماع من كان من العلماء ، وعلى هذا يكون الجواب عن باقي الأحاديث الدالة على خلو آخر الزمان من العلماء .

كيف وأن ما ذكروه معارض بما يدل على امتناع خلو عصر من الأعصار عمن تقوم الحجة بقوله ، وهو قوله عليه السلام : " لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال " .

وأيضا ما روي أنه قال : " واشوقاه إلى إخواني ، قالوا : يا رسول الله ألسنا إخوانك ، فقال : أنتم أصحابي ، إخواني قوم يأتون من بعدي يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ويصلحون إذا فسد الناس " .

وما ذكروه من المعقول في المسألتين السابقتين ، فقد سبق جوابه .

[ ص: 211 ] قولهم : إنها أمة من الأمم فلا يكون إجماعهم حجة كغيرهم من الأمم ، فقد ذهب أبو إسحاق الإسفرايني ، وغيره من أصحابنا وجماعة من العلماء إلى أن إجماع علماء من تقدم من الملل أيضا حجة قبل النسخ .

وإن سلمنا أنه ليس بحجة فلأنه لم يرد في حقهم من الدلالة الدالة على الاحتجاج بإجماعهم ما ورد في علماء هذه الأمة فافترقا .

وأما الحجة الأخيرة فلا نسلم أنه إذا كان الحكم ثبت بالدليل لا يجوز إثباته بالإجماع ، وأما التوحيد فلا نسلم أن الإجماع فيه ليس بحجة وإن سلمنا أنه لا يكون حجة فيه ، بل في الأحكام الشرعية لا غير ، غير أن الفرق بينهما أن التوحيد لا يجوز فيه تقليد العامي للعالم ، وإنما يرجع إلى أدلة يشترك فيها الكل وهي أدلة العقل بخلاف الأحكام الشرعية فإنه يجب على العامي الأخذ بقول العالم فيها .

وإذا جاز أو وجب الأخذ بقول الواحد كان الأخذ بقول الجماعة أولى >[4] .

الآية الثانية قوله تعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) وصف الأمة بكونهم وسطا ، والوسط هو العدل ، ويدل عليه النص واللغة .

أما النص فقوله تعالى : ( قال أوسطهم ألم أقل لكم ) أعدلهم ، وقال عليه السلام : " خير الأمور أوساطها " .

وأما اللغة فقول الشاعر :


هم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

>[5] أي عدول .

[ ص: 212 ] ووجه الاحتجاج بالآية أنه عدلهم وجعلهم حجة على الناس في قبول أقوالهم كما جعل الرسول حجة علينا في قبول قوله علينا ، ولا معنى لكون الإجماع حجة سوى كون أقوالهم حجة على غيرهم ، فإن قيل : إنما وصفهم بالعدالة ليكونوا شهداء في الآخرة على الناس بتبليغ الأنبياء إليهم الرسالة ، وذلك يقتضي عدالتهم وقبول شهادتهم في يوم القيامة حالة ما يشهدون دون حالة التحمل في الدنيا .

سلمنا أنه وصفهم بذلك في الدنيا ، ولكن ليس في قوله : ( لتكونوا شهداء على الناس ) لفظ عموم يدل على قبول شهادتهم في كل شيء بل هو مطلق في المشهود به ، وهو غير معين فكانت الآية مجملة ولا حجة في المجمل .

سلمنا أنها ليست مجملة ، ولكنا قد عملنا بها في قبول شهادتهم على من بعدهم بإيجاب النبي عليه السلام العبادات عليهم وتكليفهم بما كلفهم به فلا يبقى حجة في غيره لتوفية العمل بدلالة الآية .

سلمنا قبول شهادتهم في كل شيء غير أن الآية تدل على عدالة كل واحد من الأمة وقبول شهادته ، وهو مخصص بالإجماع بالفساق ، والنساء والصبيان والمجانين ، والعام بعد التخصيص ، لا يبقى حجة على ما سيأتي .

( لكن ليس في ذلك ما يدل ، سلمنا أنها تبقى حجة بعد التخصيص على عدالتهم وعصمتهم عن الخطأ باطنا ) >[6] بل ظاهرا فإن ذلك كان في قبول الشهادة .

سلمنا أن ذلك يدل على عصمتهم عن الخطأ مطلقا لكن فيما يشهدون به لا فيما يحكمون به من الأحكام الشرعية بطريق الاجتهاد ، فإن ذلك ليس من باب الشهادة في شيء وهو محل النزاع .

سلمنا قبول قولهم مطلقا ، غير أن الخطاب إما أن يكون مع جميع أمة محمد إلى يوم القيامة ، وإما مع الموجودين في وقت الخطاب .

فإن كان الأول ، فلا حجة في إجماع كل عصر إذ ليسوا كل الأمة .

[ ص: 213 ] وإن كان الثاني ، فلا يكون إجماع من بعدهم حجة ، وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس بحجة في زمن الوحي بالإجماع وإنما يكون حجة بعد النبي عليه السلام ، وذلك يتوقف على بقاء كل من كان من المخاطبين بذلك في زمن النبي بعد النبي ، وأن يعرف مقاله كل واحد فيما ذهب إليه وهو متعذر جدا .

والجواب عن السؤال الأول أن وصف أمة محمد بالعدالة إنما كان في معرض الامتنان والإنعام عليهم وتعظيم شأنهم .

وذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما ، لا جائز أن يكون في الآخرة لا غير ، لوجهين :

الأول : أن جميع الأمم عدول يوم القيامة ، بل معصومون عن الخطأ لاستحالة ذلك منهم >[7] ، وفيه إبطال فائدة التخصيص .

الثاني : أنه لو كان كذلك لقال سنجعلكم عدولا ، لا أن يقول جعلناكم ، وإن كان القسم الثاني والثالث فهو المطلوب .

وعن الثاني من وجهين :

الأول : أنه يجب اعتقاد العموم في قبول الشهادة نفيا للإجمال عن الكلام .

الثاني : أن الاحتجاج ليس في قوله : ( لتكونوا شهداء على الناس ) بل في وصفهم بالعدالة ، ومهما كانوا عدولا وجب قبول قولهم في كل شيء وبه يخرج الجواب عن السؤال الثالث .

وأما الرابع : فجوابه أن الآية تدل على وصف جملة الأمة بالعدالة ومقتضى ذلك عدالتهم فيما يقولونه جملة وآحادا غير أنا خالفناه في بعض الآحاد فتبقى الآية حجة في عدالتهم فيما يقولونه جملة وهو المطلوب .

[ ص: 214 ] قولهم : العام بعد التخصيص لا يبقى حجة سنبطله فيما يأتي >[8] .

وأما السؤال الخامس ، فجوابه أن الله تعالى أخبر عنهم بكونهم عدولا والأصل أن يكون كذلك حقيقة في نفس الأمر لكونه عالما بالخفيات فإن الحكيم إذا علم من حال شخص أنه غير عدل في نفس الأمر لا يخبر عنه بأنه عدل .

وجواب السادس ، أنه إذا ثبت وصفهم بالعدالة في نفس الأمر فيما يخبرون به مما يرونه من الأحكام الشرعية يجب صدقهم فيه وإلا لما كانوا عدولا في نفس الأمر ، وإذا كانوا صادقين فيه فهو صواب لكونه حسنا فهو حسن عند الله لقوله عليه السلام : " ما رآه المسلمون حسنا فهو حسن عند الله " >[9] وإذا كان صوابا كان خلافه خطأ وهو المطلوب .

وجواب السابع ، أنه لا سبيل إلى حمل لفظ الأمة على كل من آمن بالرسول إلى يوم القيامة ، لما سبق في الآية الأولى ولا على من كان موجودا في زمن النبي عليه السلام ; لأن أقوالهم غير محتج بها في زمنه ولا وجود لهم بعد وفاته ، فإن كثيرا منهم مات بعد الخطاب بهذه الآية قبل وفاة النبي عليه السلام فلا يبقى لقوله تعالى : ( لتكونوا شهداء على الناس ) فائدة ، فيجب حمله على أهل كل عصر تحقيقا لفائدة كونهم شهداء >[10] .

التالي السابق


الخدمات العلمية