الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
المسألة الثامنة

اختلفوا في انعقاد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل ، فذهب الأكثرون إلى أنه لا ينعقد ، وذهب محمد بن جرير الطبري ، وأبو بكر الرازي ، وأبو الحسين الخياط من المعتزلة وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه إلى انعقاده .

وذهب قوم إلى أن عدد الأقل إن بلغ التواتر لم يعتد بالإجماع دونه وإلا كان معتدا به .

وقال أبو عبد الله الجرجاني : إن سوغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف كان خلافه معتدا به كخلاف ابن عباس في مسألة العول ، وإن أنكرت الجماعة عليه ذلك كخلاف ابن عباس في المتعة والمنع من تحريم ربا الفضل لم يكن خلافه معتدا به .

ومنهم من قال : إن قول الأكثر يكون حجة وليس بإجماع ، ومنهم من قال : إن اتباع الأكثر أولى وإن جاز خلافه ، والمختار مذهب الأكثرين ، ويدل عليه أمران :

الأول : أن التمسك في إثبات الإجماع حجة إنما هو بالأخبار الواردة في السنة الدالة على عصمة الأمة على ما سبق تقريره ، وعند ذلك ، فلفظ ( الأمة ) في الأخبار يحتمل أنه أراد به كل الموجودين ، من المسلمين في أي عصر كان .

ويحتمل أنه أراد به الأكثر كما يقال : بنو تميم يحمون الجار ويكرمون الضيف ، والمراد به الأكثر منهم ، غير أن حمله على الجميع مما يوجب العمل بالإجماع [ ص: 236 ] قطعا لدخول العدد الأكثر في الكل ، ولا كذلك إذا حمل على الأكثر فإنه لا يكون الإجماع مقطوعا به لاحتمال إرادة الكل ، والأكثر ليس هو الكل .

الثاني : أنه قد جرى مثل ذلك في زمن الصحابة ولم ينكر أحد منهم على خلاف الواحد ، بل سوغوا له الاجتهاد فيما ذهب إليه مع مخالفة الأكثر ، ولو كان إجماع الأكثر حجة ملزمة للغير الأخذ به لما كان كذلك ، فمن ذلك اتفاق أكثر الصحابة على امتناع قتال مانعي الزكاة مع خلاف أبي بكر لهم ، وكذلك خلاف أكثر الصحابة لما انفرد به ابن عباس في مسألة العول وتحليل المتعة وأنه لا ربا إلا في النسيئة .

وكذلك خلافهم لابن مسعود فيما انفرد به في مسائل الفرائض ، ولزيد بن أرقم في مسألة العينة ، ولأبي موسى في قوله : النوم لا ينقض الوضوء ، ولأبي طلحة في قوله بأن أكل البرد لا يفطر ، إلى غير ذلك .

ولو كان إجماع الأكثر حجة ، لبادروا بالإنكار والتخطئة وما وجد منهم من الإنكار في هذه الصور لم يكن إنكار تخطئة ، بل إنكار مناظرة في المأخذ كما جرت عادة المجتهدين بعضهم مع بعض ، ولذلك بقي الخلاف الذي ذهب إليه الأقلون جائزا إلى وقتنا هذا ، وربما كان ما ذهب إليه الأقل هو المعول عليه الآن كقتال مانعي الزكاة ، ولو كان ذلك مخالفا للإجماع المقطوع به لما كان ذلك سائغا .

وقد تمسك بعضهم هاهنا بطريقة أخرى ، فقال إنه لو انعقد إجماع الأكثر مع مخالفة الأقل فإما أن ينعقد الإجماع عليه ، فيلزم منه ترك ما علمه بالدليل ، والرجوع إلى التقليد وذلك في حق المجتهد ممتنع ، وإن لم ينعقد الإجماع عليه فلا يكون الإجماع حجة مقطوعا بها فإنه لو كان مقطوعا به لما ساغت مخالفته بالاجتهاد ، ولقائل أن يقول : إذا فرضنا أن انعقاد الإجماع من الأكثر دون الأقل حجة قاطعة ، فالقول برجوع الواحد إليه ، وإن كان على خلاف ما أوجبه اجتهاده ، لا يكون منكرا لما فيه من ترك الاجتهاد بالرجوع إلى الإجماع القاطع .

ولهذا فإنه لو أجمعت الأمة على حكم ثم جاء من بعدهم مجتهد يرى في اجتهاده ما يخالف إجماع الأمة السابقة ، لم يجز له الحكم به ، بل وجب عليه الرجوع إلى الأمة >[1] .

[ ص: 237 ] احتج المخالفون بالنصوص والإجماع والمعقول .

أما من جهة النصوص فمنها ما ورد من الأخبار الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ ، ولفظ ( الأمة ) يصح إطلاقه على أهل العصر وإن شذ منهم الواحد والاثنان كما يقال : بنو تميم يحمون الجار ، ويكرمون الضيف ، والمراد به الأكثر ، فكان إجماعهم حجة لدلالة النصوص عليه .

ومنها قوله عليه السلام : " عليكم بالسواد الأعظم عليكم بالجماعة يد الله مع الجماعة إياكم والشذوذ " ، والواحد والاثنان بالنسبة إلى الخلق الكثير شذوذ .

( الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد ) ونحو ذلك من الأخبار .

وأما الإجماع فهو أن الأمة اعتمدت في خلافة أبي بكر على انعقاد الإجماع عليه لما اتفق عليه الأكثرون وإن خالف في ذلك جماعة كعلي وسعد بن عبادة ، ولولا أن إجماع الأكثر حجة مع مخالفة الأقل ، لما كانت إمامة أبي بكر ثابتة بالإجماع ، وأما من جهة المعقول فمن خمسة أوجه :

الأول : أن خبر الواحد بأمر لا يفيد العلم ، وخبر الجماعة إذا بلغ عددهم عدد التواتر يفيد العلم ، فليكن مثله في باب الاجتهاد والإجماع .

الثاني : أن الكثرة يحصل بها الترجيح في رواية الخبر ، فليكن مثله في الاجتهاد .

الثالث : أنه لو اعتبرت مخالفة الواحد والاثنين لما انعقد الإجماع أصلا ; لأنه ما من إجماع إلا ويمكن مخالفة الواحد والاثنين فيه إما سرا وإما علانية .

الرابع : أن الإجماع حجة في العصر الذي هم فيه وفيما بعد ، وذلك يقتضي أن يكون فيهم مخالف حتى يكون حجة عليه .

الخامس : أن الصحابة أنكرت على ابن عباس خلافه في ربا الفضل في النقود وتحليل المتعة والعول ، ولولا أن اتفاق الأكثر حجة لما أنكروا عليه ، فإنه ليس للمجتهد الإنكار على المجتهد .

والجواب قولهم : لفظ ( الأمة ) يصح إطلاقه على الأكثر .

[ ص: 238 ] قلنا بطريق المجاز ، ولهذا يصح أن يقال : إذا شذ عن الجماعة واحد ليس هم كل الأمة ولا كل المؤمنين بخلاف ما إذا لم يشذ منهم أحد ، وعلى هذا فيجب حمل لفظ ( الأمة ) على الكل لكون الحجة فيه قطعية لما بيناه في حجتنا .

وعلى هذا فيجب حمل قوله عليه السلام : " عليكم بالسواد الأعظم >[2] " على جميع أهل العصر ; لأنه لا أعظم منه .

فإن قيل : فظاهر هذا الخبر يقتضي أن يكون السواد الأعظم حجة على من ليس الأعظم وذلك لا يتم إلا بأن يكون في عصرهم مخالف لهم .

قلنا : هو حجة على من يأتي بعدهم أقل عددا منهم ، وعلى هذا يكون الجواب عن قوله : " عليكم بالجماعة ، يد الله على الجماعة " وحيث قال عليه السلام : " الاثنان فما فوقهما جماعة " ، إنما أراد به انعقاد جماعة الصلاة بهما ، وقوله : " إياكم والشذوذ " .

قلنا : الشاذ هو المخالف بعد الموافقة لا من خالف قبل الموافقة ، وقوله : " الشيطان مع الواحد وهو عن الاثنين أبعد " أراد به الحث على طلب الرفيق في الطريق ، ولهذا قال " والثلاثة ركب " .

وما ذكروه في عقد الإمامة لأبي بكر ، فلا نسلم أن الإجماع معتبر في انعقاد الإمامة ، بل البيعة بمحضر من عدلين كافية .

كيف وإنا لا نسلم عدم انعقاد إجماع الكل على بيعة أبي بكر ، فإن كل من تأخر عن البيعة إنما تأخر لعذر أو طرء أمر مع ظهور الموافقة منه بعد ذلك ، وقد استقصينا الكلام في هذا المعنى في الإمامة من علم الكلام .

والجواب عن الحجة الأولى من المعقول أنه إن كان صدق الأكثر فيما يخبرون به عن أمر محسوس مفيد للعلم ، فلا يلزم مثله في الإجماع الصادر عن الاجتهاد مع أن الاحتجاج فيه إنما هو بقول الأمة ، والأكثر ليس هم كل الأمة على ما سبق .

ثم لو كان كل من أفاد خبره اليقين يكون قوله إجماعا محتجا به لوجب أن يكون إجماع كل أهل بلد محتجا به مع مخالفة أهل البلد الآخر لهم ; لأن خبر أهل كل بلد يفيد العلم .

[ ص: 239 ] وعن الثانية أنه لا يلزم من الترجيح بالكثرة في الرواية التي يطلب منها غلبة الظن دون اليقين مثله في الإجماع ، مع كونه يقينيا ، كيف وإنه لو اعتبر في الإجماع ما يعتبر في الرواية لكان مصير الواحد إلى الحكم وحده إجماعا كما أن روايته وحده مقبولة ، وليس كذلك .

وعن الثالثة : أن الاحتجاج بالإجماع إنما يكون حيث علم الاتفاق من الكل إما بصريح المقال أو قرائن الأحوال ، وذلك ممكن حسب إمكان العلم باتفاق الأكثر ، وأما حيث لا يعلم فلا .

وإن قيل : إن ذلك غير ممكن ، فمثله أيضا جار في الأكثر ، ويلزم من ذلك أن لا ينعقد الإجماع أصلا ، وهو خلاف الأصلين >[3]

وعن الرابعة : أنه يكون حجة على من خالف منهم بعد الوفاق في زمنهم ، وعلى من يوجد بعدهم ، ثم إن كان الإجماع لا يكون حجة إلا مع الخلاف ، فيلزم منه أنه إذا لم يكن خلاف لا يكون إجماع ، وهو ظاهر الإحالة .

وعن الخامسة : أن إنكار الصحابة على ابن عباس فيما ذهب إليه لم يكن بناء على إجماعهم واجتهادهم ، بل بناء على مخالفة ما رووه له من الأخبار الدالة على تحريم ربا الفضل ونسخ المتعة على ما جرت به عادة المجتهدين في مناظراتهم ، والإنكار على مخالفة ما ظهر لهم من الدليل حتى يبين لهم المأخذ من جانب الخصم ، وذلك كما قال ابن عباس : من شاء باهلني باهلته ، والذي أحصى رمل عالج عددا ما جعل الله في الفريضة نصفا ونصفا وثلثا ، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث ، وقال آخر : ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا ، وليس ذلك لأن العود إلى قوله واجب على من خالفه بل بمعنى طلب الكشف عن مأخذ المخالفة .

وإذا عرف أنه لا يكون اتفاق الأكثر إجماعا ، فيمتنع أن يكون حجة لخروجه عن الأدلة المتفق عليها .

وهي النص من الكتاب والسنة ، وإجماع الأمة ، والقياس ، وعدم دليل يدل على صحة الاحتجاج به ، ولذلك لا يكون أولى بالاتباع ; لأن الترجيح بالكثرة وإن كان حقا في باب رواية الأخبار لما فيه من ظهور أحد الظنين على الآخر ، فلا يلزم مثله في باب الاجتهاد لما فيه من ترك ما ظهر له من الدليل لما لم يظهر له فيه دليل ، أو ظهر غير أنه مرجوح في نظره .

التالي السابق


الخدمات العلمية