الإحكام في أصول الأحكام

الآمدي - علي بن محمد الآمدي

صفحة جزء
[ ص: 240 ] المسألة التاسعة

اختلفوا في التابعي إذا كان من أهل الاجتهاد في عصر الصحابة هل ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته أم لا .

فمنهم من قال : لا ينعقد بإجماعهم مع مخالفته ثم اختلف هؤلاء .

فمن لم يشترط انقراض العصر قال : إن كان من أهل الاجتهاد قبل انعقاد إجماع الصحابة ; فلا يعتد بإجماعهم مع مخالفته ، وإن بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد إجماع الصحابة لا يعتد بخلافه ، وهذا هو مذهب أصحاب الشافعي وأكثر المتكلمين وأصحاب أبي حنيفة ، ومذهب أحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه .

ومن شرط انقراض العصر ، قال لا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته ، سواء كان من أهل الاجتهاد حالة إجماعهم أو صار مجتهدا بعد إجماعهم لكن في عصرهم .

وذهب قوم إلى أنه لا عبرة بمخالفته أصلا ، وهو مذهب بعض المتكلمين ، وأحمد بن حنبل في رواية .

والمختار أنه إن كان من أهل الاجتهاد حالة إجماع الصحابة لا ينعقد إجماعهم دون موافقته .

وقد استدل كثير من أصحابنا بقولهم إن الصحابة سوغت للتابعين المعاصرين لهم الاجتهاد معهم في الوقائع الحادثة في عصرهم ، كسعيد بن المسيب ، وشريح القاضي ، والحسن البصري ، ومسروق ، وأبي وائل ، والشعبي ، وسعيد بن جبير وغيرهم ، حتى إن عمر وعليا وليا شريحا القضاء ولم يعترضا عليه فيما خالفهما فيه وحكم على علي في خصومة عرضت له عنده على خلاف رأي علي ، ولم ينكر عليه ، وروي عن ابن عمر أنه سئل عن فريضة ، فقال : اسألوا سعيد بن جبير فإنه أعلم بها مني .

وسئل الحسين بن علي كرم الله وجهه عن مسألة ، فقال : اسألوا الحسن البصري ، وسئل ابن عباس عن نذر ذبح الولد ، فقال : اسألوا مسروقا ، فلما أتاه السائل بجوابه اتبعه .

وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال : تذاكرت أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها ، فقال ابن عباس : عدتها أبعد الأجلين ، وقلت أنا : عدتها أن تضع حملها ، وقال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي ، فسوغ ابن عباس لأبي سلمة أن يخالفه مع أبي هريرة ، إلى غير ذلك من الوقائع .

[ ص: 241 ] ولو كان قول التابعي باطلا لما ساغ للصحابة تجويزه والرجوع إليه ، وفي هذه الحجة نظر فإن لقائل أن يقول إنما كان الاجتهاد مسوغا للتابعي عند اختلاف الصحابة ولا يلزم من الاعتداد بقوله مع الاختلاف الاعتداد بقوله مع الاتفاق ، وهو محل النزاع .

ولهذا فإن قول التابعي معتبر بعد انقراض عصر الصحابة إذا لم يكن منهم اتفاق ، وغير معتبر إذا كان على خلاف اتفاقهم .

والمعتمد في ذلك أن يقال : الأدلة الدالة على كون الإجماع حجة إنما هي الأخبار الدالة على عصمة الأمة عن الخطأ على ما سبق ، وهذا الاسم لا يصدق عليهم مع خروج التابعين المجتهدين عنهم ، فإنه لا يقال إجماع جميع الأمة بل إجماع بعضهم فلا يكون حجة .

احتج الخصوم بالنص والمعقول والآثار .

أما النص فقوله عليه السلام : " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " ، وقوله : " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " ، وقوله : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " .

وأما المعقول فهو أن الصحابة لهم مزية الصحبة وشهادة التنزيل وسماع التأويل وأنهم مرضي عنهم على ما قال تعالى : ( لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة ) ، وقد قال النبي في حقهم : لو أنفق غيرهم >[1] ملء الأرض ذهبا لما بلغ مد أحدهم ، وذلك يدل على أن الحق معهم لا مع مخالفهم .

وأما الآثار فمنها أن عليا عليه السلام نقض على شريح حكمه في ابني عم أحدهما أخ لأم ، لما جعل المال كله للأخ .

ومنها ما روي عن عائشة أنها أنكرت على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مجاراته للصحابة ، وكلامه فيما بينهم وزجرته عن ذلك ، وقالت : " فروج يصيح مع الديكة " .

والجواب عن النصوص ما سبق في مسألة انعقاد إجماع غير الصحابة .

[ ص: 242 ] وعن المعقول قولهم إن الصحابة لهم مزية الصحبة والفضيلة والدرجة الرفيعة .

قلنا : لو كان ذلك مما يوجب اختصاص الإجماع بهم لما اعتبر قول الأنصار مع المهاجرين ، ولا قول المهاجرين مع قول العشرة ، ولا قول باقي العشرة مع قول الخلفاء الأربعة ، ولا قول عثمان وعلي مع قول أبي بكر وعمر ، ولا قول غير الأهل مع الأهل ولا الزوجات مع الزوجات لوقوع التفاوت والتفاضل ، ولم يقل به قائل .

وعن الآثار ، أما نقض علي على شريح حكمه ; فليس لأن قوله غير معتبر .

ولهذا فإنه لما حكم عليه في مخاصمته بخلاف رأيه لم ينكر عليه ، وإنما نقض حكمه بمعنى أنه رد عليه بطريق الاستدلال والاعتراض كما يقال : نقض فلان كتاب فلان وكلامه إذا اعترض عليه ، ويحتمل أنه نقضه بنص اطلع عليه أوجب نقض حكمه .

وأما إنكار عائشة على أبي سلمة فيحتمل أنه كان ذلك بخلافه فيما سبق فيه إجماع الصحابة ؛ أو لأنه لم يكن قد بلغ رتبة الاجتهاد أو بطريق التأديب مع الصحابة ، أو لأنها رأت ذلك مذهبا لها فلا حجة فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية