صفحة جزء
116 - فصل : إذا ثبتت صحة نكاحهم فهاهنا مسائل :

المسألة الأولى : إذا أسلم الزوجان ، أو أحدهما ، فإن كانت المرأة كتابية لم يؤثر إسلامه في فسخ النكاح ، وكان بقاؤه كابتدائه ، وإن كانت غير كتابية ، وأسلم الزوجان معا ، فهما على النكاح سواء قبل الدخول وبعده ، وليس بين أهل العلم في هذا اختلاف .

قال ابن عبد البر : " أجمع العلماء على أن الزوجين إذا أسلما معا في حالة واحدة أن لهما المقام على نكاحهما ما لم يكن بينهما نسب ولا رضاع " .

[ ص: 641 ] وقد أسلم خلق في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - ونساؤهم ، وأقروا على أنكحتهم ، ولم يسألهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شروط النكاح ، ولا عن كيفيته ، وهذا أمر علم بالتواتر ، والضرورة ، فكان يقينا .

ثم قال كثير من الفقهاء : المعتبر أن يتلفظا بالإسلام تلفظا واحدا ، يكون ابتداء أحدهما مع ابتداء صاحبه ، وانتهاؤه مع انتهائه .

والصواب أن هذا غير معتبر ، ولم يدل على ذلك كتاب ولا سنة ، ولا اشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك قط ، ولا اعتبره في واقعة واحدة مع كثرة من أسلم في حياته - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يقل يوما واحدا لرجل أسلم هو وامرأته : " تلفظا بالإسلام تلفظا واحدا لا يسبق أحدكما الآخر " ، وهل هذا إلا من التكلف الذي ألغته الشريعة ولم تعتبره ؟ وليس لهذا نظير في الشريعة ، بل إذا أسلما في المجلس الواحد فقد اجتمعا على الإسلام ، ولا يؤثر سبق أحدهما الآخر بالتلفظ به . وهذا اختيار شيخنا .

وإن أسلم أحدهما ، ثم أسلم الآخر بعده فاختلف السلف والخلف في ذلك اختلافا كثيرا .

فقالت طائفة : متى أسلمت المرأة انفسخ نكاحها منه ، سواء كانت كتابية ، أو غير كتابية ، وسواء أسلم بعدها بطرفة عين ، أو أكثر ، ولا سبيل له عليها إلا بأن يسلما معا في آن واحد ، فإن أسلم هو قبلها انفسخ نكاحها [ ص: 642 ] ساعة إسلامه ، ولو أسلمت بعده بطرفة عين ، هذا قول جماعة من التابعين وجماعة من أهل الظاهر ، وحكاه أبو محمد بن حزم ، عن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله ، وعبد الله بن عباس ، وحماد بن زيد والحكم بن عتيبة ، وسعيد بن جبير ، وعمر بن عبد العزيز ، والحسن البصري ، وعدي بن عدي ، وقتادة ، والشعبي .

[ ص: 643 ] قلت : وحكاية ذلك عن عمر بن الخطاب غلط عليه ، أو يكون رواية عنه ، فسنذكر من آثار عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خلاف ذلك مما ذكره أبو محمد ، وغيره ، فهذا قول .

وقال أبو حنيفة : أيهما أسلم قبل الآخر ، فإن كان في دار الإسلام عرض الإسلام على الذي لم يسلم ، فإن أسلما بقيا على نكاحهما ، وإن أبيا فحينئذ تقع الفرقة ، ولا تراعى العدة في ذلك .

ثم اختلفوا فقال أبو حنيفة ومحمد : الفسخ هاهنا طلاق ؛ لأن الزوج ترك الإمساك بالمعروف مع القدرة عليه ، فينوب القاضي منابه في التسريح بالإحسان ، فيكون قوله كقول الزوج .

وقال أبو يوسف : لا يكون طلاقا ؛ لأنه سبب يشترك فيه الزوجان ، فلا يكون طلاقا ، كما لو ملكها أو ملكته ، فلو كانت المرأة مجوسية كانت الفرقة فسخا قولا واحدا .

قالوا : والفرق أن المجوسية ليست من أهل الطلاق بخلاف الذمية ، وإن [ ص: 644 ] كانا في دار الحرب فخرجت المرأة إلينا مسلمة ، أو معاهدة ، فساعة حصولها في دار الإسلام تقع الفرقة بينهما ، لا قبل ذلك ، فإن لم تخرج من دار الحرب ، بأن حاضت ثلاث حيض قبل أن يسلم هو وقعت الفرقة حينئذ ، وعليها أن تبتدئ ثلاث حيض أخر عدة منه ، وهل هذه الفرقة فسخ أو طلاق ؟

فيه عن أبي حنيفة روايتان ، وهي فسخ عند أبي يوسف ، ولو أسلم الآخر قبل مضي ثلاث حيض فهما على نكاحهما ، فهذا قول ثان .

وقال مالك : إن أسلمت المرأة ، ولم يسلم الرجل ، فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة ، وإن كان بعده فإن أسلم في عدتها فهما على نكاحهما ، وإن لم يسلم حتى انقضت عدتها فقد بانت منه ، فإن أسلم هو ولم تسلم هي عرض عليها الإسلام ، فإن أسلمت بقيا على نكاحهما وإن أبت انفسخ النكاح ساعة إبائها ، سواء كان قبل الدخول أو بعده .

وقال أشهب : إنما تتعجل الفرقة إذا كان قبل الدخول ، وتقف على العدة إن كان بعد الدخول .

ثم قال ابن القاسم : إذا عقل عنها حتى مضى لها شهر وما قرب منه ، وليس بكثير وهما على نكاحهما ، والفرقة حيث وقعت فسخ .

[ ص: 645 ] وعن ابن القاسم رواية أخرى : أنها طلقة ثانية ، فهذا قول ثالث .

وقال ابن شبرمة عكس هذا ، وأنها إن أسلمت قبله وقعت الفرقة في الحين ، وإن أسلم قبلها فأسلمت في العدة فهي امرأته ، وإلا وقعت الفرقة بانقضاء العدة ، فهذا قول رابع .

وقال الأوزاعي ، والزهري ، والليث ، والإمام أحمد ، والشافعي ، وإسحاق : إذا سبق أحدهما بالإسلام ، فإن كان قبل الدخول انفسخ النكاح ، وإن كان بعده ، فأسلم الآخر في العدة فهما على نكاحهما ، وإن [ ص: 646 ] انقضت العدة قبل إسلامه انفسخ النكاح ، فهذا قول خامس .

وقال حماد بن سلمة ، عن أيوب السختياني وقتادة ، كلاهما عن محمد بن سيرين ، عن عبد الله بن يزيد الخطمي أن نصرانيا أسلمت امرأته ، فخيرها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إن شاءت فارقته ، وإن شاءت أقامت عليه ، ( وعبد الله بن يزيد الخطمي هذا له صحبة ) ، وليس معناه أنها تقيم تحته ، وهو نصراني ، بل تنتظر ، وتتربص ، فمتى أسلم فهي امرأته ، ولو مكثت سنين ، فهذا قول سادس ، وهو أصح المذاهب في هذه المسألة ، وعليه تدل السنة كما سيأتي بيانه ، وهو اختيار شيخ الإسلام .

وقال حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال في الزوجين الكافرين يسلم أحدهما : هو أملك ببضعها ما دامت في دار هجرتها .

وقال سفيان بن عيينة ، عن مطرف بن طريف ، عن الشعبي ، عن علي : هو [ ص: 647 ] أحق بها ما لم تخرج من مصرها . فهذا قول سابع .

وقال ابن أبي شيبة : ثنا معتمر بن سليمان ، عن معمر ، عن الزهري : إن أسلمت ولم يسلم زوجها فهما على نكاحهما ما لم يفرق بينهما سلطان ، فهذا قول ثامن .

وقال داود بن علي : إذا أسلمت زوجة الذمي ولم يسلم فإنها تقر عنده ولكن يمنع من وطئها .

وقال شعبة : ثنا حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم النخعي في ذمية أسلمت تحت ذمي ، فقال : تقر عنده ، وبه أفتى حماد بن أبي سليمان .

[ ص: 648 ] قلت : ومرادهم أن العصمة باقية ، فتجب لها النفقة والسكنى ، ولكن لا سبيل له إلى وطئها ، كما يقوله الجمهور في أم ولد الذمي إذا أسلمت سواء ، فهذا قول تاسع .

ونحن نذكر مآخذ هذه المذاهب ، وما في تلك المآخذ من قوي وضعيف وما هو الأولى بالصواب .

فأما أصحاب القول الأول - وهم الذين يوقعون الفرقة بمجرد الإسلام - فلا نعلم أحدا من الصحابة قال به ألبتة ، وما حكاه أبو محمد بن حزم ، عن عمر ، وجابر ، وابن عباس فبحسب ما فهمه من آثار رويت عنهم مطلقة ، ونحن نذكرها :

قال شعبة : أخبرني أبو إسحاق الشيباني قال : سمعت يزيد بن علقمة يقول : إن جده وجدته كانا نصرانيين ، فأسلمت جدته ففرق عمر بن الخطاب [ ص: 649 ] بينهما .

وليس في هذا دليل على تعجل الفرقة مطلقا بنفس الإسلام ، فلعله لم يكن دخل فيها ، أو لعله فرق بعد انقضاء العدة ، أو لعلها اختارت الفسخ دون انتظار إسلامه ، أو لعل هذا مذهب من يرى أن النكاح باق حتى يفسخ السلطان .

وقد روي عن عمر في هذا آثار يظن أنها متعارضة ، ولا تعارض بينها ، بل هي موافقة للسنة ، فمنها هذا .

ومنها ما تقدم حكايته عنه أنه خير المرأة ، إن شاءت أقامت عليه ، وإن شاءت فارقته .

ومنها ما رواه ابن أبي شيبة ، عن عباد بن العوام ، عن أبي إسحاق الشيباني ، عن يزيد بن علقمة أن عبادة بن النعمان الثعلبي كان ناكحا امرأة من بني تميم فأسلمت ، فقال له عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : إما أن تسلم وإما أن ننزعها منك ، فأبى ، فنزعها عمر - رضي الله عنه .

[ ص: 650 ] وقد تمسك بها من يرى عرض الإسلام على الثاني ، فإن أبى فرق بينهما .

وهذه الآثار عن أمير المؤمنين لا تعارض بينها ، فإن النكاح بالإسلام يصير جائزا بعد أن كان لازما ، فيجوز للإمام أن يعجل الفرقة ، ويجوز له أن يعرض الإسلام على الثاني ، ويجوز إبقاؤه إلى انقضاء العدة ، ويجوز للمرأة التربص به إلى أن يسلم ، ولو مكثت سنين ، كل هذا جائز لا محذور فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية