صفحة جزء
210 - فصل

الضرب الثاني من البلاد :

[ ما فتح عنوة ]

الأمصار التي أنشأها المشركون ومصروها ، ثم فتحها المسلمون عنوة وقهرا بالسيف ، فهذه لا يجوز أن يحدث فيها شيء من البيع والكنائس .

[ ص: 1199 ] وأما ما كان فيها من ذلك قبل الفتح فهل يجوز إبقاؤه أو يجب هدمه ؟ فيه قولان في مذهب أحمد ، وهما وجهان لأصحاب الشافعي وغيره :

أحدهما : يجب إزالته وتحرم تبقيته ؛ لأن البلاد قد صارت ملكا للمسلمين ، فلم يجز أن يقر فيها أمكنة شعار الكفر ، كالبلاد التي مصرها المسلمون ، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تصلح قبلتان ببلد " . وكما لا يجوز إبقاء الأمكنة التي هي شعار الفسوق كالخمارات والمواخير ، ولأن أمكنة البيع والكنائس قد صارت ملكا للمسلمين ، فتمكين الكفار من إقامة شعار الكفر فيها كبيعهم وإجارتهم إياها لذلك ، ولأن الله تعالى أمر بالجهاد حتى يكون الدين كله له ، وتمكينهم من إظهار شعار الكفر في تلك المواطن جعل الدين له ولغيره ، وهذا القول هو الصحيح .

والقول الثاني : يجوز بناؤها لقول ابن عباس رضي الله عنهما : " أيما مصر مصرته العجم ففتحه الله على العرب فنزلوه فإن للعجم ما في عهدهم " ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح خيبر عنوة وأقرهم على معابدهم فيها ولم يهدمها ، ولأن الصحابة رضي الله عنهم فتحوا كثيرا من البلاد عنوة فلم يهدموا شيئا من الكنائس التي بها .

ويشهد لصحة هذا وجود الكنائس والبيع في البلاد التي فتحت [ ص: 1200 ] عنوة ، ومعلوم قطعا أنها ما أحدثت بل كانت موجودة قبل الفتح .

وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله : " أن لا تهدموا كنيسة ولا بيعة ولا بيت نار " .

ولا يناقض هذا ما حكاه الإمام أحمد أنه أمر بهدم الكنائس ، فإنها التي أحدثت في بلاد الإسلام ، ولأن الإجماع قد حصل على ذلك فإنها موجودة في بلاد المسلمين من غير نكير .

وفصل الخطاب أن يقال : إن الإمام يفعل في ذلك ما هو الأصلح للمسلمين ، فإن كان أخذها منهم أو إزالتها هو المصلحة - لكثرة الكنائس أو حاجة المسلمين إلى بعضها وقلة أهل الذمة - فله أخذها أو إزالتها بحسب المصلحة ، وإن كان تركها أصلح - لكثرتهم وحاجتهم إليها وغنى المسلمين عنها - تركها ، وهذا الترك تمكين لهم من الانتفاع بها لا تمليك لهم رقابها ، فإنها قد صارت ملكا للمسلمين ، فكيف يجوز أن يجعلها ملكا للكفار ؟ وإنما هو امتناع بحسب المصلحة ، فللإمام انتزاعها متى رأى [ ص: 1201 ] المصلحة في ذلك .

ويدل عليه أن عمر بن الخطاب والصحابة معه أجلوا أهل خيبر من دورهم ومعابدهم بعد أن أقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، ولو كان ذلك الإقرار تمليكا لم يجز إخراجهم عن ملكهم إلا برضا أو معاوضة .

ولهذا لما أراد المسلمون أخذ كنائس العنوة التي خارج دمشق في زمن الوليد بن عبد الملك صالحهم النصارى على تركها وتعويضهم عنها بالكنيسة التي زيدت في الجامع ، ولو كانوا قد ملكوا تلك الكنائس بالإقرار لقالوا للمسلمين : كيف تأخذون أملاكنا قهرا وظلما ؟ بل أذعنوا إلى المعاوضة لما علموا أن للمسلمين أخذ تلك الكنائس منهم ، وأنها غير ملكهم كالأرض التي هي بها .

فبهذا التفصيل تجتمع الأدلة ، وهو اختيار شيخنا ، وعليه يدل فعل الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من أئمة الهدى ، وعمر بن عبد العزيز هدم [ ص: 1202 ] منها ما رأى المصلحة في هدمه وأقر ما رأى المصلحة في إقراره .

وقد أفتى الإمام أحمد المتوكل بهدم كنائس السواد وهي أرض العنوة .

التالي السابق


الخدمات العلمية