صفحة جزء
[ ص: 119 ] 3 - فصل

فلنرجع إلى الكلام في أحكام الجزية .

قال تعالى : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون .

فالجزية هي الخراج المضروب على رءوس الكفار إذلالا وصغارا والمعنى : حتى يعطوا الخراج عن رقابهم .

واختلف في اشتقاقها ، فقال القاضي في " الأحكام السلطانية " : اسمها مشتق من الجزاء إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغارا ، أو جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقا .

قال صاحب " المغني " : هي مشتقة من جزاه بمعنى قضاه لقوله : لا تجزي نفس عن نفس شيئا ، فتكون الجزية مثل الفدية .

قال شيخنا : والأول أصح ، وهذا يرجع إلى أنها عقوبة أو أجرة .

وأما قوله : عن يد ، فهو في موضع النصب على الحال : أي يعطوها أذلاء مقهورين هذا هو الصحيح في الآية .

وقالت طائفة : المعنى من يد إلى يد نقدا غير نسيئة .

[ ص: 120 ] وقالت فرقة : من يده إلى يد الآخذ لا باعثا بها ولا موكلا في دفعها .

وقالت طائفة : معناه عن إنعام منكم عليهم بإقراركم لهم وبالقبول منهم ، والصحيح القول الأول وعليه الناس .

وأبعد كل البعد ولم يصب مراد الله من قال : المعنى : عن يد منهم ، أي عن قدرة على أدائها فلا تؤخذ من عاجز عنها ، وهذا الحكم صحيح وحمل الآية عليه باطل ، ولم يفسر به أحد من الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة وإنما هو من حذاقة بعض المتأخرين .

وقوله تعالى : وهم صاغرون ، حال أخرى ، فالأول حال المسلمين في أخذ الجزية منهم ، أن يأخذوها بقهر وعن يد ، والثاني حال الدافع لها أن يدفعها وهو صاغر ذليل .

واختلف الناس في تفسير ( الصغار ) الذي يكونون عليه وقت أداء الجزية فقال عكرمة : أن يدفعها وهو قائم ، ويكون الآخذ جالسا .

وقالت طائفة : أن يأتي بها بنفسه ماشيا لا راكبا ، ويطال وقوفه عند إتيانه بها ويجر إلى الموضع الذي تؤخذ منه بالعنف ثم تجر يده ويمتهن .

وهذا كله مما لا دليل عليه ولا هو مقتضى الآية ولا نقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا عن الصحابة أنهم فعلوا ذلك .

[ ص: 121 ] والصواب في الآية أن الصغار هو التزامهم لجريان أحكام الملة عليهم ، وإعطاء الجزية فإن التزام ذلك هو الصغار .

وقد قال الإمام أحمد في رواية حنبل : كانوا يجرون في أيديهم ويختمون في أعناقهم إذا لم يؤدوا الصغار الذي قال الله تعالى : وهم صاغرون .

وهذا يدل على أن الذمي إذا بذل ما عليه والتزم الصغار لم يحتج إلى أن يجر بيده ويضرب .

وقد قال في رواية مهنا بن يحيى : يستحب أن يتعبوا في الجزية .

قال القاضي : ولم يرد تعذيبهم ولا تكليفهم فوق طاقتهم وإنما أراد الاستخفاف بهم وإذلالهم .

قلت : لما كانت يد المعطي العليا ، ويد الآخذ السفلى احترز الأئمة أن يكون الأمر كذلك في الجزية ، وأخذوها على وجه تكون يد المعطي السفلى ويد الآخذ العليا .

قال القاضي أبو يعلى : وفي هذا دلالة على أن هؤلاء النصارى الذين يتولون أعمال السلطان ويظهر منهم الظلم والاستعلاء على المسلمين وأخذ الضرائب لا ذمة لهم وأن دماءهم مباحة ; لأن الله تعالى وصفهم [ ص: 122 ] بإعطاء الجزية على وجه الصغار والذل .

وهذا الذي استنبطه القاضي من أصح الاستنباط ؛ فإن الله سبحانه وتعالى مد القتال إلى غاية وهي إعطاء الجزية مع الصغار ، فإذا كانت حالة النصراني وغيره من أهل الجزية منافية للذل والصغار فلا عصمة لدمه ولا ماله وليست له ذمة ، ومن هاهنا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط التي فيها صغارهم وإذلالهم ، وأنهم متى خرجوا عن شيء منها فلا عهد لهم ولا ذمة ، وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل الشقاق والمعاندة .

وسنذكر إن شاء الله في آخر الجواب الشروط العمرية وشرحها .

التالي السابق


الخدمات العلمية