الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          4 - فصل

                          [ ليست الجزية أجرة عن سكنى الدار ]

                          قد تبين بما ذكرنا أن الجزية وضعت صغارا وإذلالا للكفار لا أجرة عن سكنى الدار ، وذكرنا أنها لو كانت أجرة لوجبت على النساء والصبيان والزمنى والعميان ، ولو كانت أجرة لما أنفت منها العرب من نصارى بني تغلب وغيرهم والتزموا ضعف ما يؤخذ من المسلمين من زكاة أموالهم ، ولو كانت أجرة لكانت مقدرة المدة كسائر الإجارات ، ولو كانت أجرة لما وجبت بوصف الإذلال والصغار ، ولو كانت أجرة لكانت مقدرة بحسب المنفعة ، فإن سكنى الدار قد تساوي في السنة أضعاف الجزية المقدرة ، ولو [ ص: 123 ] كانت أجرة لما وجبت على الذمي أجرة دار أو أرض يسكنها إذا استأجرها من بيت المال ، ولو كانت أجرة لكان الواجب فيها ما يتفق عليه المؤجر والمستأجر .

                          وبالجملة ففساد هذا القول يعلم من وجوه كثيرة .



                          [ مقدار الجزية : ]

                          وقد اختلف أئمة الإسلام في تقدير الجزية ، فقال الشافعي رحمه الله تعالى : ويجعل على الفقير المعتمل دينار ، وعلى المتوسط ديناران وعلى الغني أربعة دنانير .

                          وأقل ما يؤخذ دينار وأكثره ما وقع عليه التراضي ، ولا يجوز أن ينقص من دينار .

                          وقال أصحاب مالك : أكثر الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على أهل الورق ولا يزاد على ذلك ، فإن كان منهم ضعيف خفف عنه بقدر ما يراه الإمام .

                          وقال ابن القاسم : لا ينقص من فرض عمر رضي الله عنه لمعسر ولا يزاد عليه لغني .

                          وقال القاضي أبو الحسن : لا حد لأقلها قال : وقيل أقلها دينار أو عشرة دراهم .

                          [ ص: 124 ] وقال أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله تعالى : يوضع على الغني ثمانية وأربعون درهما ، وعلى المتوسط أربعة وعشرون ، وعلى الفقير اثنا عشر .

                          ثم اختلفوا في حد الغني والفقير والمتوسط .

                          قالوا : والمختار أن ينظر في كل بلد إلى حال أهله وما يعتبرونه في ذلك فإن عادة البلاد في ذلك مختلفة .

                          وأما الإمام أحمد رحمه الله تعالى فقد اختلفت الرواية عنه ، فنقل أكثر أصحابه عنه أنها مقدرة الأقل والأكثر ، فيؤخذ من الفقير المعتمل اثنا عشر درهما ، ومن المتوسط أربعة وعشرون ، ومن الموسر ثمانية وأربعون .

                          قال حرب في " مسائله " : سألت أبا عبد الله قلت : خراج الرءوس إذا كان الذمي غنيا ؟ قال : ثمانية وأربعون درهما ، قلت : فإن كان دون ذلك ؟ قال : أربعة وعشرون ، قلت : فإن كان دون ذلك ؟ قال : اثنا عشر ، قلت : فليس دون اثني عشر شيء ؟ قال : لا .

                          [ ص: 125 ] وقال في رواية ابنه صالح وإبراهيم بن هانئ وأبي الحارث : أكثر ما يؤخذ في الجزية ثمانية وأربعون ، والمتوسط أربعة وعشرون ، والفقير اثنا عشر ، زاد في رواية أبي الحارث : أن عمر ضرب على الغني ثمانية وأربعين وعلى الفقير اثني عشر .

                          قال الخلال : والذي عليه العمل من قول أبي عبد الله أن للإمام أن يزيد في ذلك وينقص وليس لمن دونه أن يفعل ذلك .

                          وقد روى يعقوب بن بختان خاصة عن أبي عبد الله أنه لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك .

                          وروى عن أبي عبد الله أصحابه في عشرة مواضع أنه لا بأس بذلك .

                          قال : ولعل أبا عبد الله تكلم بهذا في وقت ، والعمل من قوله على ما رواه الجماعة أنه لا بأس للإمام أن يزيد في ذلك وينقص ، وقد أشبع الحجة في ذلك .

                          وقال الأثرم : سمعت أبا عبد الله يسأل عن الجزية كم هي ؟ قال : وضع [ ص: 126 ] عمر رضي الله عنه ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثني عشر ، قيل له : كيف هذا ؟ قال : على قدر ما يطيقون ، قيل : فيزداد في هذا اليوم وينقص ؟ قال : نعم ، يزاد فيه وينقص على قدر طاقتهم ، وعلى قدر ما يرى الإمام .

                          وقال أبو طالب : سألت أبا عبد الله عن حديث عثمان بن حنيف تذهب إليه بالجزية ؟ قال : نعم ، قلت : ترى الزيادة ؟ قال : لمكان قول عمر رضي الله عنه فإن زاد فأرجو أن لا بأس إذا كانوا مطيقين مثل ما قال عمر رضي الله عنه .

                          وقال أحمد بن القاسم : سئل أبو عبد الله عن جزية الرءوس ، وقيل له : بلغك أن عمر رضي الله عنه جعلها على قدر اليسار من أهل الذمة اثني عشر وأربعة وعشرين وثمانية وأربعين ؟ قال : على قدر طاقتهم ، فكيف يصنع به إذا كان فقيرا لا يقدر على ثمانية وأربعين ؟

                          [ قال : إنما هو على قدر الطاقة ، [ ص: 127 ] قيل : فيزاد عليهم أكثر من ثمانية وأربعين ؟ ] قال : على حديث الحكم عن عمرو بن ميمون أنه قال : والله إن زدت عليهم درهمين لا يجهدهم ، قال : وكانت ثمانية وأربعين فجعلها خمسين ، قال : ولم يبين قوله من الزيادة أكثر من هذا .

                          قلت لأبي عبد الله : يحكى عن الشافعي أنه قال : إذا سأل أهل الحرب [ ص: 128 ] أن يؤدوا إلى الإمام عن رءوسهم دينارا لم يجز له أن يحاربهم ; لأنهم قد بذلوا ما حد النبي - صلى الله عليه وسلم - . فأعجبه هذا وفكر فيه ثم تبسم وقال : مسألة فيها نظر .

                          وقال صالح بن أحمد : سألت أبي أي شيء تذهب في الجزية ؟ قال : أما أهل الشام فعلى ما وصف عمر رضي الله عنه أربعة دنانير وكسوة وزيت ، وأما أهل اليمن فعلى كل حالم دينار : وأما أهل العراق فعلى ما يؤخذ منهم .

                          وقال الأثرم لأبي عبد الله : على أهل اليمن دينار ، شيء لا يزاد عليهم ؟

                          قال : نعم ، قيل له : ولا يؤخذ منهم ثمانية وأربعون ؟ قال : كل قوم على سننهم ، ثم قال : أهل الشام خلاف غيرهم أيضا ، وكل قوم على ما قد جعلوا عليه .

                          فقد ضمن مذهبه أربع روايات .

                          إحداها : أنه لا يزاد فيها ولا ينقص على ما وضعه عمر رضي الله عنه .

                          والثانية : تجوز الزيادة والنقصان على ما يراه الإمام ، قال الخلال : وهو الذي عليه العمل .

                          والثالثة : تجوز الزيادة دون النقصان .

                          والرابعة : أن أهل اليمن خاصة لا يزاد عليهم ولا ينقص .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية